تعزيز الشراكة:

محفزات توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون وكوريا الجنوبية

31 December 2023


شهدت العاصمة الكورية الجنوبية، سيول، التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجمهورية كوريا الجنوبية، يوم 28 ديسمبر 2023، وذلك بَعْد ستة عشر عاماً من بداية أولى جولات التفاوض حول تحرير التجارة بين الجانبين في عام 2007، إذ عُقِدَت ثلاث جولات من المفاوضات إلى أن توقفت في عام 2010، لتعود مرة أخرى في عام 2022 حتى تم التوقيع على الاتفاقية.

تحرير التجارة بين دول المجلس وكوريا الجنوبية من شأنه أن يعود بالفوائد على الطرفين في ظل تخفيضات الرسوم التي ستطال معظم بنود التجارة بينهما. ولم يكن بالمستطاع التوصل إلى هذه الاتفاقية لولا اجتماع إرادة الطرفين في ظل إدراك متزايد للأهمية الاستراتيجية لكل منهما. وقد جاء التوصل إلى هذه الاتفاقية بَعْد أشهر قليلة من توصُل مجلس التعاون لاتفاقية تجارة حرة مع باكستان في شهر سبتمبر الماضي، كما أن هناك مفاوضات قائمة بين المجلس ودول آسيوية أخرى.

الأهداف والمحفزات:

عندما تدخل الدول والتجمعات في علاقات تعاونية أو صراعية، فإن ذلك يرتبط بمصالح تريد تحقيقها أو فوائد تريد حرمان الطرف الآخر منها. وبما أنه لا يوجد صراع بين دول مجلس التعاون وكوريا الجنوبية، فإن الأساس هو تعظيم المصالح وزيادة الفوائد في ظل علاقات تعاونية وثيقة.

كوريا الجنوبية من جانبها تعتمد اعتماداً شبه كلي على وارداتها من مصادر الطاقة، خاصة النفط والغاز، من منطقة الشرق الأوسط، وتسهم دول مجلس التعاون بنسبة تصل إلى 70% من واردات النفط إلى كوريا في معظم السنوات، كما أن النفط ومشتقاته غالباً ما يمثلان أكثر من 90% من إجمالي الواردات الكورية من دول المجلس.

على سبيل المثال، فإن نسبة الوقود والزيوت المعدنية مثلت 94% من إجمالي الواردات الكورية من دول المجلس في عام 2020، بقيمة بلغت 33.1 مليار دولار من إجمالي 35.2 مليار دولار استوردتها كوريا الجنوبية من دول المجلس في هذا العام. وفي عام 2021 كانت النسبة 91.6% بقيمة 35.99 مليار دولار من أصل 39.3 مليار دولار إجمالي صادرات دول المجلس لكوريا الجنوبية.

هذه المسألة ليست مجرد مسألة تبادل تجاري بَحْت، وإنما هي مسألة استراتيجية؛ فمصادر الطاقة هي عماد الصناعة الكورية، وضمان التدفق الآمن والسلس، وبأسعار معقولة، مسألة أمن قومي بالنسبة لكوريا، ومن ثم تحرص على بِنَاء شبكة علاقات قوية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما يبرز في كثافة زيارات كبار المسؤولين الكوريين إلى دول المجلس، بما في ذلك المستوى الرئاسي. كما أن هناك سلسلة من اتفاقيات التعاون الثنائية مع دول المجلس. أضف إلى ذلك العوائد الضخمة التي تجنيها الشركات الكورية من التعاقدات التي تبرمها مع دول المنطقة لبناء مشروعات ضخمة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مشروع "محطة براكة للطاقة النووية" في الإمارات العربية المتحدة. وتنافس الشركات الكورية على مشروعات أخرى كثيرة في ظل طفرة قطاع الأعمال في دول المجلس، والتي لديها خطط مستقبلية تتضمن مجالات يُمكِن للشركات الكورية أن تنافس فيها بقوة، ومنها مشروعات البنية التحتية والطاقة النظيفة.

وترنو كوريا الجنوبية إلى أسواق دول المنطقة بالنسبة للسلع المُصنَّعة كالسيارات خاصة الحديثة منها، وترغب في إيجاد أسواق أوسع لمنتجات لم تَكُن تنافس فيها منذ عقود أو حتى سنوات قريبة، ومنها الآلات والمعدات، وكذلك الأسلحة؛ إذ أصبحت كوريا الجنوبية في السنوات الأخيرة ضِمْن أهم مصدري السلاح في العالم، ومن ثم فقد كثفت مشاركاتها في المعارض الدفاعية التي تُعقَد في دول مجلس التعاون.

من جانبها، تولي دول مجلس التعاون اهتماماً كبيراً للقوى الآسيوية، خاصة في ظل مؤشرات الصعود الآسيوي المتواصل. هذا الاهتمام تجلى في الكثير من المؤشرات من بينها انتهاج سياسة "التوجه شرقاً" في السياسات الخارجية لدول المجلس، والتي انعكست على سياسات المجلس. وهنا يُلاحَظ أن دول مجلس التعاون قد انخرطت في علاقات قوية مع الدول الآسيوية وأضحت عضواً في الكثير من التجمعات والمؤسسات مثل: "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية"، وشاركت في العديد من مؤتمرات التعاون وإجراءات بناء الثقة في آسيا، واستضافت دول المجلس مكاتب لبعض هذه المؤسسات كما حدث بالنسبة للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي افتتح أول مكتب له خارج الصين في العاصمة الإماراتية، أبوظبي، في سبتمبر 2023.

وكما تحرص سيول على الحصول على مصادر الطاقة بسلاسة واستمرارية وبأسعار معقولة، فإن دول المجلس حريصة على استمرار وديمومة وسلامة سلاسل إمداد الطاقة، بل وتتجه دول الخليج في ظل تنويع اقتصاداتها والحفاظ على ديمومة مشروعات التنمية والتطوير إلى التوجه نحو تكثيف مشروعات الطاقة النظيفة، وهنا تظهر القوى الآسيوية، بما فيها كوريا الجنوبية، بما تمتلكه من مهارات وخبرات للتعاون في هذه المشروعات الضخمة.

ومما لا شك فيه، فإن اتفاقيات التجارة الحرة التي توقعها دول مجلس التعاون مع أطراف خارجية تؤشر على المدى الذي قطعته في عملية التكامل الإقليمي فيما بينها، وكذلك المستوى الذي بلغته علاقاتها مع هذه الدول؛ وهذا ما أشار إليه الأمين العام لمجلس التعاون، جاسم محمد البديوي، عند التوقيع على البيان المُشترَك لختام المفاوضات والتوصل إلى الاتفاقية مع وزير التجارة الكوري الجنوبي، آن دوك جيون، فقد اعتبر أن الأمر يمثل "خطوة تاريخية نحو تحقيق التكامل الاقتصادي الخليجي ونحو تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين". ولا شك أيضاً في أنه عندما تدخل دول المجلس كتجمع مع دولة أو تجمع آخر في مفاوضات، فإن ذلك يعني أن هناك معايير مُوحَدة وسياسات مُنسَقَة وقواعدَ مُتفَق عليها للتطبيق. ومن ثم فإنه في حالة كوريا الجنوبية كانت هناك مفاوضات بين الجهتين المعنيتين بالمقاييس والمعايير من الطرفين، فهذه المسائل الفنية ذات تأثير كبير في عملية تحرير التجارة.

على سبيل المثال، عَقَدَت هيئة التقييس لدول مجلس التعاون والوكالة الكورية للتكنولوجيا والمواصفات اجتماعاً في شهر يوليو 2023 تم خلاله التوقيع على برنامج للتعاون للعام 2023/2024 بهدف "تعزيز التنسيق والتعاون في مجالات المواصفات القياسية وإجراءات التحقق من المطابقة وبناء القدرات"، وقد أكد رئيس هيئة التقييس الخليجية، سعود بن ناصر الخصيبي، أن مذكرات التفاهم وبرامج التعاون المتواصلة مع الجانب الكوري من شأنها المساهمة في "إزالة معوقات فنية للتجارة بين الدول الأعضاء بالهيئة وجمهورية كوريا، بما يعزز روح الشراكة القائمة بين الجانبين في مجال المواصفات والمقاييس والتحقق من المطابقة، والجودة والتدريب"، معتبراً أن "مواءمة المواصفات القياسية واللوائح الفنية وإجراءات التحقق من المطابقة الركيزة الأساسية لتسهيل وزيادة التبادل التجاري".

المنافع المُتوقَّعة للجانبين:

حَسْبَ ما هو متاح من بيانات، تتضمن الاتفاقية ثمانية عشر فصلاً، من بينها تجارة السلع والخدمات والتجارة الرقمية والمشتريات الحكومية والملكية الفكرية والشركات الصغيرة والمتوسطة والإجراءات الجمركية؛ وهو ما يعني رغبة الطرفين في توسيع الشراكة، كما يتضح في تصريح وزير الخارجية الكوري الجنوبي، بارك جين، عند استقباله الأمين العام لدول مجلس التعاون بعد التوقيع، إذ أعرب عن أمل بلاده في أن "تصبح اتفاقية التجارة الحرة أساساً مهماً لتوسيع التجارة مع دول المجلس، وأعرب الأمين العام لمجلس التعاون عن أمله في "توسيع التعاون بين الجانبين ليشمل مجالات مثل التصنيع وصناعة الدفاع والرعاية الطبية والثقافة وغيرها".

وفي تصريح منسوب لأحد المسؤولين في وزارة التجارة الكورية، فإن الاتفاقية تُعد بمثابة "فرصة لتوسيع نطاق ازدهار الأعمال في الشرق الأوسط". ومن بين المنتجات التي تأمل كوريا في زيادة صادراتها منها على ضوء الاتفاقية، السيارات وقطع غيارها والآلات. والواقع أن هذه المكونات هي بالفعل أهم بنود الصادرات الكورية الجنوبية لدول مجلس التعاون. وبحسب أرقام المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون في عام 2021، شكلت السيارات ومكوناتها حوالي 24.7% من إجمالي الصادرات الكورية لدول مجلس التعاون، وإذا أضيفت إليها الآلات والمعدات والأجهزة الكهربائية، تقفز النسبة إلى 54.1% في العام ذاته.

وفي ظل التخفيضات التي ستطال الرسوم الجمركية والإلغاءات التي سوف تتم طبقاً للاتفاقية، تأمل كوريا الجنوبية أن تقلل من نسبة العجز في الميزان التجاري المزمن مع دول مجلس التعاون؛ فعلى مدار تسع سنوات، بدءاً من عام 2013، كانت أقل قيمة للعجز في الميزان التجاري الكوري مع دول المجلس (أي تُشكِّل فائضاً لدول المجلس) هي 17.6 مليار دولار في عام 2016، بينما كانت القيمة الأكبر في عام 2013 حين بلغت 80.4 مليار دولار.

التخفيضات والإلغاءات للرسوم الجمركية لن تطال السلع الكورية فقط، إذ تشير المصادر الكورية إلى أن الاتفاقية تتضمن إلغاءً للرسوم الجمركية على حوالي 90% من العناصر التي يتم استيرادها من دول مجلس التعاون، وتدخل فيها المنتجات البترولية، وغاز البترول المسال والغاز الطبيعي المسال؛ وهذا سيكون بمثابة ميزة كبيرة لمنتجات دول مجلس التعاون، خاصة في ظل الرسوم العالية التي تُفرَض على تلك المنتجات من دول أخرى.

ولا تقف الفوائد المرجوة من قِبَل دول مجلس التعاون على صادرات النفط والغاز، إذ سوف تزيد فرص دول المجلس في شقين، أحدهما تعزيز تجارة إعادة التصدير مع كوريا الجنوبية، وثانيهما إمكانيات تعزيز القاعدة الصناعية في دول المجلس في ظل الشراكة مع كوريا.

ختاماً، فإن توقيع اتفاق التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون وكوريا الجنوبية سوف يعزز كافة أطر التعاون ويعود بفوائد للجانبين في المجالات المختلفة، أخذاً في الاعتبار أن أي اتفاقية للتجارة الحرة لا ترتبط فقط بالتنفيذ، ولكن أيضاً بأحوال الأسواق، خاصةً في أوقات عدم اليقين والتقلبات الشديدة. ويبقى في كل الأحوال أن كوريا الجنوبية أبرمت اتفاقاً مع دول الخليج من شأنه أن يعزز فرص توسيع نطاق أعمالها في منطقة الشرق الأوسط، وأن دول الخليج تسعى لتعزيز علاقات الاستثمار والتجارة مع الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين في آسيا وأنها ماضية قدماً في طريق إبرام اتفاقات مماثلة مع الصين واليابان ودول آسيوية أخرى.