المصري اليوم:

محمود قاسم يكتب: الحوار الخماسى: لماذا لن تقود مبادرة «باتيلى» إلى اختراق الجمود الليبى؟

06 January 2024


شهدت الساحة الليبية زخماً وردود أفعال متباينة خلال الأيام الماضية، وذلك على خلفية مساعي المبعوث الأممي في ليبيا، عبدالله باتيلي، لإقناع الأطراف الرئيسية المنخرطة في الأزمة الليبية بالجلوس على طاولة المفاوضات لبحث سُبل تسويتها، وإنهاء المرحلة الانتقالية التي طال أمدها نتيجة الخلافات القائمة بينها والتي تصطدم دائماً بالمصالح المتناقضة للأطراف كافة.

ودعا باتيلي، في شهر نوفمبر الماضي، الأطراف الخمسة الكبار في ليبيا إلى حوار سياسي يضم كلاً من رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكاله، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، بالإضافة إلى قائد الجيش الليبي، المشير خليفة حفتر، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي؛ وذلك في إطار محاولة جديدة لإنجاز المرحلة الانتقالية.

وخلال إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي في 18 ديسمبر 2023، أشار باتيلي إلى أن الأطراف الخمسة التي تم اختيارها "إما قادرة على التوصل إلى توافق وإحراز تقدم في العملية السياسية أو إطالة الانسداد ومنع ليبيا من إجراء انتخابات سلمية". وتابع: "إن التنافس فيما بينها وانعدام الثقة هو أساس هذه الأزمة التي طال أمدها".

وترتيباً على ما سبق، يمكن الوقوف على مبادرة المبعوث الأممي في ليبيا، لمعرفة ما إذا كان بإمكانها إحداث حراك في مواقف الأطراف الليبية أم أنها ستكون بداية لمزيد من التعقيد في الأزمة.

طرح مُعاد:

لا يبدو أن ليبيا أمام طرح جديد على الأقل فيما يظهر من الملامح الأولية للمبادرة التي يُعول عليها باتيلي، ويمكن أن يكون اكتمالها مرهوناً بالخطوة الإجرائية الأولى التي يسعى المبعوث الأممي لإنجازها والتي ترتبط بعقد اجتماع تحضيري لممثلي الأطراف الخمسة أو من ينوب عنهم لوضع الخطوط العريضة للمرحلة القادمة. وهذا ما أكده باتيلي خلال إحاطته الأخيرة بمجلس الأمن، إذ قال: "كخطوة أولى نحو عقد اجتماع الأطراف الخمسة الرئيسية، طلبتُ تسمية ثلاثة ممثلين عن كل منها للمشاركة في جلسة تحضيرية للاتفاق على معايير اجتماع القادة الرئيسيين، بما في ذلك موعد الاجتماع ومكانه وجدول أعماله".

حتى هذه الخطوة تُثار الشكوك حول إمكانية الوصول إليها من الأساس، ما يعني أن ثمة صعوبة بالغة في اتخاذ الخطوة الأولى لتحويل تلك المبادرة إلى طرح حقيقي وملموس يمكن البناء عليه.

ويمكن ملاحظة أن مساعي باتيلي لا تخرج عن كونها إعادة طرح لما كان قد أعلن عنه في وقت سابق، خلال إحاطته في مجلس الأمن في فبراير الماضي، عندما أعلن عن ضرورة تشكيل لجنة رفيعة المستوى للجمع بين الأطراف الليبية المعنية بالأزمة للعمل على إنجاز مهمة وضع إطار قانوني وجدول زمني لإجراء الانتخابات وإنهاء المرحلة الانتقالية. وعلى الرغم من ذلك، لم تفلح مساعي باتيلي في إنجاز هذه المهمة، في ظل حالة الرفض التي تبلورت مع طرح المبادرة، بجانب الإشكاليات الأخرى التي ارتبطت بصلاحيات البعثة الأممية وحدود تدخلها في رسم وتشكيل مسار العملية الانتقالية في ليبيا.

وفي ضوء طرح باتيلي السابق والملامح الأولية للمبادرة الحالية، لا يبدو أن هناك تغيراً جوهرياً في الظروف أو التفاعلات القائمة يمكن أن يقود إلى تغير كبير في المرحلة الانتقالية. ويُعد التغير الوحيد الذي يمكن ملاحظته هو تمديد ولاية البعثة الأممية بقرار من مجلس الأمن في أكتوبر الماضي. ومع أن التمديد أمر اعتيادي في مثل هذه الحالات، فإن طرح المبادرة يشير إلى مساعي باتيلي لإضفاء زخم جديد تزامناً مع تمديد ولايته، إذ أظهرت الفترة الماضية توجهاً لديه لتحريك المياه الراكدة أو على الأقل محاولة كسر الجمود الذي يسيطر على التفاعلات السياسية في ليبيا.

وقد يكون طرح المبادرة في الولاية الثانية للمبعوث الأممي الحالي مرتبطاً بفكرة التدرج أو التقدم المحسوب، بحيث ركز باتيلي خلال ولايته الأولى على فكرة إخراج المشهد الليبي من حالة "العسكرة" التي كانت تسيطر عليه والعمل على الحفاظ على قواعد الاشتباك العسكري عبر التنسيق المستمر مع اللجنة العسكرية (5+5)، الأمر الذي أفضى إلى تراجع الحالة الصراعية بين الفصائل العسكرية المختلفة أو على أقل تقدير أسهم في تسكينها. فباستثناء الاشتباكات التي دارت في العاصمة طرابلس في أغسطس الماضي بين "اللواء 444 قتال" و"قوات الردع الخاصة"، لم تشهد ليبيا أي تصعيد لافت بين المكونات أو الفصائل العسكرية المختلفة.

ووفقاً لتلك الرؤية، فقد تكون المبادرة بمثابة الخطوة الثانية في مهمة باتيلي، والتي استهدفت في البداية تثبيت الوضع العسكري والميداني بعيداً عن التصعيد، كخطوة للانتقال للمسار السياسي والعمل على إنجاز خارطة الطريق، ومع ذلك تثير هذه الرؤية إشكالية تتعلق بإمكانية عودة التصعيد مرة أخرى، إذ ما تناقضت خارطة الطريق مع مصالح الفاعلين المحليين.

اختراق صعب:

يعتمد الحكم على نجاح أو فشل أي تحول سياسي في ليبيا على مجموعة من العوامل الرئيسية، من بينها طبيعة التفاعلات السياسية القائمة في مرحلة ما قبل الحديث عن التحول السياسي، بجانب خصائص القادة الفاعلين في تلك العملية ومدى تعاطيهم مع التحول المُحتمل، والجهات الفاعلة غير الحكومية وحدود الدور الذي يمكن أن تقوم به تجاه نجاح عملية التحول أو إفشالها، فضلاً عن الفاعلين الدوليين ومدى تأييدهم أو دعمهم لعملية الانتقال السياسي. وفي محاولة لإسقاط هذه العوامل على مبادرة باتيلي، يمكن استخلاص مجموعة من الاتجاهات الرئيسية على النحو التالي:   

1- معضلة الدور وهندسة المبادرة: على الرغم من الآمال التي علقها المتابعون للأزمة الليبية على باتيلي كأول مبعوث إفريقي يتولى مهام البعثة الأممية في هذا البلد، فإن المحصلة النهائية خلال العام الأول من ولايته أظهرت قدراً من الارتباك في أداء البعثة، خاصةً أن باتيلي قام بتغيير مواقفه من العملية الانتقالية أكثر من مرة. إذ أعلن منذ البداية رفضه تشكيل حكومة جديدة، معتبراً أن هذا الأمر مضيعة للوقت، الأمر الذي تبدل في الأشهر الماضية بعدما بدأ ينادي بتشكيل حكومة موحدة للإشراف على العملية الانتقالية.

 من ناحية أخرى، لم تنجح البعثة الأممية في ممارسة أية ضغوط على الأطراف المُعرقلة لخارطة الطريق. كما أن باتيلي عمد خلال الفترة الماضية إلى إبداء ملاحظاته دون وضع خطط مكتملة لإنهاء الجمود السياسي والانسداد المسيطر على التفاعلات الليبية. وتُعد الدعوة لاجتماع خماسي منقوصة؛ نظراً لعدم تحديد جدول زمني محدد، وغياب التصور الشامل بشأنها. وبالرغم من أن هذا الأمر مؤجل للاجتماعات التحضيرية كما أعلن باتيلي أمام مجلس الأمن، فإن ذلك لا ينفي أن هندسة هذه المبادرة كانت تحتاج إلى مزيد من الترتيب قبل إعلانها حتى لا تتحول إلى منتدى حواري بين الأطراف الليبية لا يحقق أية نتائج ملموسة على أرض الواقع.

2- استمرار الانقسام وغياب التوافق: على غرار المحاولات الرامية لتحقيق انفراجة في المشهد الليبي، فإن مبادرة باتيلي اصطدمت بالفجوة بين الأطراف المنخرطة في هذا المشهد. إذ ما تزال أزمة الثقة والمصالح المتناقضة عائقاً أمام تحقيق تقدم في مسار الانتقال السياسي، وبدا ذلك من مواقف الأطراف المشمولة بالاجتماع الخماسي، إذ ربط مجلس النواب الليبي والقيادة العامة للجيش مشاركتهما أو تجاوبهما مع المبادرة بضرورة مشاركة رئيس حكومة الاستقرار، أسامة حماد، أو استبعاد رئيس حكومة الوحدة، الدبيبة. وهو الأمر الذي يفرض مزيداً من القيود على دخول المبادرة حيز التنفيذ، خاصةً أن حكومة الاستقرار وبالرغم من أنها منبثقة عن مجلس النواب، فإنها لا تحظى بالشرعية أو الاعتراف الدولي، كما أن حكومة الدبيبة ما تزال تواجه أزمة شرعية في شرق ليبيا وجنوبها. وهذا التناقض والصراع حول إثبات الشرعية قد يهدر أي فرص للتوافق بشأن المبادرة، خاصةً أن إقناع أحد الأطراف بتقديم تنازل قد يكون مستبعداً.

من ناحية أخرى، أبدى الدبيبة موافقة سريعة على المشاركة في الاجتماع الخماسي، ويبدو أنه حاول أن يظهر بصورة الداعم لمبادرات التسوية على خلاف باقي الأطراف الليبية، إلا أن الشروط التي أعلنها ورأى أنها ضرورية لإنجاح المبادرة، تشير إلى تمسكه بنفس مواقفه السابقة، إذ حدد الدبيبة الشرط الثالث في رفض ما وصفها بـ"المسارات الجانبية"، معتبراً أن أي مسار يؤدي إلى مرحلة انتقالية جديدة هو مضيعة للوقت ومرفوض من الشعب الليبي. وهذا يعني أن الدبيبة يضع شرطاً يضمن بقاءه في التفاعلات الليبية مستقبلاً، الأمر الذي يعيد الأمور إلى نقطة البداية فيما يتعلق بمن يشرف على العملية الانتخابية.

وعلى الرغم من انتهاء الاجتماع الثلاثي الذي عُقد في القاهرة يوم 16 ديسمبر الجاري، وضم كلاً من رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، وقائد الجيش الليبي، المشير خليفة حفتر، بتأكيد المشاركة في جولة الحوار التي دعا إليها المبعوث الأممي؛ فإن هذه المشاركة قد تصطدم بعدد من الاعتبارات، منها أن الإعلان عن المشاركة من قِبل صالح وحفتر ظل مشروطاً، ما يعني أن جلوسهما على طاولة المفاوضات سيبقى مرهوناً بالتنازل الذي يمكن أن يُقبل عليه باتيلي، سواءً باستبعاد الدبيبة أم ضم حماد للطاولة الخماسية وتحويلها إلى طاولة سداسية. 

حتى لو حدث اختراق في هذا الأمر، فإن جلوس الأطراف الليبية على طاولة المفاوضات قد يفرز جملة أخرى من التعقيدات، في ظل إصرار الدبيبة على بقائه في منصبة لحين إجراء الانتخابات، وهو الهدف الذي لن يتخلى عنه، خاصةً بعدما فشلت محاولة عقيلة صالح في إقناع تركيا بالتخلي عن حكومة الوحدة الوطنية، خلال زيارته الأخيرة لأنقرة في 13 ديسمبر الجاري. 

تُضاف إلى ذلك، التعقيدات المرتبطة بموقف كل طرف من القوانين الانتخابية التي أقرها مجلس النواب الليبي، إذ يتمسك بها الأخير باعتبارها تعبر عن الشرعية الليبية، في حين يقف المجلس الأعلى للدولة في اتجاه معارض لتلك القوانين، في ظل اتهامه لمجلس النواب بإجراء تعديلات تتجاوز ما تم التوافق عليه في اجتماعات اللجنة المشتركة (6+6) المعنية بإعداد القوانين الانتخابية.

3- استبعاد بعض الأطراف الوازنة: استبعدت دعوة باتيلي بعض الأطراف المؤثرة في ليبيا، ومن بينها أعضاء النظام السابق وشيوخ وأعيان القبائل والأحزاب السياسية. وعلى الرغم من الأوزان النسبية المختلفة لتلك المكونات، والتي تأتي في مرتبة أقل من الأطراف الخمسة المشمولة بدعوة المبعوث الأممي، فإن عدم إشراكها قد يؤدي إلى معالجة منقوصة، إذ ما يزال أنصار النظام السابق يتمتعون بقبول شعبي لدى عديد من الليبيين.

 وفي هذا الإطار، رأت بعض التقديرات أن إعلان أنصار النظام السابق الانسحاب من مشروع المصالحة الوطنية في 15 ديسمبر الجاري، كان مدفوعاً في جزء منه بعدم دعوة ممثلي الفريق السياسي لسيف الإسلام القذافي لحضور الاجتماعات التي دعا إليها المبعوث الأممي. كما أن دور القبيلة في ليبيا يظل محدداً مهماً في مستقبل عملية الانتقال السياسي، وقد يظهر تأثيرها بصورة أوضح إذا ما تم اللجوء إلى العملية الانتخابية. وعليه فإن التعامل مع القبائل الليبية على أنها جزء رئيسي في رسم مسار الانتقال السياسي، يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية، على خلاف استبعادها من تلك الاجتماعات. وفي هذا الصدد، كانت قبائل البربر والطوارق والتبو قد طالبت، في بيان يوم 16 ديسمبر الجاري، بإشراكها في الحوار السياسي المرتقب، ودعت باتيلي إلى مراجعة مبادرته كي تشمل ممثلين فاعلين للشعوب الأصلية بما يمنع تعميق الثغرات السياسية.

وهذه الأمور كانت قد عالجها باتيلي خلال دعوته التي تم الإعلان عنها في فبراير الماضي، إذ أكد وقتها ضرورة تشكيل لجنة رفيعة المستوى ستجمع كل أصحاب المصلحة الليبيين المعنيين، بمن فيهم ممثلو المؤسسات، وأهم الشخصيات السياسية، والقادة القبليين، ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية، والنساء والشباب. وهذه الشمولية لا تظهر في المبادرة الأخيرة التي اقتصرت على الفاعلين الخمسة الكبار في المشهد الليبي.

4- الانشغال الدولي والإقليمي بحرب غزة: فرضت أحداث الحرب الإسرائيلية في غزة نفسها على قائمة أولويات المجتمع الدولي، بحيث أصبحت محوراً لحركة القوى الدولية والإقليمية منذ 7 أكتوبر الماضي، وعليه حوّلت الاهتمام – ولو مؤقتاً- بعيداً عن القضية الليبية أو الأزمات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما قد يؤثر في مبادرة باتيلي بدرجة ما، إذ إن الانشغال الدولي والإقليمي قد لا يسمح بممارسة الضغط على الأطراف الليبية للانخراط والتفاعل الإيجابي مع الدعوة للحوار. 

بمعنى آخر، قد تفتقد مبادرة باتيلي للدعم الدولي والإقليمي اللازم للدفع بها للأمام في ظل التوتر الإقليمي الحالي، ما يعني أن العامل الداخلي سيكون المحدد الأكبر في هذه الحالة والضامن لنجاح أو فشل هذه المبادرة. وفي ظل ثبات المواقف الداخلية والانقسام بشأن تلك المبادرة، فلا يُرجح أن يحدث اختراق كبير بهذا الخصوص ما لم تضغط الأطراف الخارجية لإقناع القوى الداخلية بالتعاطي الإيجابي مع طرح باتيلي.

في الأخير، من غير المُرجح أن تسهم الدعوة للطاولة الخماسية في تجاوز حالة الجمود السياسي والاستقطاب التي تهيمن على التفاعلات الليبية، في ظل رغبة الأطراف الليبية المؤثرة في إبقاء الوضع القائم دون تغيير، وهو الوضع الذي يحقق مصالح الجميع ويضمن استمرارهم في تلك المعادلة المتشابكة. كما أن الظروف الإقليمية والدولية تجعل الحديث الجاد عن انفراجة حقيقية في المشهد الليبي مؤجلاً لبعض الوقت.

* باحث متخصص فى قضايا الإرهاب والصراعات المسلحة

*لينك المقال في المصري اليوم*