رؤية أوروبية:

مستقبل الدور الجيوسياسي للهيدروجين في السياسة العالمية

27 May 2024


عرض: هبة محيي

أصبح الهيدروجين خياراً واعداً للدول المتنافسة على التحول نحو مصادر الطاقة الخضراء، ولاسيما أنه يقدم فرصاً لإدماج القطاعات التي يصعب تحييدها من الكربون، كالصناعات الثقيلة، والطيران، والتجارة البحرية. تزايد هذا الاتجاه العالمي مؤخراً، خاصة في ألمانيا والاتحاد الأوروبي للحفاظ على ريادتهما في الإنتاج الصناعي والتكنولوجيا؛ الأمر الذي سيدفعهما إلى استيراد الهيدروجين، وهو ما سيؤدي في المستقبل إلى إعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الدول، وتغير خارطة التوازنات السياسية والاقتصادية العالمية. 

وفقاً لتلك التغيرات المتوقعة، نشر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية مؤخراً ورقة بحثية حول الدور الجيوسياسي أو الجغرافيا السياسية للهيدروجين، كمصدر جديد للطاقة في العالم، وإسهامات أصحاب المصالح المختلفة، والسيناريوهات المختلفة لهذا القطاع في عام 2040، وأهم الاستراتيجيات المقترحة على أوروبا لتنويع الشراكات السياسية والاقتصادية في هذا المجال. 

تُعنى الورقة بالبعد الجيوسياسي للطاقة وتأثير موارد الطاقة بنوعيها الناضبة والمُستدامة والعمليات المرتبطة بها كالنقل والتجارة على العلاقات السياسية بين الدول، من حيث رصد أدوار الفاعلين الدوليين واستراتيجيات الصراع والتعاون المُحتملة، فضلاً عن الدور المحوري للابتكار التكنولوجي المؤدي لإثراء سلاسل القيمة في مجال الطاقة، وما يترتب عليه من إعادة ترتيب أدوار الفاعلين الدوليين في السياسة العالمية.

مصدر طاقة جديد:

يتميز الهيدروجين بأنه مصدر أساسي للطاقة منخفض أو صفري الكربون؛ ما يجعل هنالك إقبالاً عالمياً على استخدامه في ظل الأهداف الدولية الرامية إلى انتهاج استراتيجيات توليدية للطاقة صديقة للبيئة. وينبع تأثير الهيدروجين في الجغرافيا السياسية، من قدرته على إعادة رسم الخريطة الدولية لأبرز مُصدري الطاقة، وما يترتب عليها من تغيرات في موازين القوى الاقتصادية والسياسية. وتسلك الدول سبلاً عدة لاستغلال الهيدروجين لإنتاج الطاقة، من أبرزها:

- الهيدروجين الرمادي: يُعد أكثر الطرق شيوعاً لإنتاج الهيدروجين حالياً، وهو آلية منخفضة الكربون، وتتم عن طريق التحليل البُخاري للغاز الطبيعي؛ إذ يتم تسخين الغاز الطبيعي بالبخار، فينتج عن ذلك إنتاج الهيدروجين وأول وثاني أكسيد الكربون، وبلغ متوسط انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن كل طن من الهيدروجين المُنتج حوالي 12 إلى 13 طناً من ثاني أكسيد الكربون في عام 2021؛ أي ما يمثل حوالي 2% من الانبعاثات العالمية.

- الهيدروجين الأزرق: يتم انتهاج نفس طريقة الإنتاج السابقة مع دمج تقنيات التقاط الكربون؛ إذ يُوكل إلى هذه التقنية امتصاص انبعاثات الكربون الناتجة عن إنتاج الهيدروجين، وتخزينها في باطن الأرض أو استخدامها في عمليات صناعية أخرى باعتبارها مادة خام؛ مما يؤدي إلى تقليل الانبعاثات الكربونية بنسبة 80 إلى 90%. ويتم إنتاج ما يقارب من 99% من الهيدروجين بواسطة الطريقتين السابقتين، وبتكلفة تتراوح حالياً بين خمسة إلى ثمانية يوروهات للكيلو غرام، ويرجع ارتفاع تلك التكلفة إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، ولاسيما بعد أزمة الطاقة العالمية الناتجة عن حرب أوكرانيا.

- الهيدروجين الأخضر: تتمحور مساعي أوروبا وألمانيا الحالية حول إنتاج الهيدروجين باستخدام تقنية التحليل الكهربائي للمياه عن طريق فصل الهيدروجين عن الأكسجين، ويتم استخدام الكهرباء الناتجة فقط عن مصدر طاقة نظيفة، كالطاقة الشمسية، والمائية، والرياح، أو حتى الطاقة النووية؛ مما يضمن إنتاج هيدروجين محايد بيئياً وخالٍ من أية انبعاثات كربونية. تتراوح تكلفة إنتاج الهيدروجين بتلك التقنية بين حوالي 4.60 إلى 7.30 يورو للكيلوغرام، ويُعزى ذلك التباين في التكاليف إلى اختلاف تكاليف إنتاج الطاقة المتجددة المستخدمة في إنتاج الكهرباء. ومن المتوقع أن تستمر التكلفة في الانخفاض إلى أن تصل بحلول عام 2030 إلى حوالي 1.90 يورو للكيلوغرام في جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، وفي دول الخليج العربي إلى نحو 1.50 إلى 2 يورو.

التحول الدولي نحو الهيدروجين:

تواجه عملية التحول الدولي نحو الهيدروجين كمصدر للطاقة تحديات معقدة، وذلك لبروز أهمية التعاون الاقتصادي والجهود الدبلوماسية بين الفاعلين الرئيسيين؛ إذ لا تحوز أية دولة حتى الآن على جميع أو أغلب العناصر المُتطَلبة في العملية الإنتاجية، فهناك دول تملك البنية التحتية، وأخرى تحوز التقدم التكنولوجي، وغيرها تتوافر لديها المواد الخام أو الاعتمادات المالية. 

كما يبرز تحدٍّ آخر، وهو عملية نقل الهيدروجين من دول مصدرة إلى أخرى تملك بنية تحتية، ولجأت الدول إلى استراتيجيات عدة لحل مشكلة النقل مثل: الاعتماد على الأنابيب لنقل الهيدروجين في حالته الغازية أو عبر السفن في حالته السائلة بواسطة عملية التبريد أو نقل مشتقاته مثل غاز الأمونيا. في هذا السياق، برزت جهود قوى دولية عديدة للتحول نحو الهيدروجين للاعتبارات البيئية أو بسبب نضوب مصادر الطاقة الأخرى وغيرها، من أبرزها:

- الاتحاد الأوروبي: يسعى إلى القيام بدور رائد في بناء السوق الهيدروجينية العالمية في ظل المنافسة المحتدمة مع الأقطاب الأخرى كالصين وروسيا؛ إذ أطلقت أوروبا مبادرات عدة مثل: خطة (REPowerEU) الهادفة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والتحول الأخضر، ومبادرة بنك الهيدروجين الأوروبي.  

- الصين: تستهدف تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة والاستدامة الصناعية بواسطة الهيدروجين، إذ قامت بكين بتدعيم القطاع المساعد لعملية الإنتاج مثل، زيادة إنتاج الألواح الشمسية، وتسعى لإنتاج بين 0.1 و0.2 مليون طن من الهيدروجين من مصادر الطاقة المتجددة سنوياً بحلول 2025.

- الولايات المتحدة الأمريكية: تنتهج استراتيجية تهدف لإنتاج 10 ملايين طن من الهيدروجين النظيف سنوياً بحلول عام 2030، و50 مليون طن سنوياً بحلول عام 2050، عن طريق تقديم الدعم الكامل للتكنولوجيا المطلوبة وعمليات الإنتاج.

- دول الخليج العربي: اقتربت بالفعل كل من سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، من تحقيق اقتصاد مستدام للهيدروجين (التصدير) وذلك لتوافر الموارد مثل: المساحة والشمس والرياح والغاز الطبيعي والتمويل المطلوب لعمليات الإنتاج. كما أطلقت العديد من الدول المبادرات والاستراتيجيات لتحذو حذو الدول الرائدة في المجال، ولكن لديها من الأسباب السياسية والتمويلية ما يعوقها مثل: روسيا والهند والمغرب.

سيناريوهات متوقعة:

ثمة ثلاثة سيناريوهات أساسية تطرحها الورقة البحثية لمستقبل قطاع الهيدروجين كمصدر للطاقة العالمية حتى عام 2040، على أساس عدة افتراضات تتعلق بحجم الموارد الطبيعية، والريادة التكنولوجية، والاستقلالية، والصراع العالمي (خاصة بين الغرب والصين)، وهي كما يلي:

السيناريو الأول: إعادة ترتيب أدوار الفاعلين الدوليين: إذ يَتصور هذا السيناريو بروز مراكز الريادة لاقتصاد الهيدروجين في الشرق (شرق إفريقيا والشرق الأوسط) وفقاً لمؤشرات عدة، كالسعي المتضافر للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية لزيادة أسهمها الاستثمارية في منطقة الخليج العربي. ففي عام 2031 ستقوم السعودية بافتتاح أكبر مصنع للصلب الأخضر في العالم في منطقة نيوم، يرتكز عمله على الهيدروجين، وذلك لتخصيصه للتصدير لدول الاتحاد الأوروبي بالأساس. أضف إلى ذلك العديد من الاتفاقيات بين الصين ودول الخليج، والمُزمع تنفيذها في المستقبل القريب، ففي عام 2028 ستقوم الصين بتوريد معدات التحليل الكهربائي الصينية مقابل استقدام الهيدروجين والمعادن والمواد البتروكيميائية من الخليج.

السيناريو الثاني: استمرار التبعية الأوروبية في مجال الهيدروجين: فبالرغم من سعي أوروبا لتحقيق استقلالية الطاقة في مجال الهيدروجين، فإن الظروف الحالية والمتوقعة لا تُعد مواتية لتحقيق هذا الهدف؛ إذ من المتوقع أن يتم التشغيل الأولي لمحطات التحليل الكهربائي في إسبانيا بحلول 2028. وسيترتب على ذلك زيادة مستويات الطلب الأوروبي من المواد الخام، خاصة من جنوب إفريقيا المصدرة الأولى للمواد الخام في مجال الهيدروجين؛ وبالتالي حدوث تبعية للدول المصدرة، وقد يزداد الأمر سوءاً وسط تكهنات باحتمالية قيام جنوب إفريقيا بعقد اتفاقات مع دول "البريكس" تهدف لتجميد إمداداتها الأوروبية.

السيناريو الثالث: الاتجاه الأوروبي للضغط السياسي في مجال الهيدروجين: إذ قد يعمد الاتحاد الأوروبي؛ إذا لزم الأمر إلى الضغط السياسي والاقتصادي وفرض مشروطيات على أنظمة الدول المصدرة للهيدروجين من أجل إبرام صفقات، والتأكد من استمرار توافر الإمدادات اللازمة للتحول الطاقوي في أوروبا. 

وعلى الرغم من أن تلك السيناريوهات ستؤدي إلى تحقيق أهداف الحماية المناخية الناتجة عن تقليل انبعاثات الكربون المتوقعة، فإن الورقة البحثية تشير إلى نتائج مخيبة للآمال لأوروبا؛ إذ ستنتقل مراكز الريادة التكنولوجية والصناعية إلى الدول الأفروآسيوية المتحكمة في سلاسل القيمة للقطاع الهيدروجيني آنذاك. ومن المتوقع أن يشهد العالم صعود قوى سياسية جديدة وأفول أخرى مسيطرة حالياً، ومن أبرز القوى المتوقع بروزها في هذا المجال هي دول الخليج ذات الدور المركزي في الاقتصاد الهيدروجيني في العالم.

تحالفات الهيدروجين:

طرحت الورقة البحثية عدة مقترحات لدعم التحول الأوروبي نحو الاعتماد على الهيدروجين من أبرزها، توفير المخصصات والمنح المالية الموجهة ناحية البحث والتطوير الداعم لعملية التحول الطاقوي، وذلك لعدم توافر إرث بحثي وتطويري سابق في ذلك المجال، فضلاً عن توجيه الدعم للصناعات والعمليات المصاحبة للتحول نحو الهيدروجين، كتطوير تقنيات التقاط وتخزين الكربون المُنبعث، وتخفيض التكاليف المصاحبة لتقنية التحليل الكهربائي للمياه من خلال التنويع بين الوسائل المستخدمة لتوليد الكهرباء، طاقة الرياح والطاقة الشمسية والمائية.

من جانب آخر، لا يعني التحول نحو الهيدروجين إنهاء الاعتمادية الأوروبية على الدول الأخرى لتوفير إمدادات الطاقة، لكنه سيؤدي وفقاً للسيناريوهات المتوقعة إلى تكوين اعتماديات جديدة على فاعلين آخرين، على الأقل لتوفير المواد الخام المُتضمنَة في عملية التحول. من هنا تنشأ الحاجة الماسة إلى توسيع قاعدة المُصدرين للمواد الخام والتكنولوجيا المطلوبة، وذلك لتفادي حدوث أيه مخاطر ناتجة عن تطورات السوق، وهو ما يقتضي تنويع العلاقات السياسية والدبلوماسية مع دول إفريقية وآسيوية. 

أخيراً، تدعو الورقة إلى إنشاء حوكمة عالمية للهيدروجين عن طريق توجيه الاستثمارات بشكل فعال وتوفير آليات للتبادل التكنولوجي والتكامل في الموارد. وكتطبيق عملي يمكن إنشاء تحالف يضم أهم المصدرين والمستوردين الرئيسين في سوق الهيدروجين، ويمكن لهذا التحالف الاعتماد على المؤسسات الموجودة بالفعل مثل، البنك الأوروبي للهيدروجين الذي سيضمن تحقيق التكامل في سلاسل القيمة والإمدادات وتوفير إطار تنظيمي يمكن الاسترشاد به عند إبرام العقود التجارية والتبادلية.

المصدر:

Deutsches Institut für Internationale Politik und Sicherheit, Die Geopolitik des Wasserstoffs, November, 2023.