رسائل المنابر:

الأبعاد المختلفة لتوظيف خطب الجمعة في الشرق الأوسط

06 February 2017


بات أحد أبرز الاتجاهات المتصاعدة داخل وزارات أو هيئات الأوقاف والشئون الإسلامية في عدد من دول الإقليم، خلال السنوات الماضية، يتمثل في إضفاء طابع سياسي على أدوار المنابر الدينية وخطب الجمعة، حيث أصبحت تلك المنابر والخطب، في بعض الحالات، تعكس اتجاهات التفاعلات الداخلية الجارية، كما بدأت بعض الأطراف في توظيفها في تأجيج الخلافات المذهبية، وتعميق الانقسامات المجتمعية.

في مقابل ذلك برزت، في حالات أخرى، نواحٍ إيجابية لتلك الخطب في تعميق اللحمة الوطنية، ومواجهة الدعوة للانخراط في الأعمال الإرهابية في الشرق الأوسط، ومكافحة انتشار الفساد، وهو ما يستند إلى ملاحظات مباشرة واقتباسات من وسائل إعلامية، وليست مسوحًا ميدانية دقيقة، وبحوثًا علمية قائمة على منهجية تحليل المضمون أو تحليل الخطاب.

 وتُمثل خطبة الجمعة في الدول العربية والإسلامية بالإقليم، وسيلة ناجعة لتوعية المواطنين بالقضايا الحياتية، غير أن مضمون الكثير من الخطب بالمساجد صار "سياسيًّا" أكثر منه "دينيًّا" في حالات معينة. وقد برزت مؤشرات محددة لأبعاد جديدة تطرق إليها خطباء الجمعة بدول الشرق الأوسط، وذلك على النحو التالي:

1- توجيه انتقادات للحكومات: وجه نائب الأمين العام لهيئة شئون الأنصار، آدم أحمد يوسف، انتقادات واسعة للحكومة السودانية، وذلك خلال خطبة الجمعة التي ألقيت في 6 يناير 2017 في مسجد الأنصار (الذي يخرج عن سيطرة الحكومة السودانية، ويتبع حزب الأمة المعارض بقيادة الصادق المهدي)، إذ أشار إمام المسجد إلى ارتفاع جنوني في سلع ضرورية يستهلكها المواطنون يوميًّا، مثل الخبز والسكر واللحوم وغاز طهى الطعام ووقود السيارات. 

ووفقًا لقوله: "لم تكتف الحكومة برفع الأسعار، بل استمرت في مطاردةٍ وملاحقةٍ كل المواطنين العاملين في الأسواق العامة، بما في ذلك النساء والصبية"، ووصف آدم يوسف التعليم بأنه من "أفشل أنواع التعليم في العالم"، وأضاف: "أغلقت كل المستشفيات الحكومية، وتأسست مستشفيات خاصة تجارية، وأصبح المسئولون الحكوميون هم المستثمرين في مجالي الصحة والتعليم"، وهو ما يفسر أسباب الدعوة لـ"ثورة الجياع" في السودان خلال الثلث الأخير من عام 2016.

لذا تحرص الولايات السودانية على مواجهة محاولات الخروج عن السياق العام وتوجيه انتقادات لنظام البشير. وفي هذا السياق، أشار رئيس المجلس الأعلى للدعوة والإرشاد بولاية الخرطوم، بدر الدين طه، في قناة "العربية" الفضائية في 27 يونيو 2015، إلى "وجود أئمة مساجد منفلتين يخرجون عن المسار العام واللياقة على منابر خطب الجمعة، حيث تم إعفاء عدد منهم"، موضحًا أن "خطب الجمعة يُفترض ألا تخلو من التوعية والنصيحة لولى أمر المسلمين وكافة المسئولين، وأن يكون ذلك في إطار الكتاب والسنة".

على جانب آخر، هناك خطب جمعة مقابلة تحاول دعم سياسة الحكومة السودانية، مثل تسليط الضوء على أداء منظمات المجتمع المدني والعون الإنساني داخل المجتمع السوداني، أو تناول أزمات الداخل السوداني في إطار تحديات الدول الإسلامية، على نحو ما برز في خطبة الجمعة للشيخ محمد جامع مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير/ ولاية السودان في 13 يناير 2017 عن "لماذا أزمة الحكم في بلاد المسلمين؟".

مساجد التشدد:

2- فرض فئة الأئمة المتشددين: شهدت تونس خلال السنوات الماضية تمدد جماعات إسلامية متشددة، من بينها جماعة "أنصار الشريعة" التي استولت على المساجد في الأحياء الشعبية، مثل حى "ابن خلدون" و"الانطلاقة" و"التضامن" و"دوار هيشر" و"السيجومي" و"وادي الليل" و"الملاسين" و"هلال"، حيث تحاول تلك الجماعات فرض الأئمة الذين تم عزلهم من المساجد بالقوة، وعدم الالتزام بالتعيينات الصادرة من قبل وزارة الشئون الدينية، والالتفاف على القرارات الحكومية للإبقاء على مساجد التشدد والكراهية.

ففي أكتوبر 2016، منع أنصارُ الإمام رضا الجوادي (وهو محسوب على حركة النهضة، وتثير آراؤه دومًا جدلا واسعًا، وقد عزلته السلطات الدينية التونسية في سبتمبر الماضي بسبب تنظيمه اجتماعات نقابية دون ترخيص قانوني) الإمامَ الجديد الذي عينته وزارة الشئون الدينية من اعتلاء منبر جامع سيدي اللخمي في مدينة صفاقس لإلقاء خطبة الجمعة. وقد تجمع هؤلاء أمام مقر "الاتحاد التونسي للشغل" الذي يبعد ما يقرب من 100 متر عن الجامع، ورددوا شعارات مناهضة لوزير الشئون الدينية عثمان بطيخ، مثل "بطيخ.. ارحل"، و"الشعب مسلم ولن يستسلم"، و"الشعب يريد الجوادي من جديد"، و"بالروح بالدم نفديك يا جوادي".

مذهبية الخطب:

3- دعم الميليشيات المسلحة: تم توظيف خطب الجمعة في بعض الدول، خلال الشهور الماضية، لتأييد الجيوش الموازية العابرة لحدود دول الإقليم. فقد دعا ممثلو المرجع الديني الشيعي العراقي علي السيستاني في خطب الجمعة إلى دعم مقاتلي ميليشيا "الحشد الشعبي" حتى تضطلع بدور حاسم في المعركة ضد تنظيم "داعش"، لا سيما مع عجز القوات الأمنية والعسكرية النظامية عن أداء دورها في الدفاع عن البلاد، وهو ما يقود تباعًا إلى تكريس النفوذ الإيراني في العراق.

كما فرض الحوثيون موالين لهم لأداء خطب الجمعة وتوظيفها في تأجيج الصراع الداخلي اليمني، على نحو ما حدث في  يناير 2017 في جامع "الرحمن" (العيسى) وسط مدينة الحديدة، مما دفع المصلين إلى مغادرة المسجد اعتراضًا على سوء أداء هذا الخطيب أو ذاك، وهو ما قابله الحوثيون بالتعدي على بعضهم، وكذلك لجئوا إلى منع بعض الأئمة من إلقاء خطب الجمعة في مناطق سيطرتهم. لذلك كانت مقاطعةُ المساجد التي يسيطر عليها الحوثيون في كل الصلوات إحدى أقوى وأبرز آليات الحركات الاحتجاجية باليمن.

غياب التنسيق المؤسسي:

4- تباين رؤى المؤسسات الدينية: برز ملمح عدم التوافق بين المؤسسات التي تدير تنظيم إلقاء الخطب والشئون الدينية في بعض دول الإقليم، حيث دعت وزارة الأوقاف المصرية إلى تطبيق الخطبة المكتوبة في يوليو 2016، وألزمت كل إمام بأن تكون خطبته من ورقة يمسك بها، وتتركز على موضوع محدد وموحد تقره الوزارة على كل الخطباء في كل المساجد، وهو ما صرح وزير الأوقاف محمد مختار جمعة بأنه توجه يعبر عن "مصلحة وطنية شرعية". في حين رفضت "هيئة كبار العلماء" بالإجماع مثل هذا التوجه، وهو ما يتوافق، في رؤيتها، مع المادة "7" من الدستور التي تنص على أن الأزهر هو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية، وأنه يتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين. واضطرت وزارة الأوقاف إلى إعلان أن هذا القرار يخصها وحدها، وأصدرت لجنة الشئون الدينية والأوقاف بمجلس النواب، في 19 يوليو 2016، بيانًا قالت فيه: "إن موضوع الخطبة المكتوبة ما زال في مرحلة الدراسة والتجريب حتى تتضح الإيجابيات من السلبيات، وذلك دون إجبار".

5- إثارة جدل حول العلاقات البينية الإقليمية: لم يقتصر تأثير الخطب على الداخل، بل امتد للعلاقات بين الدول، حيث استقال أحمد هليل قاضي القضاة في الأردن (وهي دائرة حكومية تتولى الإشراف على المحاكم الشرعية، وترتبط مباشرة برئيس الوزراء) من كافة مناصبه (شغل منصب إمام الحضرة الهاشمية، وهو منصب شرفي في الديوان الملكي، كما كان وزيرًا للأوقاف) على خلفية خطبة الجمعة الملقاة في 20 يناير 2017 التي طالب فيها دول الخليج بالدعم المالي للأردن؛ إذ اعتبر أن "قيامها بحماية الأردن واجب عربي وإسلامي"، لا سيما في ظل المخاطر الإقليمية التي تحيط بالأردن، وتداعيات أزمة اللاجئين السوريين. 

وقال هليل في هذا السياق: "أخاطب بصفتي إمامًا للأمة وعالمًا من علمائها قادةَ وملوكَ وأمراءَ الخليج وحكامَها وحكماءَها، ونقدر لهم مواقفهم التي وقفوها معنا على طول الأيام، وأقولها لكم بلغ السيل الزبى.. إخوانكم في الأردن ضاقت الأخطار حولهم واشتدت". وأضاف: "إخوانكم في الأردن لكم سند وظهر وعون ونصير ظهر لكم، لقد ضاقت بإخوانكم الأردنيين الأمور، حذار ثم حذار أن يضعف الأردن، والأمور أخطر من أن توصف"، وهو ما اعتبره البعض تدخلا في الشئون السياسية، فيما وجه البعض الآخر انتقادات شديدة له. وقد وافق الملك عبدالله الثاني على تعيين عبدالكريم الخصاونة بديلا لهليل في منصب قاضي القضاة.

كما كان خطباء الجمعة في طهران يحذرون المملكة العربية السعودية، خلال عام 2015، من تنفيذ حكم إعدام نمر باقر النمر، على نحو يبرز التدخل الإيراني في الشئون الداخلية السعودية وفي أحكام قضائها.

وعلى الرغم من الأبعاد السياسية السلبية الوارد ذكرها في خطب الجمعة في بعض دول الإقليم، فإن هناك أبعادًا مقابلة إيجابية، تتمثل فيما يلي:

1- تأكيد الوحدة الوطنية: تهدف بعض خطب الجمعة إلى تعزيز اللحمة الوطنية، ومواجهة الانقسامات المجتمعية، لا سيما في الدول التعددية. وتسعى خطب الجمعة في عدد من دول الخليج -مثل الكويت والبحرين- إلى التأكيد على الوحدة الوطنية، ومنع إثارة الانقسامات الطائفية، وهو ما برز جليًّا خلال العامين الماضيين في أعقاب هجوم تنظيم "داعش" على مسجد الإمام الصادق بالكويت، في يونيو 2015، ومحاولة إشعال فتيل الاحتجاجات الشيعية في البحرين.

وهنا صرّح وزير العدل والشئون الإسلامية والأوقاف البحريني خالد بن علي آل خليفة، لوكالة أنباء البحرين في 2 يوليو 2015، بأن "الصلاة الموحدة التي أُقيمت الجمعة جسّدت الروح البحرينية الإسلامية الجامعة، التي تشكل نموذجًا في وحدة الصف بوجه المتآمرين ضد الأمة العربية والإسلامية". 

المسجد الجامع:

2- مواجهة الأفكار المتطرفة: تستغل التنظيمات الإرهابية -على غرار "داعش"- منابر المساجد للترويج للأفكار الجهادية، وتجنيد المزيد من المقاتلين لتنفيذ عمليات إرهابية. وفي هذا السياق، بدأت وزارة الأوقاف الأردنية، في منتصف العام الماضي، العمل في مشروع "المسجد الجامع" الذي يهدف إلى جمع أكبر عدد من المصلين في مكان واحد، وتحديد خطب الجمعة لمواجهة الفكر المتطرف، وتوفير الأئمة المدربين والمؤهلين لاعتلاء المنبر، وفقًا لما أعلنه وزير الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية الدكتور وائل عربيات، نظرًا لخلو بعض المساجد الصغيرة من أعداد كافية من المصلين، فضلا عن نقص أعداد الأئمة. كما تطرقت خطبة الجمعة في الكويت، في 13 يناير 2017، إلى "براءة الدين من تطرف المعتدين".

فضلا عن ذلك، دعت وزارة الشئون الدينية والأوقاف الجزائرية، في بيان صادر في 21 مارس 2016، أئمة المساجد إلى "تخصيص فقرات من خطبة الجمعة لدعوة المواطنين، دون تهويل، إلى إدراك ما يحيط بالبلاد من مخاطر، ويحدق بها من أهوال، وحثهم على الدفاع عن الوحدة الوطنية، وتمكين حب الوطن من قلوب بناتهم وأبنائهم، وحمايتهم من الأفكار الدخيلة والطائفية الهدامة المفرقة للصفوف، وكذا دعوة المواطنين إلى الالتفاف حول قياداتنا الوطنية الرشيدة".

دعم الاستقرار:

3- إدانة أعمال الشغب: استجابت كل مساجد الجزائر، في 6 يناير 2017، لتعليمات وزير الشئون الدينية والأوقاف محمد عيسى التي أوعزت إلى الأئمة بتوحيد خطبة الجمعة وجعلها بعنوان "الأمن والاستقرار في الجزائر"، وتضمينها محاور مشتركة للتنديد بأعمال الشغب التي شهدتها عدة مدن جزائرية، مثل ولاية بجاية منذ أسابيع قليلة، فضلا عن التأكيد على أهمية دعم الاستقرار في سياق إقليمي فوضوي. وشددت على الأئمة وجوب تذكير الجزائريين بمفاسد العبث بأمن البلاد، وتحذيرهم من الدعوات التي تثير الفتن. 

4- نصرة الشعوب المنكوبة: دعت المديرية العامة للأوقاف الإسلامية في لبنان أئمة وخطباء المساجد لتخصيص خطبة الجمعة في 6 مايو 2016 للحديث عما يجري من مجازر في حلب وقتل وتدمير وتهجير. كما أوعزت رئاسة الشئون الدينية التركية لخطباء الجمع، في 10 ديسمبر 2016، بأن تكون الأوضاع في حلب موضوعًا رئيسيًّا في خطب المساجد في كل أنحاء تركيا.

5- مكافحة حالات الفساد: خُصصت خطبة جمعة موحدة في المساجد التونسية، في 9 ديسمبر 2016، لحث المواطنين على التبليغ عن الفساد، مع التأكيد على دور مكافحة الفساد في الشريعة الإسلامية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الفساد، وهو التاريخ ذاته الذي تحتفل فيه تونس بيومها الوطني. كما سبق وتعاونت منظمة "أنا يقظ" كمؤسسة للمجتمع المدني مع وزارة الشئون الدينية التونسية لتنظيم خطبة الجمعة ضد الفساد في كامل أنحاء تونس في 15 يوليو 2016.

خطبة إلكترونية:

لم يتوقف تأثير خطب الجمعة عند المنابر في المساجد، بل امتد إلى نوافذ التكنولوجيا عبر اللجوء إلى ما يُعرف بخطبة الجمعة الإلكترونية. فنظرًا لمنع إلقائها في المسجد، لجأ الكاتب الفلسطيني وليد الهودلي إلى بث خطبة الجمعة التي كان سيلقيها بأحد مساجد رام الله وسط الضفة الغربية، في 27 أغسطس 2016، عبر موقِعَيْ "فيسبوك" و"تويتر"، بعنوان "فضيلة الشيخ"، والتي تحدث فيها عن تراجع مكانة وتأثير خطباء المساجد.

وهنا تجدر الإشارة إلى ما وجهته دائرة أوقاف رام الله للهودلي، من أنه "خرج عن الخط الديني للخطبة المتعلقة بمفهوم وفلسفة الحج، واتجه بها إلى منحى سياسي"، حيث تُتيح وزارة الأوقاف الفلسطينية الخطابة لخطباء معتمدين لديها تطوعًا ضمن شروط الالتزام بموضوع الخطبة الذي تحدده، وكذلك بالسياسة العامة للوزارة، وتكون لهم صلاحية التوسع ضمن العنوان المحدد.

توظيف مزدوج:

خلاصة القول، إنه في مقابل الأبعاد الإيجابية لخطب الجمعة في بعض دول الإقليم، فإن هناك حالات أخرى تشهد توظيفًا سياسيًّا حزبيًّا أو مذهبيًّا للمنبر، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة لمنظومة الوعظ والإرشاد واختيار خطب مناسبة تتلاءم مع مستجدات العصر واحتياجات المجتمع، وهى المعادلة الصعبة التي يجب التعامل معها بشكل جاد خلال المرحلة القادمة.