توازنات بزشكيان:

حدود التغيير في سياسات إيران بعد تشكيل الحكومة الجديدة

26 August 2024


حصل كامل التشكيل الوزاري الذي اقترحه الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، والمكون من 19 وزيراً، على ثقة البرلمان، يوم 21 أغسطس 2024، وهو ما لم يحدث منذ أكثر من عقدين، إذ لم يتمكن رئيس إيراني من تمرير جميع وزرائه من خلال البرلمان، منذ عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي.

وفرض تشكيل حكومة بزشكيان حالة من الجدل، وسط استياء وانتقادات عدة من قِبل التيار الإصلاحي وحلفاء الرئيس الجديد، قبل الأصوليين، إلا أن هذه الانتقادات التي لم تؤثر في النهاية في أهلية أي وزير لدى أعضاء البرلمان الخاضع لسيطرة التيار الأصولي؛ لاعتبارات عدة أهمها تأييد المرشد الإيراني، على خامنئي، للحكومة. وفي هذا الإطار، يمكن تسليط الضوء على دلالات التشكيل الوزاري الجديد، ومدى تأثيره في سياسات حكومة بزشكيان في القضايا الداخلية والخارجية خلال الفترة المقبلة.

ثقة البرلمان:

منح البرلمان الإيراني الثقة للحكومة المُقترحة من الرئيس بزشكيان، عقب مناقشات محتدمة لبحث أهلية كل وزير، وذلك خلال الجلسة المنعقدة بتاريخ 21 أغسطس الجاري، والتي ألقى فيها الرئيس خطاباً أشار فيه إلى ضرورة توافق أعضاء البرلمان على تشكيل الحكومة الجديدة، الحاصلة في الأساس على تأييد خامنئي. 

وشارك في التصويت 285 نائباً من أصل 290، وحصل وزير الدفاع، عزيز نصير زاده، على أعلى تصويت، بنيله تأييد 281 نائباً. فيما كانت أقل الأصوات لوزير الصحة، محمد رضا ظفرقندي، بحصوله على 163 صوتاً. بينما نال وزير الخارجیة، عباس عراقجي، 247 صوتاً، ووزير الاستخبارات، إسماعيل خطيب، 261 صوتاً، ووزير الداخلية، إسكندر مومني، 259 صوتاً، والثقافة، عباس صالحي، 272 صوتاً. وتجدر الإشارة إلى أن أي وزير مقترح في التشكيل الوزاري يحتاج إلى الحصول على ثقة نصف أعضاء البرلمان (145).

وجاء التصويت بثقة البرلمان في الحكومة عقب دفاعات عدة قام بها بزشكيان، وسط تكهنات كانت تشير إلى احتمالية فشل أربعة وزراء في الحصول على الثقة، وهم وزراء الصحة، والعمل والرفاه، والاقتصاد، والتراث الثقافي والسياحة. وخلال هذه الدفاعات، أكد بزشكيان أن الوزراء المقترحين حصلوا على توافق المؤسسات الأمنية، والحرس الثوري. بيد أن اضطرار بزشكيان للدفاع عن تشكيل حكومته أكثر من مرة أمام البرلمان، قد دفعه إلى التعبير عن ضيقه بتأخر التصويت على منح الثقة، قائلاً: "لماذا تجبرونني على قول أشياء لا ينبغي لي أن أقولها؟" وذلك في إشارة إلى حصوله بشكل مباشر على ثقة المرشد بشأن أعضاء الحكومة، موضحاً أن اسم وزير الخارجية كان أول الأسماء التي حصلت على موافقة خامنئي، وأن الأخير أكد مشاركة المرشحة لوزارة الطرق فرزانة صادق في الحكومة. كما كشف في خطابه عن أن المرشح لوزارة الثقافة، عباس صالحي، لم يقبل منصب الوزير، لكن المرشد هاتفه وأمره بالمشاركة في الحكومة.

انتقادات للحكومة:

ترافق تقديم الرئيس بزشكيان تشكيل الحكومة الجديدة، مع انتقادات عدة من جانب التيار الإصلاحي، وخاصةً من أحد أهم حلفاء الرئيس وهو وزير الخارجية الأسبق، محمد جواد ظريف، الذي بادر بالاستقالة من منصب نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية؛ وهو منصب كان استحدثه بزشكيان للاستفادة من خبرات ظريف، ومكافأة له على دعمه المطلق لبزشكيان خلال حملته الانتخابية. وعبّر ظريف عن خيبة أمله من التشكيل الحكومي المُقدم إلى البرلمان. كما انتقد الأصوليون هذا التشكيل، وحاول نوابهم في البرلمان عرقلة منح الثقة للوزراء. 

وفي المجمل، تتمثل أبرز الانتقادات للحكومة الإيرانية الرابعة عشرة برئاسة بزشكيان، فيما يلي:

1- الضغط باسم المرشد: استخدم بزشكيان اسم المرشد الإيراني أكثر من مرة في كل خطاباته أمام البرلمان لتأكيد موافقة خامنئي على كل أعضاء الحكومة؛ وهو ما اعتبره النواب بمثابة ضغط عليهم لمنح الثقة للحكومة. وهذا ما عبّر عنه النائب الأصولي، مالك شريعتي، بقوله: "إن استغلال الرئيس لدعم المرشد من أجل الحصول على ثقة البرلمان كان خطأً كبيراً لأنه وضع البرلمان في مواجهة خيارات المرشد.. وأن ذلك يسهم في عدم استشعار أعضاء الحكومة لمسؤولياتهم في المستقبل". 

2- حكومة بلا تغيير: على الرغم من الوعود التي قطعها بزشكيان على نفسه خلال حملته الانتخابية، بأنه سيشكل حكومة تغيير تستطيع الوفاء بمتطلبات المرحلة الصعبة التي تمر بها إيران، فإن أبرز الانتقادات التي تواجه التشكيل الوزاري الجديد هو غياب أي ملامح للتغيير، ولاسيما مع الاحتفاظ بثلاثة وزراء من حكومة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، من بينهم الاستخبارات، والإعلام، فضلاً عن خمسة وزراء من حكومة الرئيس الأسبق، حسن روحاني. كما تضمن التشكيل ثمانية أصوليين؛ مما دعا الصحف الإصلاحية والمعتدلة إلى انتقاد بزشكيان. 

فعلى سبيل المثال، أشارت صحيفة "جمهوري إسلامي" المعتدلة، في افتتاحيتها يوم 12 أغسطس الجاري، إلى أن التركيبة الوزارية لحكومة بزشكيان لا يمكن أن تحمل عنوان "تشكيل وزاري جديد"، وأنها تحمل بصمات المرشد الأعلى بشكل واضح، وتهدف إلى الديمومة والإبقاء على الوضع السابق، وتكملة مسيرة حكومة رئيسي دون إحداث أي تغيير وعد به بزشكيان. كما انتقدت صحيفة "اعتماد" الإصلاحية، طريقة اختيار الوزراء، وعرض الأسماء على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية؛ وهو ما أكده بزشكيان نفسه في خطاباته أمام البرلمان، واعتبرت الصحيفة أن هذا الإجراء لا يشير إلى تغيير في نهج تسمية الوزراء.

3- غياب الشباب والأقليات: وعد بزشكيان أن تكون حكومته الجديدة بمثابة "حكومة توافق وطني"، تعبر عن الشباب والمرأة والأقليات وتمثلهم. كما سبق أن أعلن جواد ظريف، قبل استقالته من منصب نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية ورئيس ما يُسمى "المجلس التوجيهي للمرحلة الانتقالية"، أنه تم الاتفاق داخل المجلس المُوكل إليه مهمة ترشيح الوزراء وتقديم الاستشارة للرئيس لاختيار أعضاء الحكومة، على ألا يزيد عمر الوزراء عن 60 عاماً، وأن تتضمن الحكومة وجوهاً جديدة من الشباب والنساء، وتُمثل فيها الأقليات. 

ولكن هذا لم يحدث؛ إذ خلا التشكيل الحكومي من الشباب، وجاء أغلب أعضائه بعمر يزيد عن 60 عاماً، مع وجود امرأة واحدة هي وزيرة الطرق المهندسة فرزانة صادق، والتي تُعد ثاني وزيرة في الحكومات الإيرانية المتعاقبة منذ نجاح الثورة الإسلامية. فيما كانت الوزيرة الأولى هي مرضية وحيد دستجردي التي عُينت وزيرة للصحة في سبتمبر 2009 في الولاية الثانية للرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد.

كما خلا التشكيل الحكومي الجديد من تمثيل أهل السُّنة، على عكس ما وعد بزشكيان، وذلك بالرغم من اقتراح اسم عماد حسيني كوزير سُني لوزارة النفط؛ الأمر الذي دعا وسائل الإعلام الإصلاحية إلى مطالبة الرئيس بتوضيح موقفه من عدم وجود وزير سُني. كما فتح غياب السُّنة عن الحكومة الباب للتساؤل حول استشعار بزشكيان عدم أهمية وجود ممثل لهم، في الوقت الذي تهدد فيه طهران بالثأر لمقتل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. فيما أشارت صحيفة "اعتماد" إلى أن تشكيل الحكومة الجديدة يمكنه أن يعالج جزئياً الشرخ داخل منظومة الحكم، لكنه لا يمكن أن يعالج الشرخ بين الشعب والسلطة. 

حدود التأثير:

مع التسليم بأن التشكيل الوزاري الجديد لم يحصل على إجماع كلا التيارين الأصولي والإصلاحي؛ بسبب عدم سيطرة أي منهما على هذه الحكومة؛ فإن الجدل حول أعضائها سيظل ملاحقاً لها، حتى مع حصول كامل أعضائها على ثقة البرلمان. وفي ذلك مفارقة واضحة؛ إذ إن آخر رئيس إيراني حصلت حكومته المقترحة بالكامل على ثقة البرلمان كان محمد خاتمي، الإصلاحي أيضاً. بينما سبق أن رفض البرلمان منح ثقته لأربعة مرشحين في حكومة المتشدد أحمدي نجاد، ولثلاثة مرشحين في حكومة المعتدل روحاني، ولمرشح واحد في حكومة الراحل رئيسي. ولهذا دلالة واضحة مفادها أن الرئيس الإصلاحي عادةً ما يضع في اعتباره المواجهات المحتملة بينه وبين كوادر التيار المتشدد في مفاصل الدولة وأجهزتها؛ ومن ثم يحرص على كسب أرضية من التوافق قد تمكنه من السيطرة المسبقة على أي عراقيل.

وفي هذا السياق، أكد بزشكيان، في خطاباته أمام البرلمان، أنه مستعد للتنازل في سبيل التوافق، قائلاً: "كان في ذهني مرشحون مثاليون، ولكن عندما رأيت أنه لا يوجد اتفاق بشأنهم، تراجعت"، مضيفاً: "الاتفاق أهم بالنسبة لي من المرشحين المثاليين"، ومتعهداً بـ"المُضي قدماً في الوحدة".

وقد أدى تراجع بزشكيان عن تمسكه بالأسماء التي اقترحها ظريف إلى استقالة الأخير، التي قدمها للرأي العام الإيراني عبر صفحته على موقع "إكس"، بعد نحو 10 أيام فقط من تعيينه نائباً للرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، مؤكداً أنه لم يستطع تنفيذ وعوده؛ ومن ثم لا يمكنه الاستمرار في منصبه. ومع ذلك، فإن خسارة بزشكيان لأهم حلفائه، وهو ظريف، كانت في مقابل حصوله على توافق أعضاء البرلمان لبدء حكومته في تسيير أعمالها، وسط تحديات عدة داخلية وخارجية تفرض نفسها على النظام الإيراني من ناحية، وتحديات يواجهها الرئيس الجديد، ولاسيما وأن أغلب سلطاته مقيدة في أيدي جهات أخرى نافذة غير الحكومة.

ففي تحليل نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية يوم 6 يوليو الماضي، بعنوان: "الناخبون الإيرانيون ينتخبون أول رئيس إصلاحي منذ عقدين من الزمن"، رأى التحليل أن سماح خامنئي بفوز مرشح إصلاحي في الانتخابات الرئاسية بعد عقدين من آخر رئيس إصلاحي وهو محمد خاتمي، يعكس أن النظام الإيراني لجأ لخيار أكثر أماناً بعد إقصاء الإصلاحيين وانفراد الأصوليين بالسلطة؛ مما نتج عنه أزمات سياسية واجتماعية كبرى عبرت عنها بشكل كبير الاحتجاجات التي شهدتها إيران في سبتمبر 2022. 

وفي المُجمل، لن يستطيع الرئيس الإصلاحي الحالي الفكاك من قبضة النظام الأصولي، أو الخروج من عباءة المرشد، الذي سمح منذ البداية بوجود مرشح إصلاحي للرئاسة، ووافق مسبقاً على كل أعضاء الحكومة بل وشارك في تكوينها، باعتراف بزشكيان في أكثر من مناسبة، ولاسيما أن الوزارات السيادية اختياراتها بيد المرشد عُرفاً، وهي الاستخبارات، والخارجية، والداخلية، والدفاع، والنفط.

وفي المقابل، مع وجود مؤشرات إيجابية في التشكيل الحكومي، ومنها تولي عباس عراقجي وزارة الخارجية، وتعيين الإصلاحية زهرة بهروز آذار نائبة للرئيس لشؤون المرأة والأسرة، وهي أحد منتقدي شرطة الأخلاق وممارساتها؛ فإن ثمة احتمالات قائمة بشأن تخفيف الضغوط الخارجية والداخلية على النظام الإيراني من خلال سياسات أكتر مرونة. فمع منح عراقجي الثقة كوزير للخارجية، يُنظر إلى دوره في مفاوضات الاتفاق النووي عام 2015، وما يمكن أن يقدمه من جهود لتحييد العقوبات على طهران، مع تأكيده أنه ملتزم بنهج المرشد الأعلى وتوجيهاته في السياسة الخارجية؛ ومن ثم فإن اختيار عراقجي لوزارة الخارجية ربما يعكس رغبة الحكومة الحالية في عودة المفاوضات مع الولايات المتحدة والغرب، خاصةً أن نجاح مساعي تحسين الأوضاع الاقتصادية مشروط بحل الأزمة مع واشنطن ورفع العقوبات عن طهران.

فيما يظل دور نائبة الرئيس لشؤون المرأة والأسرة، زهرة بهروز، مرهوناً بمدى قدرتها على امتصاص غضب النساء والأسر المتضررة من سياسات شرطة الأخلاق، ولاسيما مع تجدد ممارساتها العنيفة، ونشر فيديو مؤخراً يظهر التعدي على فتاتين بالضرب المبرح والسحل ومن ثم الاعتقال، بالرغم من أن إحداهن تبلغ من العمر 14 عاماً فقط، وذلك على الرغم من تعهد بزشكيان بوقف عمل هذه الوحدة الشرطية، والبحث عن سبل أخرى لإقناع الفتيات بالحجاب.

أما القضايا الكبرى مثل الصراع مع إسرائيل، فيظل تأثير الحكومة في اتخاذ قرار بشأنها هو الأضعف مقارنةً بالمرشد الأعلى وقيادات الحرس الثوري. وفي هذا الإطار، وطبقاً لما نشرته صحيفة "تلغراف" البريطانية يوم 9 أغسطس الجاري، فإن الرئيس الإيراني الجديد يخوض معركة مع الحرس الثوري لمنع اندلاع حرب شاملة مع إسرائيل. فبينما يدفع الحرس الثوري باتجاه شن هجوم صاروخي واسع ومباشر على تل أبيب ومدن أخرى، إلى جانب استهداف منشآت عسكرية، يفضل بزشكيان توجيه ضربات للقواعد الإسرائيلية المنتشرة في المنطقة. بيد أن القرار النهائي الذي سيحدد كيفية وموعد الرد الإيراني سيكون بيد خامنئي.

ختاماً، تظل الحقيقة الثابتة في هيكل النظام الإيراني هي أن المرشد الأعلى واضع السياسات ومتخذ القرارات الاستراتيجية الداخلية والخارجية، وأن وجود رئيس إصلاحي على رأس السلطة التنفيذية في البلاد لا يعني تغيير نهج النظام الحاكم، وإنما قد يؤدي إلى تبني سياسات أكثر مرونة في تنفيذ توجهاته الثابتة إلى حد كبير.