الآثار المتوقعة لاعتراف ثلاث دول أوروبية بفلسطين

28 May 2024


يحظى اعتراف إسبانيا والنرويج وأيرلندا بالدولة الفلسطينية، في 28 مايو 2024، بأهمية خاصة، مقارنةً باعتراف العديد من الدول الأوروبية الأخرى السابق لهذا الإعلان، كالسويد مثلاً عام 2014، وكذلك الدول الثماني التي اعترفت بدولة فلسطين قبل انضمامها للاتحاد الأوروبي، وهي على التوالي المجر وبولندا وقبرص وسلوفاكيا والتشيك ومالطا ورومانيا وبلغاريا، وكذلك اعتراف دول من خارج الاتحاد الأوروبي، مثل: آيسلندا والفاتيكان. 

وتعود هذه الأهمية التي يحظى بها اعتراف إسبانيا والنرويج وأيرلندا، إلى ظروف خاصة تتعلق بدور هذه الدول الثلاث ودوافعها للاعتراف بدولة فلسطين، فضلاً عن السياق الذي يتموضع فيه هذا الاعتراف؛ أي السياق الدولي الذي رافق عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.

1- تطور الاعتراف بالدولة الفلسطينية:

منذ إعلان الجزائر عام 1988 وقبول حل الدولتين، اعترفت 85 دولة بدولة فلسطين. وفي العقود التي تلت ذلك وبجهود دبلوماسية فلسطينية، بلغ عدد هذه الدول 137 دولة تعترف بفلسطين. ووفقاً لوزارة الخارجية الفلسطينية وفي إحصائية منشورة قبل إعلان إسبانيا والنرويج وأيرلندا عزمها على الاعتراف بدولة فلسطين، وصل عدد الدول المُعترفة بدولة فلسطين إلى 144 دولة، وباعتراف الدول الثلاث الأخيرة يصبح عدد هذه الدول 147، من بينها 11 دولة أوروبية.

وفي 29 نوفمبر 2012، حصلت فلسطين على صفة دولة غير عضو مراقب في الأمم المتحدة، وحظي هذا القرار الصادر آنذاك عن الجمعية العامة بموافقة 138 دولة ومعارضة 9 دول وامتناع 41 دولة عن التصويت. وبموجب هذا القرار، تتمتع دولة فلسطين المراقب بحق الانضمام لوكالات الأمم المتحدة؛ لذا انضمت فلسطين إلى "اليونسكو" عام 2011 والمحكمة الجنائية الدولية عام 2015. وانسحبت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من "اليونسكو" احتجاجاً على انضمام فلسطين عام 2018، ثم تراجعت واشنطن عن هذا القرار بعد ذلك عام 2023.

وفي الثامن عشر من إبريل 2024، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض "الفيتو" ضد انضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة كعضو كامل، وهو القرار الذي تقدمت به الجزائر نيابة عن المجموعة العربية، وحظي بتأييد 12 صوتاً من 15، وامتنع عضوان عن التصويت هما: المملكة المتحدة وسويسرا. وكانت حجة الولايات المتحدة في استخدام "الفيتو" هي أن "الأمم المتحدة ليست المكان المناسب لذلك، بل المفاوضات المباشرة بين الأطراف".

2- السياق الوطني والدولي لاعتراف الدول الثلاث:

يكتسب اعتراف إسبانيا والنرويج وأيرلندا بدولة فلسطين، أهميته من ميراث هذه الدول ودور بعضها في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية؛ إذ احتضنت إسبانيا أول مؤتمر للسلام عام 1991، عقب حرب الخليج الأولى ووقع عليها الاختيار لعقد هذا المؤتمر في عاصمتها؛ نظراً للعلاقات التاريخية التي تربطها بالعالم العربي. كما أن النرويج هي التي أسهمت في إنجاز اتفاق أوسلو عام 1993 والمعروف إعلامياً باتفاق المبادئ، والذي تم توقيعه في 13 سبتمبر 1993، في البيت الأبيض. أما أيرلندا فإن خبرتها وكفاحها ضد الاستعمار أسهم في تأييدها لنضال الشعب الفلسطيني من أجل الدولة والاستقلال.

وفيما يتعلق بالسياق الدولي الذي يأتي في إطاره اعتراف الدول الأوروبية الثلاث، فإنه يمنح هذا الاعتراف مكانة خاصة ودلالات تفوق ما سبقه من اعترافات بالدولة الفلسطينية؛ لأن هذا الاعتراف يتموضع في الإطار الذي أعقب "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية غير المتكافئة على غزة والعدد الكبير من الضحايا المدنيين، والمواقف الدولية التي تطورت منذ اكتشاف أهداف العدوان الإسرائيلي في التهجير والتدمير، وهي المواقف الرامية إلى إنهاء دائرة العنف وإرساء دعائم السلام والاستقرار في المنطقة، واعتبار حل الدولتين هو الأكثر نجاعة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهذا ما يعني استدراك المجتمع الدولي لأخطائه المتراكمة عبر العقود في إهمال تطبيق حل الدولتين وقبول الرواية الإسرائيلية حول عدم وجود شريك فلسطيني.  

ومن ثم فإن اعتراف الدول الثلاث يعني ضمن ما يعنيه أن استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه ليس حلاً وغير مقبول، وأن إظهار عزم المجتمع الدولي على الضغط من أجل حل الدولتين هو الطريق الأمثل للاستقرار والسلام والأمن للأطراف كافة.

من ناحية أخرى، فمن الواضح أن عزم الدول الثلاث الاعتراف بالدولة الفلسطينية بشكل كامل؛ قد يترتب عليه تبادل السفراء والعلاقات الدبلوماسية، وعقد الاتفاقيات الثنائية للتعاون الاقتصادي والتجاري، على عكس بعض الاعترافات السابقة المُشار إليها، والتي لم تستكمل هذا المسار. ومن الناحية القانونية، يُميز فقهاء القانون الدولي بين "الاعتراف المنشئ" و"الاعتراف الكاشف"؛ فالأول يخلق الشخصية الدولية الجديدة للدولة المُعترف بها ومن دون هذا الاعتراف لا تتوفر شروط صحة الأعمال التي تقوم بها الدولة المُعترف بها. أما "الاعتراف الكاشف" فمفاده أن اعتراف الدول يتأسس على توافر عناصر الدولة المُعترف بها، وفي الحالة الفلسطينية تتوفر عناصر الدولة المعروفة (الأرض، والشعب، والسلطة). وهي هنا الأراضي الفلسطينية المُحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وذلك وفقاً لقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة. أما السلطة فتتمثل في السلطة الفلسطينية منذ قيامها عام 1994 ومنظمة التحرير الفلسطينية صاحبة الولاية عليها والمُعترف بها دولياً، والموقعة على اتفاق أوسلو. أما الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية واللاجئين وانخراطه في النضال من أجل استقلاله وحريته، فهو غني عن البيان. كما أنه من الثابت تاريخياً أن فلسطين كانت تتمتع حتى عام 1945 بالشخصية الدولية وكانت تصدر تأشيرات دخول وجوازات سفر لسكانها وتعقد الاتفاقيات.

3- دلالات وآثار الاعتراف:

يكتسب الاعتراف المتتالي بالدولة الفلسطينية، دلالات مهمة في سياق إقرار حل الدولتين وتبنيه من قِبل المجتمع الدولي. وفي الوقت الذي يجمع فيه كثيرون على أن هذا الاعتراف له دلالة رمزية، فإن هذه الدلالة ليست الجانب الوحيد أو الأثر الوحيد للاعتراف؛ إذ تمتد آثاره لتغطي جملة من التفاعلات والديناميكيات المهمة لفلسطين ودعم حضورها الدبلوماسي والسياسي في الساحة الدولية.

وأولى هذه الدلالات، ربما غير الظاهرة، هي رغبة المجتمع الدولي في إنصاف الشعب الفلسطيني وتصحيح الظلم التاريخي الذي وقع عليه منذ قرار التقسيم 181 لعام 1947. صحيح أن أغلب الدول المعترفة قد لا تكون مؤثرة في مسار الصراع ومفاصله؛ أي لا تملك أدوات التأثير في الموقف الإسرائيلي والضغط عليه، بيد أن اتساع رقعة هذا الاعتراف وشموله لأغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، تمثل ضغطاً أدبياً ومعنوياً على تلك الدول التي تمتلك التأثير وتسهم في صنع القرار الإسرائيلي، مثل الولايات المتحدة. وفي الوقت ذاته، فإن اتساع دائرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية عالمياً، من شأنه أن يقلص من تأثير السردية والرواية الإسرائيلية للصراع، وتعزيز الرواية الفلسطينية والعربية ودعم مصداقيتها.

كما أن اتساع دائرة الاعتراف الدولي بفلسطين، من شأنه أن يعزز أُطر ما يمكن وصفه بـ"العزلة الدبلوماسية" لإسرائيل؛ إذ قد تتعرض علاقات هذه الدول مع تل أبيب للاضطراب والتراجع؛ سواء باحتمالية سحب السفراء أم تجميد العلاقات الدبلوماسية. وبطبيعة الحال، يفترض ذلك توطيد العلاقات مع الدولة الفلسطينية وتعزيز حضورها في الساحة الدولية والمنظمات المختلفة. والدليل على هذا أن فلسطين ما إن حصلت على صفة مراقب في الأمم المتحدة كدولة غير عضو حتى لحقت بالمحكمة الجنائية الدولية، والتي تقوم الآن بنظر الطلب في إصدار مذكرات توقيف بحق القادة الإسرائيليين الضالعين في الحرب على غزة.

كذلك فإن اتساع دائرة الاعتراف بدولة فلسطين سوف يُعزز مطلبها للعضوية الكاملة في الأمم المتحدة، والحضور الفلسطيني الدبلوماسي في المنتديات الدولية وضمان وصول الصوت الفلسطيني إلى المجتمع الدولي.

وفي تقديري، فإن أهم تبعات الاعتراف الدولي بفلسطين تتمثل في تعزيز وضعية الأراضي الفلسطينية المُحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية؛ إذ قد ينهي هذا الاعتراف الوضعية القانونية التي روجت لها إسرائيل للأراضي الفلسطينية؛ كأراضٍ مُتنازع عليها أو أراضٍ دون صاحب، وهي المفاهيم التي استندت إليها تل أبيب في تبرير احتلالها لهذه الأراضي.

على صعيد آخر، فإن الأساس القانوني لاعترافات الدول بدولة فلسطين يرتكز على القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة سواء الجمعية العامة أم مجلس الأمن بخصوص الأراضي الفلسطينية المحتلة والقدس الشرقية وبطلان الاستيطان والضم؛ ومن ثم فإن هذه الاعترافات تعزز القرارات الدولية الصادرة عن المجتمع الدولي وتمنحها مصداقية أكبر وترفع من قيمتها التنفيذية.

وعلى الصعيد الاقتصادي والمساعدات، فإن الاعتراف يمكنه أن يفضي إلى اتفاقيات ثنائية اقتصادية وتجارية تعطي دولة فلسطين قيمة الأفضلية في المعاملة أو الدولة الأولى بالرعاية؛ ما يمنح مشروع الدولة الفلسطينية القدرة على الحياة، وطلب المساعدات وتخفيف آثار الحصار المفروض عليها.

وعلى الرغم من هذه الدلالات الإيجابية، سياسياً ودبلوماسياً وقانونياً واقتصادياً، لاعتراف الدول الثلاث (إسبانيا والنرويج وأيرلندا) بدولة فلسطين؛ فإن الوجه الآخر له قد يتسبب في عدم تحويل أموال المقاصة للنرويج لتحويلها إلى السلطة الفلسطينية بناءً على الآلية المتبعة لتحويل أموال المقاصة عبر طرف ثالث. كما أعلنت إسرائيل، يوم 22 مايو 2024، إلغاء ما يُسمى قانون فك الارتباط بشمال الضفة الغربية، لتسمح بذلك بعودة المستوطنين إلى مستوطنات سابقة في الضفة كان يحظر عليهم دخولها منذ صدور أمر بإخلائها عام 2005.

إجمالاً، فإن حسابات المكسب والخسارة لاعتراف الدول الأوروبية الثلاث بدولة فلسطين تصب في صالح الجانب الفلسطيني، وتفوق الآثار الإيجابية له بعض نظيراتها السلبية. وقد يحفز هذا الاعتراف بعض الدول الأخرى لتبني نفس الموقف، ويمثل ذلك أحد أوجه الضغوط الدولية التي يمكنها أن تؤثر بشكل إيجابي في مسار حل الدولتين. ولا شك أن توالي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فضلاً عن قيمته الرمزية، يفتح الباب من جديد لدعم حل الدولتين باعتباره الأفضل، كما يعزز فرص ممارسة الضغوط على النخبة اليمينية والرأي العام الإسرائيلي لبلورة استجابة مرنة لهذه الضغوط تحول دون عزلة إسرائيل، وتفتح أفقاً جديداً للاستقرار وتمنح الشعب الفلسطيني حقه في الدولة والتحرر من الاحتلال.