طمأنة الحلفاء:

دوافع عودة زيارات الغواصات النووية الأمريكية للموانئ الأجنبية

26 December 2023


عرض: دينا محمود

جذبت زيارة الغواصة النووية الأمريكية "يو أس أس كنتاكي" (SSBN-737) إلى قاعدة بحرية رئيسية في بوسان، في كوريا الجنوبية، في يوليو 2023، اهتمام وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم لكونها أول زيارة لهذه الغواصة إلى كوريا منذ الثمانينيات أي منذ أكثر من أربعة عقود. 

خلال الحرب الباردة، قامت البحرية الأمريكية بترتيب زيارات لغواصات (SSBN) إلى الموانئ الأجنبية بشكلٍ منتظم، لكن انخفضت وتيرة هذه الزيارات بعد الحرب الباردة بشكل ملحوظ حتى عادت بشكل أكثر بروزاً منذ عام 2015. ويثير هذا التغيير في النمط تساؤلات عدة حول الأساس المنطقي لعودة الزيارات بعد أن أصبحت هذه الممارسة شبه منعدمة لمدة عشرين عاماً.

في هذا السياق، يناقش التقرير الصادر عن "مؤسسة البحوث الاستراتيجية" ((FRS في نوفمبر 2023، التغير في موقف البحرية الأمريكية تجاه إرسال سفنها (SSBN) إلى الموانئ الأجنبية خلال الحرب الباردة وما بعدها. ويلقي الضوء على دوافع الولايات المتحدة لوقف هذه العمليات، ثم عودتها في ضوء التغيرات الجيوسياسية الحالية، وهو ما قد يعكس العديد من الأولويات السياسية والاستراتيجية المهمة للولايات المتحدة وحلفائها.

دوريات الردع:

على الرغم من أنه لم يحظ بالكثير من الاهتمام، فإن التوقف في الموانئ البحرية الأجنبية كان نمطاً شائعاً للمقاتلات الأمريكية خلال الحرب الباردة، خاصة بين نهايتي السبعينيات والثمانينيات، وتطورت هذه الممارسة مع قيام البحرية بتطوير ترسانتها من غواصات (SSBN) في مسارح المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ.

كانت الولايات المتحدة قد وافقت بعد أزمة الصواريخ الكوبية، على إزالة الصواريخ البالستية النووية متوسطة المدى المنتشرة في تركيا (PGM-19 Jupiter) مقابل إزالة الصواريخ السوفيتية في منطقة البحر الكاريبي. وبعد هذا التفاهم السري، وقَّعت واشنطن مذكرة مع الحكومة التركية وافقت بموجبها الولايات المتحدة على تقديم مستويات أعلى من المساعدات العسكرية للتعويض عن انسحاب صواريخ "جوبيتر". 

بناءً عليه، نشرت الولايات المتحدة غواصة "يو أس أس جون مارشال SSBN-611" في ميناء إزمير (تركيا) في أكتوبر 1962. وكانت هذه أول زيارة لميناء بحري أجنبي على الإطلاق بواسطة غواصة صواريخ بالستية نووية من طراز "يو أس أس"؛ إذ كان الهدف من ذلك طمأنة تركيا بشأن التزام الولايات المتحدة بأمنها. ثم تمت الزيارة الثانية إلى إزمير في إبريل 1963 بواسطة "يو أس أس هيوستن SSBN-901"، وحظيت بتغطية إعلامية إيجابية في البلاد. لم تكن الزيارة بمثابة بيان استراتيجي لقوة البحرية الأمريكية في البحر الأبيض المتوسط فحسب، بل كانت تهدف أيضاً إلى تحسين العلاقات الثنائية بين واشنطن وأنقرة.

تجدر الإشارة إلى أن الأجيال الأولى من الغواصات الأمريكية كانت مجهزة بالصواريخ البالستية "بولاريس" التي تطلق من الغواصات (SLBMs)، ولاحقاً بصواريخ "بوسيدون" (SLBMs)، التي كان مداها أقل أو يزيد قليلاً عن 5 آلاف كيلومتر. وعمدت شبكات (SSBN) الأمريكية إلى القيام بدوريات ردع بعيداً عن القارة الأمريكية، خاصة في شمال المحيط الهادئ وشمال المحيط الأطلسي، لمواجهة الوجود المتنامي للاتحاد السوفيتي والصين التي عملت على تعزيز قواتها هناك.

هكذا، تم استخدام بحيرة هولي لوخ، في إسكتلندا، كقاعدة بحرية أمريكية من عام 1961 إلى عام 1992 (كانت تضم سرباً من الغواصات 14)، وتم استخدام قاعدة روتا البحرية الأمريكية في إسبانيا، من عام 1964 إلى عام 1979 (كانت تضم سرباً من الغواصات 16). وكان لاستخدام القواعد المتقدمة في أوروبا وآسيا أهمية استراتيجية ولوجستية حاسمة. 

مع ذلك، فمن المثير للاهتمام أنه منذ نهاية السبعينيات فصاعداً، لم يمنع ذلك الولايات المتحدة من إرسال غواصات الصواريخ البالستية الأمريكية (SSBNs) إلى الموانئ الأجنبية للزيارات، بما يتوافق مع الدوافع السياسية وأهداف إدارة التحالف. كانت هذه الزيارات نادرة للغاية في الستينيات وحتى عام 1975، ولكنها أصبحت بعد ذلك سمة من سمات الدوريات في المسرح الأورومتوسطي وفي آسيا. 

أما في المحيط الهادئ، فكان "سرب الغواصات 15" متمركزاً في غوام من عام 1964 إلى عام 1981، وكثيراً ما توقفت الدوريات التي تبدأ من غوام لبضعة أيام على الشاطئ في كوريا الجنوبية. وبدأت سفن (SSBN) الأمريكية في زيارة ميناء تشينهاي في الهند بانتظام في وقت مبكر من عام 1976 وحتى عام 1981، مُسجلة ما لا يقل عن 33 زيارة، مما يجعله واحداً من أكثر الموانئ الأجنبية زيارة خلال الحرب الباردة، مما يشير بدوره إلى أهمية المخاوف المتعلقة بإدارة التحالف، خاصة في أوقات التوترات الجيوسياسية المتزايدة. 

تراجع الزيارات:

انخفضت وتيرة الزيارات بشكل كبير بعد الحرب الباردة، وهناك عدة عوامل قد تفسر هذا الانخفاض، ففي ضوء تحسن المناخ الجيوسياسي، بدا أن خطر نشوب صراع نووي يتضاءل، الأمر الذي أدى إلى خفض مستوى التأهب للقوات النووية ومنح دوراً أقل للأسلحة النووية في السياسة الأمنية الأمريكية. إذ تم تقليص عدد الدوريات، وتم إغلاق بعض القواعد الأجنبية أو الخارجية (على غرار بحيرة هولي لوخ) أو لم تعد تُستخدم كقواعد دائمة للغواصات (كغوام وروتا). وأدت اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية دوراً في تقليل عدد الأسلحة النووية المنتشرة في البحر، وعدد شبكات غواصات (SSBN) العاملة، وبالتبعية وتيرة الزيارات. 

بالإضافة إلى هذه التطورات السياسية، أسهم عامل آخر، وهو تطور شبكات (SSBN) والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات، في تقليل ضرورة التوقف في الخارج، فقد تم تجهيز الصواريخ البالستية من فئة أوهايو بثلاث فتحات لوجستية ذات قطر أكبر، تمكن أفراد الطاقم من نقل منصات الإمداد ووحدات استبدال المعدات ومكونات الآلات بسرعة، وبالتالي زيادة استعدادها التشغيلي بالإضافة إلى تقليل ضرورة توقفهم في الميناء بسبب الأعطال الفنية. 

علاوة على ذلك، مع طرح الصواريخ البالستية الأمريكية "ترايدنت تو دي فايف" (SLBM Trident II D5)، في عام 1990، والتي يبلغ مداها حوالي 12 ألف كيلومتر، أصبحت دوريات الردع حول أوروبا أو آسيا غير ضرورية، إذ يمكن للصواريخ التي يتم إطلاقها من المياه القريبة من الموانئ القارية الأمريكية أن تصل بسهولة إلى الأعداء المحتملين، وبالتالي أصبحت أقل ضرورة للقيام بدوريات في المياه البعيدة.

بالإضافة إلى ذلك، فطول فترة الحرب الباردة، اجتذبت زيارات الموانئ احتجاجات وردود فعل سلبية من الجمهور، فقد خلق إنشاء القاعدة البحرية الأمريكية في بحيرة هولي لوخ رد فعل عنيف بين المجتمعات المحلية، ففي عام 1961، احتج حوالي 2000 متظاهر ضد افتتاح القاعدة كميناء رئيسي للغواصة المسلحة بالأسلحة النووية. وفي كندا، احتجت مجموعات نزع السلاح على الزيارات المتكررة للغواصات الأمريكية إلى هاليفاكس في الثمانينيات، كما حدثت احتجاجات في أوروبا. 

مع ذلك، من المثير للاهتمام ملاحظة التأثير المحدود للتشريعات المناهضة للأسلحة النووية في زيارات الغواصات، ففي عام 1984، منعت نيوزيلندا زيارات الغواصات النووية (الصواريخ البالستية والغواصات الهجومية)، مما أدى إلى عداء طويل الأمد مع واشنطن انتهى في النهاية باستبعاد ويلينغتون من تحالف أنزوس النووي. وبالإضافة إلى نيوزيلندا والسويد وباكستان، تبنت الدنمارك أيضاً سياسة غير نووية قرب نهاية الحرب الباردة. 

على الرغم من إعلان السويد معارضتها لزيارة السفن النووية في عام 1983، فإن البحرية الأمريكية تمكنت من جلب سفن مسلحة نووياً إلى السويد ست مرات بعد ذلك التاريخ. وتعود سياسة الدنمارك ضد الأسلحة النووية على أراضيها إلى عام 1957، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تجاهلت سياسة هذه الدول ونشرت قاذفة قنابل مسلحة نووياً من طراز (B-52) في البلاد في عام 1968. 

تغيير النهج:

استأنفت الولايات المتحدة زياراتها للموانئ في عام 2015 وبدت أكثر انفتاحاً بشأن أنشطة أسطولها، فأثناء رحلة USS West Virginia SSBN-736))، في بحر العرب في أكتوبر 2022، نشرت القيادة المركزية الأمريكية صوراً للقائد الخامس عشر للقيادة المركزية للولايات المتحدة مايكل إريك كوريلا، على متن السفينة، وهو ما يعكس تغيراً في النهج المعتاد لواشنطن من خلال الكشف عن مكان وجود الغواصة. 

وجاء ظهور غواصات (SSBN) في بحر العرب في سياق التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وإيران، ما دفع البعض إلى اعتبارها بمثابة رسالة ضمنية لطهران، بينما ذهبت تقديرات أخرى إلى اعتبارها رسالة موجهة لروسيا والصين، في محاولة لإظهار قدرة واشنطن على استهدافهما من أي اتجاه، وخاصة من الجنوب.

كما قامت الغواصات الأمريكية بزيارة فاسلين في المملكة المتحدة ست مرات منذ عام 2015. وكانت هذه الزيارات تأكيداً لالتزام الولايات المتحدة بأمن لندن واستكمال أنشطة التعاون العسكري لضمان أن البحرية لديها القدرة على العمل بفعالية في جميع أنحاء العالم في أي وقت، كما تجسدت العلاقة الخاصة بين البلدين من خلال عودة سفينة "يو أس أس رود آيلاند SSBN-740" إلى جبل طارق في نوفمبر 2022، ومن خلال تدريب مشترك في البحر شاركت فيه "يو أس أس تينيسي SSBN-734" وغواصة من طراز فانجارد تابعة للبحرية الملكية قبالة سواحل جورجيا في الشهر ذاته.

بالإضافة إلى الدعاية غير المعتادة فيما يتعلق بهذه الزيارات الأخيرة إلى الموانئ الأجنبية، سمحت البحرية الأمريكية لكبار القادة العسكريين الأجانب بالصعود على متن إحدى سفنها (SSBN) لأول مرة في إبريل 2023، وقد عكست الزيارة الأخيرة إلى بوسان في يوليو 2023 التزام الولايات المتحدة المستمر بأمن واستقرار شمال شرق آسيا، كما استهدفت الزيارة أيضاً إظهار التزام الولايات المتحدة بحماية سيادة كوريا الجنوبية وسلامة أراضيها ضد خصمها الأبرز، كوريا الشمالية.  

قبل بضعة أشهر، وكجزء من التحالف بين البلدين، أصدرت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية إعلان واشنطن المشترك، الذي أكد من جديد التزام الولايات المتحدة بالردع، وتم الإعلان عن التخطيط لزيارة ميناء في كوريا الجنوبية. كما أكد الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، أن واشنطن ستستمر في إرسال غواصات (SSBN) الخاصة بها إلى المنطقة كرد على التهديدات المثيرة للقلق من الأسلحة النووية والصواريخ الخاصة بكوريا الشمالية. 

دوافع متعددة:

ثمة مخاطر أمنية محتملة قد تنجم عن زيارة الغواصات الأمريكية إلى ميناء أجنبي، وتتمثل في جمع البيانات الاستخباراتية للتوقيعات الصوتية للغواصة، مما يُسهل تتبعها أو التعرض لها عندما تكون في ميناء أجنبي. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن اعتبار رسو الغواصات في المياه الأجنبية بمثابة رادع تشغيلي. وبالتالي، قد تبدو نقاط الضعف المحتملة هذه وكأنها تتعارض مع المهمة الاستراتيجية لشبكة الغواصات (SSBN) المتمثلة في الردع المستمر. 

مع ذلك، هناك عدة عوامل تدفع الولايات المتحدة الآن إلى استئناف إدراج زيارات منتظمة للموانئ في دوريات الردع الخاصة بها، لعل السبب الأكثر أهمية هو إدارة التحالف، ففي سياق التهديدات المتزايدة من قبل روسيا والصين وكوريا الشمالية، فإن واشنطن عازمة على مواصلة زيارة الموانئ الأجنبية لإظهار استعدادها لحماية حلفائها من التهديدات المحتملة وطمأنتهم بشأن تمسك الولايات المتحدة بالتزاماتها الأمنية.

كذلك، توفر زيارات الموانئ الأجنبية فرصة لأطقم الغواصات لرؤية الأماكن الأجنبية والخروج بعد العيش لعدة أسابيع في أعماق المحيط. ومن خلال الالتحام لبضعة أيام، يتمكن أفراد الطاقم من التفاعل مع نظرائهم الأجانب، بما في ذلك ممثلو القوات البحرية للحلفاء. 

في الختام، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن زيارات البحرية الأمريكية للموانئ الأجنبية كانت غير منتظمة في التاريخ الحديث، فمن الجدير بالذكر أنه لم تستخدم أي دولة أخرى هذه الأداة العملياتية والدبلوماسية والسياسية بالقدر نفسه. وبالمقارنة مع الدول الأخرى، من الواضح أن الولايات المتحدة ترى أن إدراج زيارات الموانئ الأجنبية ضمن الأعمال الدورية يمكن أن يؤدي دوراً مهماً، بالإضافة إلى الاستخدام الكلاسيكي لشبكات (SSBN)، لدعم الردع النووي الاستراتيجي.  

وعلى الرغم من انخفاض انتظام زيارات الموانئ بعد الحرب الباردة، فإنها أصبحت أكثر تواتراً منذ عام 2015، ومن المرجح أن تستمر واشنطن في القيام بها في المستقبل، إذ يُنظر إليها على أنها استراتيجية فعالة لطمأنة الحلفاء وإيصال القوة في "العصر النووي الثالث".


المصدر:

Emmanuelle Maître & Alda Anindea, “Calling to foreign ports: a re-emerging practice for US nuclear-armed submarines?” FRS, Paris, November 2023.