مأزق الشفافية:

كيف يمكن تعزيز الجهود الدولية لمنع الانتشار النووي؟

29 October 2024


عرض: منى أسامة

ثمة مجموعة من المبادرات والإجراءات الدولية الهادفة إلى تقليل أو إزالة الأسلحة النووية من الترسانات العسكرية حول العالم كمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، أو معاهدة تقليل الأسلحة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا؛ وتهدف هذه المبادرات إلى التعاون بين الدول والمنظمات الدولية لتعزيز الأمن والسلام الدوليين؛ وترتب على هذه الجهود انخفاض في الترسانات النووية العالمية بشكلٍ كبير إلى ما يقرب من 13 ألف رأس حربي.

ومع ذلك لا تزال الأسلحة النووية المتبقية في أيدي تسع دول نووية تشكل تهديداً عالمياً وتحدياً لمنع الانتشار؛ إذ تحتفظ كل من الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل بنحو 12100 سلاح نووي، منها 9600 في مخزونات عسكرية نشطة قابلة للاستخدام العملي.  

وفي هذا السياق، قامت "جمعية الحد من الأسلحة" بإصدار ورقة عمل بعنوان "كيفية معالجة جميع الأسلحة النووية؟" في العام 2024، من أجل توضيح التحديات الأساسية التي تواجه الحد من انتشار الأسلحة النووية، كالتوترات الجيوسياسية، والتنافس بين الدول، واقتصار جهود ضبط الأسلحة النووية على الولايات المتحدة وروسيا، بالإضافة إلى قضايا مثل، البرامج النووية في دول معينة؛ ومن ثم فرص إشراك دول مسلحة نووياً إضافية في المبادرات المستقبلية.

وترجع الورقة أهمية مواصلة مفاوضات ضبط الأسلحة النووية إلى عدة أسباب أولها: تعزيز الاستقرار الاستراتيجي؛ أي تعزيز الوضع الذي لا تجد فيه الدول المالكة للأسلحة النووية أي حوافز لاستخدام الأسلحة النووية حتى في ظل وجود أزمة حادة. ثانيها: هو إدارة المنافسة النووية، خاصة بين الدول التي لديها علاقات سياسية متوترة. أما السبب الثالث، فهو الحد من المخاطر النووية وتعزيز الشفافية والقدرة على التنبؤ. وأخيراً، دعم نظام معاهدة منع الانتشار النووي.

تحديات أساسية: 

هناك عدد من التحديات الأساسية التي تواجه المبادرات العالمية من أجل الحد من انتشار الأسلحة النووية، من أبرزها:

- توتر العلاقات الأمريكية الروسية: رفضت روسيا عرضاً أمريكياً في عام 2013 للتفاوض على خفض إضافي بمقدار الثلث في الأسلحة النووية الاستراتيجية المنشورة إلى ما دون المستويات المنصوص عليها في معاهدة ستارت الجديدة، وفي عام 2014، اتهمت الولايات المتحدة روسيا بانتهاك معاهدة القوى النووية متوسطة المدى لعام 1987، من خلال اختبار صاروخ "كروز M7299" الذي يتم إطلاقه من الأرض على نطاقات محظورة بموجب المعاهدة. 

وبعد غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022، أوقفت واشنطن محادثات الاستقرار الاستراتيجي مع موسكو، فضلاً عن تعليق روسيا تنفيذ معاهدة ستارت الجديدة في 2023، والتي تغطي أكثر الأنظمة النووية الأمريكية والروسية تدميراً (الرؤوس الحربية الاستراتيجية المنشورة، الصواريخ البالستية العابرة للقارات المنشورة والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات، القاذفات الثقيلة المنشورة وغير المنشورة المجهزة للأسلحة النووية، القاذفات المنشورة وغير المنشورة للصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات).

- اقتصار المبادرات على الولايات المتحدة وروسيا: تركز غالبية إجراءات الحد من الأسلحة النووية حتى الآن على الولايات المتحدة وروسيا، فهناك العديد من الدول التي تمتلك أسلحة نووية ولا تشارك في هذه الإجراءات؛ ومن ثم لا توجد قواعد واضحة منظمة تتجاوز هاتين الدولتين، وارتباطاً بما سبق تم إطلاق بعض المبادرات لإشراك المزيد من الدول في الجوانب الأساسية لمشروع نزع السلاح النووي. على سبيل المثال، أطلقت وزارة الخارجية الأمريكية ومبادرة التهديد النووي "الشراكة الدولية للتحقق من نزع السلاح النووي"؛ إذ تتعاون 25 دولة في مجموعات عمل فنية لتطوير الأسس الفنية للتحقق من نزع السلاح النووي في المستقبل. ويتراوح نطاق العمل من الأساليب التكنولوجية المبتكرة إلى التنظيم الملموس لمناورات التفتيش والإعلانات، ومعايير التدريب للمفتشين الدوليين، وسيناريوهات نزع السلاح المستقبلية، لكنها لا تزال غير كافية ومنظمة؛ إذ ينبغي أن تصبح موحدة ومنظمة بشكل أكبر وأن تشمل بيانات قابلة للمقارنة. 

- عدم وجود شفافية لدى بعض الدول: تمتلك بعض الدول ثقافات وسياسات مختلفة بشأن الشفافية، إضافة إلى قلقها من أن يؤدي المزيد من الشفافية إلى احتمالية تعرضها للتهديد أو الهجوم من قبل القوى والمنظمات الدولية؛ ومن ثم فالتعتيم يعزز الردع النووي من وجهة نظرها. على سبيل المثال، لا تفضل دولة مثل الصين الشفافية فيما يتعلق بقواتها النووية حتى لا تكون عرضة لضربة من قبل الولايات المتحدة على سبيل المثال، وخلافاً لذلك فإن الشفافية تعكس إرادة الدول المالكة للأسلحة النووية للتحرك نحو التزاماتها بموجب المادة السادسة من معاهدة منع الانتشار النووي. 

خطوات تمهيدية: 

ترى ورقة جمعية الحد من الأسلحة أن هناك بعض الموضوعات التي لا بد من معالجتها قبل التعامل مع الأسلحة النووية ومن أجل التنسيق بين الدول، من أبرزها:

- تحديد ماهية الرؤوس الحربية النووية: الرأس الحربي النووي فنياً هو جهاز عسكري قادر على إنتاج انفجار نووي ويتكون بشكلٍ أساسي من مادة انشطارية نووية ومتفجرات تقليدية وإلكترونيات؛ ومن ثم فمعالجة جميع الرؤوس الحربية النووية من شأنها أن تشمل الرؤوس الحربية الاستراتيجية وغير الاستراتيجية والتشغيلية والمنشورة وغير المنشورة والاحتياطية والمخزنة والمفككة؛ ولذلك تؤكد الورقة ضرورة تحديد موقع "الرأس الحربي النووي" للدولة المالكة للأسلحة النووية. جدير بالذكر أن اتفاقيات الأسلحة النووية القائمة (أو المعلقة) بين الولايات المتحدة وروسيا تقتصر على الرؤوس الحربية الاستراتيجية المنشورة أو الرؤوس الحربية المنسوبة إلى أنظمة التسليم الاستراتيجية. 

- أنظمة التوصيل الاستراتيجية: مثل: القاذفات الثقيلة والصواريخ بعيدة المدى والتي تُستخدم في صوامع أو على منصات إطلاق متحركة أو على متن الغواصات لتوصيل الرؤوس الحربية النووية إلى هدف محدد عابر للقارات. وركزت معاهدات الحد من الأسلحة النووية الثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا في الأصل على الحد من أنظمة التوصيل الاستراتيجية والقاذفات، وأضافت لاحقاً قيوداً على الرؤوس الحربية الاستراتيجية المنسوبة (أي التي يتم تخصيصها لوحدات عسكرية معينة، وتكون مخزنة في مواقع معينة) والرؤوس الحربية الاستراتيجية المنشورة (التي يتم توزيعها على وحدات عسكرية في الميدان أو في مواقع قريبة من مناطق النزاع). 

وفي السياق ذاته، سمحت معاهدتا ستارت الأولى والجديدة لكل من روسيا والولايات المتحدة، باتخاذ خطوات من أجل تحويل القاذفات الثقيلة بحيث تُعد حاملات للأسلحة التقليدية فقط، وترى الورقة أن أي معاهدات مستقبلية تهدف إلى الحد من الأسلحة النووية غير الاستراتيجية، لا بد وأن تتعامل مع أنظمة التوصيل ذات القدرة المزدوجة، التي يمكن تجهيزها برؤوس حربية نووية أو تقليدية؛ ومن ثم تضمين مركبات التوصيل الاستراتيجية التقليدية فضلاً عن الأنواع الجديدة من أنظمة التسليم الاستراتيجية مثل صاروخ بوريفيستنيك الروسي المجنح القادر على حمل رؤوس نووية.

الدول غير المالكة للنووي:

تركز عادة مفاوضات الحد من الأسلحة النووية على الولايات المتحدة وروسيا؛ نظراً لحجم الترسانة النووية لكل منهما مقارنة بترسانات الدول الأخرى المالكة لأسلحة نووية، ومع ذلك، بدأ حجم الترسانات النووية يتغير نتيجة سلوكيات دول كالصين، التي احتفظت لسنوات بقوة نووية صغيرة نسبياً ثم توسعت بشكل كبير بما في ذلك بناء نحو 350 صومعة جديدة للصواريخ البالستية، ونحو500 رأس نووي؛ ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 1000 بحلول عام 2030، ولاسيما مع قيام الصين ببناء ثالوث استراتيجي حديث من الصواريخ البالستية العابرة للقارات، والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات، والقاذفات القادرة على حمل رؤوس نووية.

ومن جانبها، تسعى الولايات المتحدة إلى إشراك الصين في مناقشات الحد من الأسلحة النووية، فعلى سبيل المثال، التقى خبراء الأمن الأمريكيون والصينيون في نوفمبر 2023، لكن في المقابل لم تُبدِ بكين أي اهتمام باستمرار الحوار الثنائي مع واشنطن ولا أي اهتمام بتنسيق ثلاثي يشمل روسيا. 

وفي سياق متصل، يرى مسؤولون روس ضرورة معالجة الأسلحة النووية عبر صيغة متعددة الأطراف تشمل خمس دول (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، المملكة المتحدة، فرنسا) وهي الدول التي تمتلك أسلحة نووية معترف بها رسمياً بموجب معاهدة منع الانتشار النووي. وكانت تلك الدول الخمس قد أصدرت في عام 2022 بياناً مشتركاً بشأن "منع الحرب النووية وتجنب سباقات التسلح"؛ إذ أكدت أن "الحرب النووية لا يمكن كسبها ولا ينبغي خوضها أبداً"، وأنها جميعاً ملتزمة بالتزاماتها بموجب معاهدة منع الانتشار النووي بالسعي إلى نزع السلاح النووي، وأن أسلحتها النووية ليست موجهة إلى أي دولة"، ولم تتعطل أي من هذه المبادئ بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ ومع ذلك، لم تستخدم الدول الخمس هذه المبادئ لإحداث خطوات جدية في خفض مستويات الأسلحة النووية.

ومن أجل إحداث تأثير في حجم الأسلحة النووية وبناء الثقة، تقترح الورقة البحثية أن تكون المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا مع وجود مفاوضات أخرى موازية لكن أقل رسمية بين الدول الخمس، أو إجراء مفاوضات كاملة بين الدول الخمس؛ بهدف إبرام اتفاقية متعددة الأطراف للحد من القوات النووية لجميع الدول الخمس، مع تحديد تدابير الرصد والتحقق المناسبة، أو إشراك الهند وباكستان في مفاوضات تضم سبعة أطراف (علماً بأن هاتين الدولتين لم توقعا على معاهدة منع الانتشار النووي). إلا أن التحدي أمام ذلك يتمثل في أن التفاوض على معاهدة متعددة الأطراف سيصبح أكثر صعوبة؛ إذا تم توسيع المفاوضات لتشمل سبع أو تسع دول نووية بما فيها كوريا الشمالية وإسرائيل.

مقترحات للسيطرة: 

لتهيئة الوضع الراهن والاستمرار في المفاوضات الرسمية الخاصة بالسيطرة على الأسلحة النووية والحد منها، تطرح ورقة "جمعية الحد من الأسلحة" مقترحات أساسية من أبرزها:

- إعادة الولايات المتحدة وروسيا معاهدة ستارت الجديدة إلى العمل بكامل طاقتها، بما في ذلك استئناف تبادل البيانات والإخطارات وعمليات التفتيش في المواقع، مع استئناف البلدين حوارهما بشأن الأسلحة النووية والقضايا ذات الصلة مثل: الدفاع الصاروخي والأسلحة التقليدية بعيدة المدى.

- بدء الولايات المتحدة والصين حواراً بشأن القضايا الاستراتيجية وتجنب سباق التسلح النووي، مع استكشاف الولايات المتحدة وروسيا الاتفاقيات المحتملة التي تغطي صواريخهما متوسطة المدى.

- تعزيز إجراءات الإبلاغ والشفافية التي تقوم بها الدول المالكة للأسلحة النووية، فضلاً عن تكثيف حوارها بشأن القضايا المتعلقة بالأسلحة النووية، بما في ذلك: نموذج توازن القوى النووي، نموذج الاستقرار الاستراتيجي، إنشاء نموذج موحد للإبلاغ أو قاعدة بيانات للمعلومات الرئيسية عن مخزونات الأسلحة النووية، النماذج المحتملة للتفاوض على تخفيضات الأسلحة النووية، التدابير المحتملة للحد من المخاطر.

- إجراء حوار بين الهند وباكستان، إما ثنائياً أو مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

- يمكن للولايات المتحدة إطلاع الدول الأخرى على مراجعتها النووية والمنهجية المستخدمة وبعض النتائج؛ ومن ثم تشجيع الدول الأخرى على إجراء مراجعاتها الخاصة.

ختاماً، تخلص الورقة إلى إن النهج الأمثل للتعامل مع الأسلحة النووية والرؤوس الحربية هو السعي إلى التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا وكذلك الدول الأخرى المالكة للأسلحة النووية، علماً بأن الظروف الجيوسياسية الحالية تجعل من الصعب تصور استئناف للمناقشات الهادفة للحد من المخاطر النووية، ناهيك عن المفاوضات الرسمية بين الولايات المتحدة وروسيا أو مع الدول الأخرى، وأخيراً؛ فإن ضبط الأسلحة يمكن أن يسهم في الاستقرار والأمن الدوليين من خلال تجنب المخاطر النووية الأكبر، وزيادة الإنفاق العسكري، وإمكانية المزيد من الانتشار النووي، إلى جانب وقف سباق التسلح النووي الناشئ الحالي.

المصدر:

Pifer, S., Neuneck, G., Mizin, V., & Rusten, L. (2024). How to address all nuclear weapons? Deep Cuts.