عسكرة متصاعدة:

مستقبل قوة روسيا في العالم بحلول عام 2025

25 September 2016


إعداد: ناهد شعلان


مع تزايد اعتماد روسيا تحت حكم الرئيس "فلاديمير بوتين" على القوة العسكرية لتصبح الأداة الأهم لتنفيذ السياسة الخارجية الروسية، والانخراط العسكري في صراعات وحروب مع دول الجوار (أوكرانيا وجورجيا)، والتدخل العسكري في سوريا؛ يُثار تساؤلان رئيسيان مفادهما: هل يُشكل الخيار العسكري توجهًا جديدًا للسياسة الخارجية الروسية؟ وكيف ستتعامل الدول المعنية مع هذا التوجه الجديد خاصة مع صعوبة التنبؤ بخريطة التفاعلات الروسية في ظل حكم بوتين؟.

وفي إطار الإجابة على هذين التساؤلين تأتي أهمية التقرير الذي نشره معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية بعنوان "مستقبل روسيا بحلول عام 2025"، حيث يستشرف التقرير الذي شارك فيه نخبة من المتخصصين في الدراسات الروسية المستقبل الروسي في ظل المعطيات الداخلية والدولية. 

يقوم التقرير على ثلاثة محاور رئيسية. يهتم الأول بدراسة الوضع الداخلي، في حين يقدم المحور الثاني تقييمًا للسياسة الخارجية الروسية وتفاعلاتها مع القوى الدولية الكبرى المنافسة لروسيا على الساحة الدولية (الولايات المتحدة الأمريكية والصين) والسياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط، بينما يرصد الثالث دورها كقوة أوروبية.

مستقبل السياسات المحلية:

يُشير التقرير إلى أن ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا كان بمثابة تصحيح مسار لعدم العدالة التي عانت منها روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، واستعادة مفهوم "القلعة الحصينة" الذي كانت تتمتع به فيما قبل. وقد أدى الانتقال الداخلي إلى فكرة "الشرعية العسكرية" إلى تكوين ظهير شعبي قوي للرئيس "بوتين"، والإقرار بعدم شرعية أيٍّ من تيارات المعارضة التي أصبحت تعاني من القمع الممنهج. إلا أن التقرير يوضح أن السلطوية "البوتينية الصلبة" وعسكرة الاقتصاد الروسي ستحول دون حدوث أي تطور اقتصادي؛ مما سيضع الحكومة في مأزق صعب يضطرها إلى تبني تغييرات هيكلية وجذرية. 

ويضيف التقرير أنه في جميع الأحوال سيكون من الصعب تخيل روسيا دون "بوتن"، حيث إن أي حاكم جديد لن يتمتع بنفس مكانته "كقائد للأمة". ويبدو أن سيناريو "لا مركزية الشراكة" -من وجهة نظر التقرير- هو أحد الخيارات المطروحة التي قدد تعزز من التعددية والصالح العام. وقد يؤدي تنامي السخط الشعبي ضد عدم العدالة والمساواة إلى انضمام تيار اليسار للحركات العمالية المنظمة.

إن أفضل ما يمكن أن يحدث لروسيا خلال العقد القادم هو ما أطلق عليه كارل ماركس "التراكم الطبيعي لرأس المال"، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي. فعلى الرغم من العقوبات فإن روسيا اليوم تبدو أكثر انفتاحًا على التغيرات، فحتى مع تبنيها سياسة معادية للغرب فإنها لا تسعى للعزلة التامة.

أزمة اقتصادية متوقعة:

يتوقع التقرير أن تمر روسيا في المستقبل بأزمة اقتصادية طاحنة بعد التطور والنمو الاقتصادي الذي شهدته في الفترة ما بين عامي 2000 و2008، وأنها ستظل غير قادرة على تنويع مصادرها الاقتصادية، وفي المقابل سيظل قطاع الطاقة هو المهيمن على الصناعات الاقتصادية. كما أن روسيا لن تتمكن من تنويع مصادر تصريف إنتاجها من الطاقة، وستظل أوروبا هي السوق الأساسية لها. ويؤكد التقرير أن كل هذه التنبؤات ستكون وشيكة الحدوث، خاصةً إذا استمر النظام في السيطرة الكاملة على مقاليد الدولة والاقتصاد، وعدم السماح بأي تطور سياسي. 

وعلى الرغم من هذه التحديات الاقتصادية فإن الغالبية العظمى من الشعب لا تزال تؤيد سياسة الرئيس "بوتين" المعادية للغرب، والتي تدعو إلى العزلة الذاتية. وبحلول الفترة ما بين عامي 2020 و2025 يتوقع التقرير ألا تظهر روسيا بمظهر اللاعب المعتدي على الساحة الدولية، بل ستحاول زيادة نفوذها في المناطق التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي سابقًا، مع مزيدٍ من التوجه نحو الشرق، والتركيز على وسط آسيا، وإعادة صورة روسيا كقوة "أوروآسيوية" من جديد. 

استمرار التفوق العسكري:

على الرغم من التدهور الاقتصادي فإن روسيا تبدو صارمةً تجاه الحفاظ على مستوى معين من الإنفاق والالتزام العسكري، حيث أصبح "النصر العسكري" نقطة محورية في تحقيق الهيمنة والهوية الروسية. إذ يشير التقرير إلى أن قيادة حرب إقليمية في منطقة نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق، وردع الولايات المتحدة من التدخل، ما زال في قلب الاستراتيجية العسكرية الروسية إلى 2025 وما بعدها.

ويُضيف التقرير أن "العدوانية" الكامنة في النظام الروسي، وإثارة المشاعر الشعبية عن طريق عسكرة السياسة والقومية، ينبئ بسياسة خارجية أكثر حزمًا، ولكن أقل قابلية للتنبؤ. ويؤكد أن الحروب بالوكالة التي يمكن إدارتها بموارد قليلة ستظل أحد الأسس التي تعتمد عليها روسيا لإثبات أهميتها الاستراتيجية في مواجهة الغرب. لكنه يُشير إلى أن استدامة العامل الاقتصادي والتكنولوجي في خطة تحديث الجيش الروسي ستصبح أحد العوامل المشكوك فيها. وفي المقابل، لا يجب إغفال دور أجهزة الاستخبارات الروسية. وعلى الرغم من أن السيناريوهات التصعيدية فرصتها قليلة الحدوث إلا أنها ممكنة. ويرى التقرير أن "تطبيع العلاقات" بين روسيا وأوروبا يبقى هدفًا بعيد المنال.

استمرار العداء الروسي-الأمريكي:

يؤكد التقرير أن الغرب سيبقى في قلب السياسات الروسية، وأن التحول من المواجهة إلى التعاون سيكون رهن رؤية القيادة السياسية الروسية. ويُضيف أن المشكلة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا تكمن في أن العلاقات العدائية لا تنحصر في مستوى العلاقات الحكومية فقط، فالشعب الروسي يُكِنُّ مشاعر عداء وكراهية للولايات المتحدة.

ونظرًا لفقدان القيادة السياسية الروسية السيولة المالية والأيديولوجية التي كانت تعتمد عليها لتدعيم شرعيتها داخليًّا وخارجيًّا فإنه سيتعين عليها اختيار توجه جديد قد يؤدي إلى خسارتها السلطة والتحكم الكامل.

التقارب مع الصين:

بدأت العلاقات الروسية-الصينية في الازدهار في أعقاب الخلاف الروسي-الأوكراني، حيث كانت روسيا في حاجة إلى حليف استراتيجي قوي لموازنة علاقاتها مع الغرب في ظل أزمتها الاقتصادية. وقد ساهمت العديد من العوامل في حدوث ذلك، مثل: التقارب الجغرافي، وتحول الصين من دولة استثمارية إلى دولة استهلاكية، وتماثل أنظمة الحكم. لكن هناك مجموعة من العوامل قد تعكر صفو هذه العلاقة. فبينما تسعى روسيا إلى علاقة تقوم على الندية مع الغرب؛ فإن الصين تتبنى استراتيجية أكثر براجماتية، فضلا عن أن الثقافة الروسية لا تزال أكثر ارتباطًا بالغرب. أما من الناحية الفكرية فقد تحتاج كل من الدولتين إلى فترة لا بأس بها لفهم الأخرى. 

وفي هذا السياق، يؤكد التقرير استمرارية علاقة الاعتماد المتبادلة بين الدولتين غير المتكافئة على حساب روسيا التي ستضطر للخضوع للمتطلبات الصينية في المستقبل، خاصة أن الأخيرة ستحرص على عدم إبداء هذا الفارق. وقد يتغير الوضع إذا ما تحسنت العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك يبدو صعب التحقق ببقاء "بوتين" في الحكم. ويرى التقرير أنه في المستقبل لن يشكل الثنائي الروسي-الصيني تهديدًا لأوروبا، نظرًا إلى تراجع القوة الروسية في مواجهتها. 

مصالح روسيا الشرق أوسطية:

يُعتبر النفط هو الركيزة الأساسية للوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط. وتدرك روسيا جيدًا أن تحقيق مصالحها في منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين وثيقة الصلة بإيران حليفتها الرئيسية في الأزمة الروسية. ويشير التقرير إلى أن التدخل الروسي في الأزمة السورية قد عزز من صورتها كدولة محورية في المنطقة، إلا أن ذلك لن يستمر كثيرًا نتيجة تدهور أوضاعها الاقتصادية ومحدودية القضايا التي تشارك بها.

وفي حين تتبنى روسيا موقفًا معاديًا للإرهاب فإن ما يعنيها في الشرق الأوسط هو دحض المبادرات الأمريكية وليس محاربة الإرهاب، إلا أن ذلك -وفقًا لوجهة نظر كاتبي التقرير- لن يكسبها ود وتأييد الشارع العربي. ومن جانب آخر، لا تزال روسيا غير قادرة على خلق توازنٍ بين علاقاتها مع الدول العربية ورغبتها في تطوير علاقاتها مع إسرائيل، خاصةً أن الدول العربية تنظر لروسيا بعين الريبة نتيجة تحالفها مع إيران.

روسيا كقوة أوروبية:

تسعى روسيا إلى توطيد علاقاتها مع الدول التي كانت تتبع الاتحاد السوفيتي سابقًا، معتبرة إياها دائرة نفوذ طبيعية لها؛ مما جعلها تنظر إلى أي وجود غربي بالمنطقة على أنه اعتداء مباشر عليها. وتجمع المصالح الروسية في المنطقة بين ما هو جيوبوليتيكي وأيديولوجي؛ فتمثل تلك المنطقة "إمبراطورية ما بعد الحداثة"، حيث لا تسعى روسيا إلى السيطرة على أراضي تلك الدول، ولكنها تهدف إلى خلق نفوذ استراتيجي وأيديولوجي واقتصادي بها. وهو أمر ضروري لإسباغ الشرعية على النظام الروسي الحاكم. وتعتمد روسيا على العديد من الأدوات لبسط نفوذها، مثل: الأداة الإعلامية، والمواطنون الروس في تلك الدول، والمستويات المتعددة من الاندماج، ووجود مناطق نزاع انفصالية بتلك الدول، وأخيرًا الأداة العسكرية. 

ويوضح التقرير أن من الصعب التوصل إلى موقف مشترك بين روسيا والاتحاد الأوروبي تجاه هذه الدول، خاصة بعد الأزمة الأوكرانية. فهذه المنطقة بالنسبة لروسيا غير قابلة للتقسيم، أو للتشارك مع قوى أخرى.

وعن مستقبل العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، أشار التقرير إلى أن العلاقات المستقبلية بين الطرفين ستكون بين الشراكة والمواجهة، ولكنها لن تصل أبدًا إلى حد العلاقات الاستراتيجية، بل إنها ستتسم بعدم الثقة والتشكك. ولكن انقضاء مجموعة من الخلافات بين الطرفين بحلول 2025 سيسمح باستمرار علاقاتهما، ويقلل من فرص انقطاعها. 

ويضيف التقرير أن الاتحاد الأوروبي سيظل الحليف التجاري الأول لروسيا، باستثناء مجال الطاقة، حيث سيسعى الطرفان إلى تقليل اعتماده على الآخر بإيجاد شركاء جدد. وقد تسعى العديد من دول التحالف الاقتصادي الأوروآسيوي إلى إقامة علاقات تعاونية مع دول الاتحاد الأوروبي والصين، إلا أنه في وقت الأزمات الاقتصادية والعسكرية لن تلجأ إلا لروسيا. وسيظل العامل العسكري هو النقطة الحاسمة في التنافس الأوروبي الروسي في منطقة دول الجوار المشترك. وستعتمد روسيا بالأساس على تلك الأداة، وذلك لعدم توافر بدائل أخرى، وللاستمرار في إضفاء الشرعية الداخلية. ونتيجة لذلك قد تلجأ بعض الدول الأوروبية داخل وخارج الاتحاد إلى تطوير سياساتها الأمنية، مما قد يزيد من حدة الاحتقان مع روسيا مستقبلا. 

ويخلُصُ التقرير إلى أن العامل الحاسم في ترسيم السياسة الخارجية الروسية هو الحفاظ على هويتها كدولة كبرى محورية، مع ضرورة المحافظة على شرعية نظامها داخليًّا. وتمثل الأداة العسكرية الخيار الأمثل بالنسبة لروسيا حتى في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية بها. ولكن يظل التنبؤ صعبًا بتوجهات السياسة الخارجية الروسية حتى مع وجود بعض الدلائل الاسترشادية.


*عرض موجز لتقرير "مستقبل روسيا بحلول عام 2025" المنشور في مارس 2016 عن معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية.

المصدر:

Hiski Haukkala and Nicu Popescu (Editors), “Russia Futures: Horizon 2025”, (Paris: European Union Institute for Security Studies, March 2016