مُنتدى شيانغشان:

كيف تُفعّل بكين دورها كصانع للأمن العالمي؟

22 November 2023


عقدت الصين، في الفترة من 29 حتى 31 أكتوبر 2023، مُنتدى شيانغشان، في نسخته العاشرة، تحت شعار "الأمن المُشترك والسلام الدائم"، وذلك بهدف تبادل الأفكار والرؤى حول أبرز التحديات العسكرية والأمنية المُثارة على الساحة الدولية في الوقت الراهن، ومُحاولة طرح الحلول والتصورات المُمكنة بشأن كيفية مواجهتها.

أهمية ودلالات المُنتدى:

يُعد مُنتدى شيانغشان، والذي تأسس عام 2006، أحد أهم الحوارات الدولية المتخصصة في مناقشة القضايا الدفاعية والأمنية العالمية والإقليمية، وذلك على غرار منتديات ميونيخ الأمني في ألمانيا، وهاليفاكس للأمن الدولي في كندا، وحوار شانغريلا في سنغافورة، ويرجع ذلك لعدة أسباب، ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:

1. الحضور رفيع المستوى: شهدت نسخة هذا العام من المُنتدى زيادة كبيرة في عدد ومستوى المشاركين، ولاسيما من جانب الدول النامية والمنظمات الدولية والإقليمية. إذ شارك في فعاليات المُنتدى ما يربو على 1800 ممثل، من بينهم أكثر من 30 ممثلاً على مستوى وزراء الدفاع وقادة القوات المسلحة، من أكثر من 100 دولة ومنطقة ومنظمة دولية. ورغم عدم وجود أي اتصالات عسكرية رفيعة المُستوى بين الجانبين منذ أغسطس 2022، بسبب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك نانسي بيلوسي، إلى تايوان، فقد وجهت الصين الدعوة إلى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) للمشاركة في مُنتدى شيانغشان الأمني، إذ شاركت سينثيا كاراس، المدير الرئيسي لشؤون الصين وتايوان ومنغوليا بالوزارة في المُنتدى.

2. تنفيذ مُبادرة الأمن العالمي: عُقدت أحدث نسخة من مُنتدى شيانغشان، بعد مرور نحو أربع سنوات على تنظيم النسخة السابقة (التاسعة) للمُنتدى، في الفترة من 20 إلى 22 أكتوبر 2019. ويرجع توقف تنظيم المؤتمر طيلة الفترة الماضية إلى تفشي جائحة (كورونا)، والتي ترتب عليها قيام الصين بإغلاق حدودها أمام زيارات الوفود الأجنبية من الخارج، ومع إلغاء القيود المفروضة على السفر إلى الصين، وقيامها بإعادة فتح حدودها مرة أخرى أمام العالم الخارجي، فقد حرصت الصين على استئناف عقد المُنتدى، ولاسيما في ظل إدراكها لتنامي التحديات الأمنية والعسكرية في العالم خلال الآونة الأخيرة. علاوة على إدراج المُنتدى كآلية رئيسية لتنفيذ مبادرة الأمن العالمي في ورقة المفاهيم التي أصدرتها بكين في فبراير 2023 حول المبادرة.

3. قضايا وتحديات أمنية مُهمة: ركّز المُنتدى على مناقشة أولويات التعاون في مبادرة الأمن العالمي، وتوفير فرص متساوية لجميع الأطراف للتعبير عن آرائهم، ومناقشة التحديات الأمنية ومتابعة الحلول الأمنية وتعزيز التعاون الأمني. وقد تضمنت فعالياته أربع جلسات عامة، وهي "مسؤوليات الدول الكبرى والتعاون الأمني العالمي"، و"دور الدول النامية في الأمن العالمي"، و"الهندسة الأمنية لآسيا والمحيط الهادئ: الحاضر والمستقبل"، و"الأمن الإقليمي والتنمية: المسار والهدف". بالإضافة إلى عقد ثماني جلسات خاصة، وندوة للضباط والعلماء الشباب.

ويُعد المُنتدى آلية ضرورية للحفاظ على السلام والاستقرار والأمن العالمي، من خلال تعزيز التعاون والتواصل والبحث عن حلول عملية للقضايا الأمنية، فضلاً عن دوره في تشكيل البيئة الأمنية العالمية، بجانب كونه أداة دبلوماسية لتشجيع الحوار واستكشاف خيارات التسوية السلمية في مناطق النزاعات والتوترات.

4. إلقاء الضوء على وزير الدفاع القادم: تُعد وزارة الدفاع الصينية إحدى الجهات الرئيسية المسؤولة عن تنظيم مُنتدى شيانغشان، وهو ما يجعل وزير الدفاع أبرز شخصية خلال المُنتدى. غير أن اللافت في دورة هذا العام هو عقدها في ظل غياب المسؤول الأول عن الدفاع في الصين، وذلك على خلفية إقالة وزير الدفاع لي شانغ فو مؤخراً. الأمر الذي أتاح الفرصة لظهور ومشاركة عناصر أخرى من النخبة العسكرية الصينية في مسؤولية تنظيم المُنتدى، من أبرزها تشانغ يو شيا، نائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية الصينية، والذي ألقى كلمة رئيسية في حفل افتتاح المُنتدى، ويُعد من الشخصيات المقربة من الزعيم الصيني شي جين بينغ، ويسود اعتقاد بأنه أبرز المرشحين لتولي حقيبة الدفاع في الصين بعد إقالة الوزير السابق. 

5. الترويج للرؤية الصينية للأمن العالمي: مثّل المُنتدى فرصة مهمة للصين للترويج لرؤيتها بشأن كيفية تحقيق الأمن العالمي. وهي الرؤية التي عبّر عنها الرئيس شي جين بينغ، لجعل العالم أكثر أمناً واستقراراً. بالإضافة إلى التقارب مع الدول النامية ودول الجنوب العالمي، في مواجهة التنسيق المُتزايد بين الولايات المتحدة وحلفائها للحد من طموحات بكين العسكرية. وقد اقترح الرئيس شي، في 21 إبريل 2022، مُبادرة الأمن العالمي، والتي تدعم مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، خلال خطاب عبر الفيديو أمام مُنتدى بواو الآسيوي السنوي، مُؤكداً ضرورة احترام العالم لسيادة جميع البلدان ووحدة أراضيها، مع إيلاء الاهتمام للمخاوف الأمنية "المشروعة" للجميع.

سياقات مُضطربة:

عُقدت الدورة العاشرة لمُنتدى شيانغشان الدفاعي والأمني في سياقات يشوبها استمرار الصراعات والأزمات الدولية والإقليمية، سواءً القائمة منذ فترة، أم المتجددة مؤخراً، بجانب توتر العلاقات العسكرية بين بكين وواشنطن، ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:

1. تفاقم التوترات الدولية والإقليمية: يشهد العالم تصاعداً ملحوظاً في حدّة الصراعات والتوترات الدولية والإقليمية، سواءً المستمرة منذ فترة، أم تلك المتجددة. وقد تجسدت التوترات المستمرة في أزمة الحرب الروسية في أوكرانيا، والتوترات المتكررة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ولاسيما في منطقة بحر الصين الجنوبي، وخاصة بين الصين والفلبين.

أما الأزمات الجديدة، فتمثلت في اندلاع أحدث جولة من جولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، على خلفية عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حركة حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، والتي ردّت عليها الأخيرة بإعلان الحرب على قطاع غزة. الأمر الذي ترتب عليه تنامي المخاوف الإقليمية والدولية إزاء احتمال تفاقم الحرب وتحولها إلى صراع إقليمي واسع بدخول أطراف وقوى إقليمية ودولية أخرى على خط الأزمة. 

فضلاً عن تجدد الصراع بين أذربيجان وأرمينيا مؤخراً، وذلك على خلفية قيام القوات الأذرية، في 19 سبتمبر 2023، بشن حملة عسكرية جديدة انتهت بالسيطرة الكاملة لأذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ، بدعوى مكافحة الإرهاب، وهو ما أثار تخوفات من احتمالية الانزلاق في حرب شاملة جديدة في جنوب القوقاز. ومن هنا، فقد مثل المُنتدى فرصة مهمة للأطراف المشاركة فيه لتبادل الرؤى والأفكار حول الأزمات والصراعات المشار إليها.

2. التوترات العسكرية بين بكين وواشنطن: شهدت الفترة الأخيرة بروز بعض الأحداث العسكرية التي ترتب عليها توتر العلاقات بين البلدين، ومنها قيام الولايات المُتحدة بنشر لقطات لحادث فوق بحر الصين الجنوبي، كاد أن يؤدي إلى حدوث اصطدام بين طائرة مقاتلة صينية وقاذفة أمريكية من طراز (B-52). كما قام الجيش الصيني، في 26 أكتوبر 2023، بنشر مقطع فيديو يُظهر قيام سفينة حربية أمريكية بالاقتراب بصورة خطرة من سفن البحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي.

3. مُحاولات تخفيف التوتر في العلاقات الصينية الأمريكية: تزامن انعقاد مُنتدى شيانغشان مع بروز محاولات من جانب كل من الصين والولايات المتحدة لإدارة الخلافات التي تسيطر على العلاقات بينهما. وتجلت أحدث تلك التحركات في زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى واشنطن خلال الفترة من 26 إلى 28 أكتوبر 2023، والتي توصل خلالها الطرفان إلى تفاهمات مشتركة، أبرزها مواصلة الحوار الدبلوماسي، وضرورة استئناف الاتصالات العسكرية، والتخفيف من القيود التجارية المتبادلة واستعادة زخم التعاون الاقتصادي. وسبق زيارة المسؤول الصيني إلى واشنطن، الزيارة التي قام بها وفد من الكونغرس الأمريكي بقيادة زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، إلى بكين في أكتوبر 2023، والتي التقى خلالها كبار المسؤولين الصينيين.

مُخرجات مُهمة:

ثمّة حزمة من النتائج والمخرجات المهمة التي تمخض عنها مُنتدى شيانغشان، والتي يمكن رصدها في النقاط التالية:

1. استعداد الصين لحل التحديات الأمنية العالمية: أكدّ تشانغ يو شيا، ثاني أكبر مسؤول عسكري صيني، بعد الرئيس شي جين بينغ، في كلمته أمام افتتاح المُنتدى، استعداد الجيش الصيني للتعاون مع مُختلف القوى الدولية لتسوية المشكلات الأمنية العالمية، وتحسين الهيكل الأمني، وتفعيل منظومة الحوكمة، والتعاون في مجال الأمن، مُشدداً على الرؤية الصينية بضرورة الالتزام بمبادئ التعاون المربح للجميع، والسعي للتنمية المشتركة المُنسجمة، داعياً جميع الدول إلى تسوية الخلافات والنزاعات عبر أسلوب الحوار والتفاوض. كما حثّ جميع الأطراف على تنفيذ مبادرة الأمن العالمي، وبذل الجهود من أجل القضاء على فوضى الحروب والصراعات.

2. محورية مسألة تايوان: حرصت الصين على توظيف المُنتدى لإعادة تأكيد رؤيتها الثابتة بشأن أزمة تايوان. حيث أعاد تشانغ التأكيد أن مسألة تايوان تُعد إحدى القضايا الجوهرية بالنسبة لمصالح بكين، في ظل ما يحظى به مبدأ صين واحدة من إجماع دولي، مُؤكداً استعداد القوات المُسلحة الصينية لردع أي محاولة للاستقلال من جانب تايوان، وذلك في رسالة تحذير واضحة إلى كل من القوى الانفصالية في الجزيرة، والولايات المتحدة التي تتبنى موقفاً داعماً لانفصال تايوان عن الصين.  

3. رغبة بكين في استئناف الاتصالات العسكرية مع واشنطن: شهد مُنتدى شيانغشان صدور أقوى مؤشر من جانب الصين بشأن رغبتها في تطوير العلاقات بين القوات المسلحة للبلدين. ففي حديثه أمام المُنتدى، أكدّ تشانغ رغبة بلاده في تحسين العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، وذلك طبقاً لمبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين.

4. تعزيز التعاون العسكري الصيني الروسي: ترتبط الصين وروسيا بعلاقات تعاون وثيقة في المجال العسكري والدفاعي، وذلك على خلفية تصاعد التوترات بين كل منهما والولايات المتحدة وحلفائها. وقد حرصت بكين على دعوة حليفتها الاستراتيجية موسكو للمشاركة في فعاليات المُنتدى. إذ شاركت الأخيرة بوفد رفيع المستوى على رأسه وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، والذي سبق له المشاركة في النسخة التاسعة للمُنتدى في عام 2019. وقد عملت الدولتان على استغلال هذه المناسبة لتعزيز وتفعيل التعاون العسكري بينهما. وهو ما تمثل في اللقاء الذي جرى بين تشانغ يو شيا وسيرغي شويغو، لبحث العلاقات العسكرية الصينية الروسية، حيث أكدّ الطرفان استعدادهما للتعاون المشترك لمواجهة مُختلف التهديدات والتحديات الأمنية، بجانب التعاون للحفاظ على الاستقرار والتوازن الاستراتيجي العالمي. فيما تعهد تشانغ يو شيا، بأن تسعى بكين إلى تعميق التعاون والتنسيق الاستراتيجي بين القوات المسلحة للبلدين.

5. التحذير من عدم الاستقرار العالمي: تتبنى الصين وروسيا رؤية تكاد تكون مُتطابقة بشأن طبيعة النظام الدولي في المرحلة الراهنة من مراحل تطوره، مفادها رفض الهيمنة الأمريكية، وطرح رؤية جديدة ترتكز على التعددية القطبية. ومن هذا المنطلق، شهد مُنتدى شيانغشان ببكين تطابقاً ملحوظاً في مفردات الأفكار والرؤى المطروحة من جانب كل من بكين وموسكو. فقد حذّر كبار المسؤولين الصينيين والروس من وجود قوى أجنبية تحاول نشر عدم الاستقرار في القارة الآسيوية وخارجها، في اتهام ضمني للولايات المتحدة بأنها سبب عدم الاستقرار العالمي. ففي كلمته خلال افتتاح المؤتمر، رسم تشانغ يو شيا، صورة متشائمة للأوضاع على الساحة الدولية، مُلقياً باللائمة على دول لم يُشر إليها، وذلك في تلميح ضمني إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جانبه، حذّر وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، من أن واشنطن تسعى إلى إثارة الاضطراب في آسيا، كما حذّر أيضاً من خطر نشوب صراع مباشر بين القوى النووية، الأمر الذي سيترتب عليه عواقب كارثية على الغرب.

6. تفعيل التعاون العسكري بين الصين والدول المُشاركة في المُنتدى: مثّلت زيارة عدد كبير من وزراء الدفاع والمسؤولين العسكريين رفيعي المستوى من دول ومناطق جغرافية مختلفة إلى بكين للمشاركة في فعاليات المُنتدى، فرصة مهمة للصين لتعزيز علاقات التعاون العسكري والأمني مع العديد من دول العالم. وفي هذا السياق، تمت مناقشة سُبل تعزيز وتطوير علاقات التعاون العسكري بين الصين، وكل من أذربيجان، ولاوس، ومنغوليا، وفيتنام، وميانمار، وتيمور الشرقية، وبيلاروسيا.

وفي التقدير، يمكن القول إن مُنتدى شيانغشان الدفاعي والأمني، يُعد إحدى المنصات والآليات الحوارية المهمة التي ابتكرتها الصين، لطرح رؤيتها الاستراتيجية بشأن قضايا وتحديات الدفاع والأمن في العالم، ومحاولة الترويج لأطروحاتها لتحقيق استتباب الأمن والاستقرار على المستوى الدولي، وهو ما عكسته النسخة الأخيرة من المُنتدى، والتي كشفت عن العديد من المُخرجات والنتائج المهمة، ومنها استعداد الصين لممارسة دور فعال في تسوية التحديات الأمنية العالمية، عبر مبادرتها للأمن العالمي، وتأكيدها ثبات موقفها إزاء أزمة تايوان، ورغبتها في استئناف الاتصالات العسكرية مع واشنطن، علاوة على تعزيز تعاونها العسكري مع روسيا. ومع ذلك لم يخل المُنتدى من تأكيد تشابه الرؤيتين الصينية والروسية بشأن تحميل الولايات المتحدة المسؤولية عن عدم الاستقرار في العديد من مناطق العالم، اتساقاً مع رؤية بكين وموسكو الرافضة للهيمنة الأمريكية، وسعيهما لإقامة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وهو ما يصب في المجمل في الترويج لسردية الصين كصانع للسلام والأمن العالمي، رغم ما قد يواجه هذا الدور من تحديات.