صراع جيوسياسي:

لماذا تتزايد أهمية "المدن الصغيرة" في دول الأزمات؟

14 December 2016


رغم أن معظم القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات منطقة الشرق الأوسط تركز في الفترة الحالية على المعارك الكبرى التي تجري حول بعض المدن الرئيسية، على غرار مدينة حلب السورية، التي باتت تمثل إحدى أهم مناطق الصراع بين النظام السوري وقوى المعارضة المسلحة، ومدينة الموصل العراقية التي تسعى الحكومة العراقية وبعض الميليشيات المسلحة إلى استعادتها من تنظيم "داعش"، إلا أن ذلك لا ينفي أن بعض المدن الصغيرة، التي لم تكن تمثل محورًا لتلك الصراعات خلال الفترة الماضية، باتت تكتسب اهتمامًا خاصًا من جانب تلك القوى، لاعتبارات استراتيجية عديدة، يتمثل أبرزها في ارتباط تلك المدن بالمشروعات الإقليمية التي تتبناها بعض القوى الإقليمية والميليشيات المسلحة التي تسعى إلى تكريس مكاسبها الاستراتيجية من تلك الصراعات.

نماذج متعددة:

وفي هذا السياق، تمثل مدينة تلعفر العراقية، إحدى المدن التي لم تكن تحظى باهتمام خاص خلال الفترة الماضية، لكنها تحولت في الوقت الحالي، إلى أحد محاور الصراع الإقليمي بين بعض القوى، على غرار إيران وتركيا.

إذ أن إيران تعتبرها ذات أهمية استراتيجية بالغة في المعركة القادمة ضد تنظيم "داعش" في معقله الأساسي في مدينة الرقة السورية بعد انتهاء معركة الموصل التي تجري في الفترة الحالية، لا سيما أنها تقع على الطريق الدولي الواصل بين العراق وسوريا، والذي شكل محورًا لوجيستيًّا لتعزيزات التنظيم لدى انطلاق عملية الموصل.

لكن أهمية تلعفر بالنسبة لإيران تتجاوز ذلك بشكل كبير، لتمتد إلى تأسيس ممر إقليمي يصل بين إيران وحلفائها في كل سوريا ولبنان، وتحديدًا نظام بشار الأسد وحزب الله اللبناني، ربما استعدادًا للمسارات المحتملة التي قد ينتهي إليها الصراع في سوريا، والتي سوف تؤثر بشكل مباشر على مصالح إيران وطموحاتها في ممارسة دور بارز على الساحة الإقليمية.

ووفقًا لتقارير عديدة، فإن هذا الممر يبدأ داخل العراق عند الحدود مع إيران وتحديدًا من محافظة ديالي، ويمر عبر شمال شرق تكريت ثم ينتهي في تلعفر التي تقع على الطريق الذي يصل إلى سنجار على الحدود مع سوريا، وهو ما يزيد من أهمية مدينة تلعفر التي باتت تمثل محور الارتكاز الرئيسي لهذا المسار.

ومن هنا، ربما يمكن تفسير أحد أسباب إصرار ميليشيا "الحشد الشعبي"، التي تدعمها إيران بشكل واضح، على المشاركة في عملية تحرير الموصل من تنظيم "داعش"، حيث بدأت خلال الفترة الأخيرة في فتح جبهة جديدة غرب المدينة وصولا إلى تلعفر.

وقد أدى ذلك إلى تصاعد حدة الخلافات بين الأكراد والحكومة المركزية في بغداد، خاصة أن حكومة إقليم كردستان تعتبر مدينة تلعفر امتدادًا طبيعيًّا للإقليم وفق ما أطلق عليه مسعود برزاني "حدود الدم"، في حين تستند الحكومة إلى أن ميليشيا "الحشد الشعبي" أصبحت أحد مكونات القوات المسلحة النظامية، بشكل يعني أن مشاركتها في عملية الموصل باتت تحظى بشرعية قانونية وسياسية، خاصة بعد إقرار قانون "هيئة الحشد الشعبي".

لكن الأهم من ذلك، هو أن إصرار "الحشد الشعبي" على المشاركة في عملية الموصل ألقى الضوء على الصراع الإقليمي "الخفي" بين تركيا وإيران حول مدينة تلعفر تحديدًا. فقد كشفت الأولى عن مخاوفها إزاء احتمال اتجاه تلك الميليشيات إلى تبني مشروع تغيير ديمغرافي يُعيد تمركز الأكراد في تلعفر على حساب الأغلبية التركمانية الغالبة فيها، مستندة إلى أن حزب العمال الكردستاني يتمركز غرب نينوى على محور ذمار – سنجار، وإلى أن هناك تعاونًا بينه وبين "الحشد الشعبي"، وهو ما يزيد، في رؤية أنقرة، من احتمالات تأسيس "تكتل للخصوم" ضدها على هذا المحور. 

وكما تُمثل تلعفر محورًا استراتيجيًّا لإيران، فإنها أيضًا تمثل محورًا استراتيجيًّا بالنسبة لتركيا، حيث تربطها بالعراق عبر بوابة "أوفاكوي" الحدودية، والتي أنشأتها تركيا من أجل تعزيز قدرة التركمان على موازنة نفوذ الأكراد.

ومن هنا، هددت تركيا بالتدخل العسكري في عملية تحرير الموصل في حالة ما إذا شاركت ميليشيا "الحشد الشعبي" فيها، مبررة ذلك بالانتهاكات التي ارتكبتها تلك الميليشيات في المناطق التي تمت استعادتها من "داعش" في الفترة الماضية، على غرار تكريت والفلوجة، حيث أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 30 أكتوبر 2016، إلى أنه "سيكون هناك رد مختلف في حالة ما إذا أشاعت الفصائل المسلحة الشيعية الخوف في مدينة تلعفر"، وهو ما تسبب في تصاعد حدة التوتر بين أنقرة وبغداد، لا سيما بعد الانتقادات التي وجهها أردوغان إلى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي طالب تركيا بسحب قواتها العسكرية من شمال العراق.

قوس كردي:

وفي هذا الإطار أيضًا، تحظى مدينة الباب في سوريا بالأهمية ذاتها، حيث أنها باتت تمثل في الفترة الحالية محورًا رئيسيًا في الصراع بين تركيا والميليشيات الكردية، التي تسعى إلى استثمار تصاعد حدة الأزمة السورية فضلا عن مشاركتها في الحرب ضد تنظيم "داعش" من أجل تأسيس ما يسمى بـ"القوس الكردي" الذي يمتد من كوباني في الشرق ويمر عبر منبج والباب وينتهي في عفرين في الغرب.

ووفقًا لرؤية أنقرة، فإن سيطرة الميليشيات الكردية على مدينة الباب، ضمن مشروع "روج آفا" الذي تتبناه، سوف يشكل حلقة وصل طبيعية مع الأكراد في داخل تركيا، وهو ما لا تقبل به الأخيرة. ومن هنا اعتبرت أنقرة أن الأهداف الرئيسية لعملية "درع الفرات"، التي بدأت مع دخول قواتها الخاصة إلى مدينة جرابلس بريف حلب الشمالي في 24 أغسطس 2016، لا تنحصر فقط في إبعاد التنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم "داعش" عن حدودها لمسافة لا تقل عن 50 كيلو متر، وإنما تمتد أيضًا إلى عرقلة تأسيس هذا "القوس الكردي"، الذي يهدد أمنها ومصالحها بشكل مباشر.

وإلى جانب ذلك، فإن مدينة الباب تمثل محورًا استراتيجيًّا يمكن أن يساعد القوى والميليشيات المسلحة الحليفة لتركيا على تهديد المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري وحلفاءه في حلب، فضلا عن أن السيطرة على تلك المدينة يمكن أن تعرقل أية تفاهمات بين النظام والميليشيات الكردية، والتي تقوم في الأساس على دعم الأكراد للنظام في حلب مقابل دعم الأخير لتقدم ميليشياتهم باتجاه الحدود التركية.

وفي النهاية، ربما يمكن القول إن أهمية المدن الصغيرة في دول الصراعات سوف تتزايد خلال المرحلة القادمة، لا سيما أنها سوف تمثل محاور مهمة في تطور تلك الصراعات، بحكم أنه سيكون لها دور في تحديد توازنات القوى بين الأطراف المنخرطة فيها، والمسارات المحتملة لمشروعاتها الاستراتيجية، خاصة في مرحلة ما بعد انتهاء العمليات العسكرية ضد تنظيم "داعش".