تصميم القوة:

كيف يفكر الجيش الروسي في مستقبل الحروب؟

21 November 2023


عرض: عبد المنعم علي

واجه الجيش الروسي أوجه قصور متعددة بعد تدخله العسكري في أوكرانيا في فبراير 2022، منها تراجع الروح المعنوية للجنود وعدم كفاية القيادة، وضعف الدعم اللوجستي للقوات المقاتلة والتحليلات الاستخباراتية الخاطئة. وبرزت هذه المشكلات برغم الجهود الروسية الكبيرة لدراسة مستقبل الحرب وتصميم قوة قادرة على القيام بعمليات ناجزة. كما أدت التحديات التي تواجهها روسيا في أوكرانيا إلى تقويض موقفها الأمني بعد توجه فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" وفرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا (بما في ذلك صناعتها الدفاعية)، ولهذه التحديات آثار هائلة على مستقبل الجيش الروسي في بيئة أمنية تنافسية بشكل متزايد.

في هذا السياق، تأتي أهمية الدراسة التي نشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في سبتمبر 2023 للباحث سيث جي جونز، تحت عنوان "في ظل أوكرانيا: المفاهيم الروسية للحرب المستقبلية وتصميم القوة". وطرحت الدراسة سؤالاً حول كيف يفكر الجيش الروسي في مستقبل الحرب وكذا تصميم قوته على مدى السنوات الخمس المقبلة من خلال تنظيم القوات العسكرية، وتوظيفها، وتدريبها، وتجهيزها؟

التطوير العسكري الروسي:

بدأ مسار الاهتمام بالتطوير العسكري الروسي وإعادة تصميم القوة العسكرية منذ سبعينيات القرن العشرين في ضوء تزايد دور الابتكارات التكنولوجية في الحرب التي تطلبت تغييرات تنظيمية ومفاهيمية لضبط تصميم القوة وهيكلها في الجانب العسكري وذلك على عدة مرتكزات تتمثل في الآتي: 

1- الأسلحة الدقيقة: من بين أهم التطورات كانت الأسلحة طويلة المدى وعالية الدقة، والتي يمكن أن تزيد من احتمال مهاجمة مرافق القيادة والسيطرة الخاصة بالخصم. وبحلول الثمانينيات، برّزت عدة مفاهيم منها "معركة العمليات العميقة" و"مجمعات الاستطلاع والضربات" و"مجمعات الاستطلاع والنيران" و"مجموعات المناورة العملياتية"، وتبعها تطوّر في تصميم القوة من خلال الفحص الدقيق لحروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وليبيا والبلقان ومناطق أخرى، بالإضافة إلى تجربة موسكو الخاصة في الشيشان وجورجيا وسوريا وأوكرانيا، والتي خلّصت إلى أن التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة على الجيش العراقي طغى على المزايا العددية للجيش العراقي، كما اتضح استخدام الجيش الأمريكي للأسلحة الدقيقة بعيدة المدى لإجراء الحرب غير المباشرة.

نتيجة لذلك، قامت روسيا بإحداث تطور في مجمع ضربات الاستطلاع، تضمن الحاجة إلى جمع معلومات استخباراتية في الوقت الملائم ودفع المعلومات بسرعة إلى الوحدات الجوية والبرية والبحرية لتوجيه الضربات، وذلك بغرض تحسين القيادة والسيطرة والاتصالات وأجهزة الكمبيوتر والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في ساحة المعركة لتسهيل الاستخدام المنسق لأسلحة عالية الدقة وطويلة المدى، ولعل هذا الأمر يتطلب وجود مخزونات كافية من الذخائر خاصة الموجهة بدقة؛ إلى جانب القدرة على إنتاج الأسلحة القادرة على إنتاج الذخائر بكميات كافية وتعزيز القدرات الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع لتحديد الأهداف المحتملة.

2- تصميم القوة: بادرت روسيا بإعادة تصميم القوة بالاستناد الجزئي إلى استراتيجية الدفاع النشط، ولعل إحدى الفترات المهمة في تصميم القوة كانت إصلاحات "المظهر الجديد" التي أطلقها وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف، في عام 2008، والتي أحدثت أكبر تغييرات جذرية في الجيش الروسي منذ الحرب العالمية الثانية، وكان الهدف منها هو إنشاء جيش مرن ومهني في روسيا. تحقيقاً لذلك، فقد تم تخفيض حجم القوات المسلحة من 1.13 مليون إلى مليون في عام 2012، في ضوء رؤية روسيا لامتلاك جيش أصغر حجماً، ولكن أفضل تجهيزاً وتدريباً ويمكنه التعامل مع مجموعة من الصراعات.

3- الحرب الهجينة: اعتمدت روسيا على مزيج من الإجراءات النظامية وغير النظامية، أو الحرب الهجينة والتي تشير إلى أنشطة لا ترقى إلى مستوى الحرب العادية أو التقليدية، بهدف توسيع نفوذ الدولة وإضعاف خصومها، حيث باتت تمارس عمليات التضليل المعلوماتي والعمليات السيبرانية، ودعم الشركاء من الدول وغير الدول وممارسة تكتيكات الإكراه الاقتصادي. ففي سوريا، على سبيل المثال، استفادت روسيا من قوات حزب الله اللبناني، والتي كانت مجهزة تجهيزاً جيداً ولديها خبرة كبيرة في قتال وحدات جيش الدفاع الإسرائيلي في عام 2006 في لبنان، وهو ما ساعد على مشاركتها في الحرب السورية، إلى جانب توظيف روسيا للشركات العسكرية الخاصة مثل مجموعة "فاغنر"؛ التي قامت بتدريب وتقديم المشورة لوحدات الجيش السوري وعدد من المليشيات الموالية للأسد والمليشيات الأجنبية التي تقاتل إلى جانب النظام، ووسعت موسكو استخدامها الخارجي للشركات العسكرية الخاصة ليشمل أكثر من عشرين دولة شملت إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إذ قامت تلك الشركات بمجموعة متنوعة من المهام مثل العمليات القتالية وجمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها، وخدمات الحماية والتدريب والدعاية لتعزيز مصالح موسكو.

مستقبل القوة الروسية:

يفترض الفكر العسكري الروسي أن طبيعة الحرب تتطور بسرعة على الرغم من أنها تظل عبارة عن صراع عنيف بين الخصوم. إذ باتت تنطوي إدارة الحرب على سرعة وتعقيد اتخاذ القرارات التكتيكية، والتكنولوجيا وأنظمة الأسلحة التي تستخدمها الجيوش، ويمكن فهم ملامح التفكير الروسي عبر الاتجاهات الآتية:

1- الاتصال مقابل حرب عدم الاتصال: لا يزال هناك توتر في التفكير العسكري الروسي بين الانتشار المستقبلي لحرب الاتصال وحرب عدم الاتصال. فمن ناحية، يعتقد العديد من المفكرين العسكريين الروس أن الحرب التي تستخدم أسلحة دقيقة بعيدة المدى سوف تصبح منتشرة في كل مكان. ومن ناحية أخرى، يعتقد الكثيرون أيضاً أن الحرب ستظل تنطوي على اتصال عنيف بين القوات البرية المتعارضة التي تقاتل من أجل السيطرة على الأراضي. 

وعلى الرغم من التباينات بين المفكرين العسكريين الروس في كيفية القتال من أجل السيطرة على الأراضي أثناء التعامل مع ضربة دقيقة بعيدة المدى للخصم، فإنهم يتفقون على أنه سيكون هناك تطوير مستمر للأسلحة الدقيقة المتقدمة التي تسمح بمستوى عالٍ من تدمير الأهداف، وتفعيل حرب عدم الاتصال بغرض تدمير إرادة الخصم وقدرته على القتال على مسافة قبل حدوث أي اتصال.

2- الأنظمة المستقلة وغير المأهولة: تفترض التقييمات الروسية لمستقبل الحرب دوراً متزايداً لجميع أنواع الأنظمة غير المأهولة -الجوية والأرضية والسطحية وتحت السطحية- حيث باتت هذه الأنظمة أحد الجوانب الرئيسية للحرب المستقبلية، ولعل أبرز نماذج هذه الأنظمة تتمثل في الطائرات من دون طيار، والتي باتت ذات أهمية متزايدة للحرب المستقبلية بسبب فائدتها في الاستطلاع الجوي وتحديد الأهداف للمدفعية وأنظمة الأسلحة الأخرى، والضربات الدقيقة، وتقييم الهجوم، ومسح التضاريس لإنتاج الخرائط الرقمية، والخدمات اللوجستية. 

3- التقنيات الناشئة: إذ بات التوجه الغربي (الولايات المتحدة ودول حلف الناتو) بالاستثمار في التكنولوجيا الناشئة عسكرياً، واحداً من بين مجالات التفكير العسكري الروسي والتي ترى أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى ظهور أشكال جديدة من الهجوم والدفاع، مثل الأسراب، والأنظمة المستقلة غير المأهولة، والعمليات السيبرانية العالمية، والدفاع الصاروخي، وهو الأمر الذي سيؤول في المستقبل إلى ظهور أنظمة قتالية عالية الاستقلالية في جميع مناطق الصراع المسلح، والانتقال من السيطرة على الوحدات التكتيكية الفردية (عناصر الأسلحة، والجيش، والمعدات المتخصصة) والمجموعات التكتيكية إلى أنظمة التحكم القائمة على الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن جوهر الحرب وهدفها لا يتغيران؛ فإن طبيعة الحرب المستقبلية تتطور بسرعة بطرق قد تجبر موسكو على التكيف بسرعة أكبر، لذلك تستهدف روسيا تحقيق عدة تطويرات فيما يتعلق بتصميم القوة الروسية في العديد من القطاعات كالتالي:

- الأرض: من المرجح أن يستمر الجيش الروسي في التحول إلى هيكل الفرقة، إضافة إلى إعادة هيكلة الجيش للسماح بمزيد من الحركة واللامركزية في الميدان رداً على قدرات الضربات الدقيقة بعيدة المدى التي تمتلكها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وتعزيز قاعدته الصناعية الدفاعية لتطوير وإنتاج ذخائر دقيقة وأنظمة أسلحة لحرب طويلة الأمد، وتجربة الوحدات التكتيكية للسماح بمزيد من الحركة والتنقل.

- الجو: من المرجح أن يتضمن تصميم القوة في المجال الجوي بعض التحولات مع التركيز بشكل رئيسي على أنظمة الطائرات من دون طيار، وزيادة حجم القوات الجوية الروسية بما يتجاوز هيكل القوة الحالي. وقد تشمل التطورات المستقبلية استخدام نظم الطائرات غير المأهولة للخدمات اللوجستية في البيئات المتنازع عليها، الأمر الذي سيتطلب هياكل تنظيمية جديدة.

- البحر: توسيع قوات الجيش الروسي البحرية رداً على التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، عبر إنشاء خمس فرق مشاة بحرية للقوات الساحلية التابعة للبحرية بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تزيد البحرية الروسية من وجود السفن البحرية غير المأهولة، كجزء من تصميم القوة والتركيز على تطوير وإنتاج واستخدام الغواصات.

- الفضاء السيبراني: يستهدف الجيش الروسي تطوير قدراته الفضائية والسيبرانية، بما في ذلك القدرات الهجومية. ومن المرجح أيضاً أن يحاول توسيع حجم وأنشطة قوات الفضاء الروسية ومجموعة من المنظمات السيبرانية الروسية، مثل المديرية الرئيسية للأركان العامة وجهاز المخابرات الأجنبية وجهاز الأمن الفدرالي.

تحديات متباينة:

تواجه روسيا تحديات عديدة ستجبر القادة السياسيين والعسكريين على إعطاء الأولوية للتغييرات في تصميم القوة، إذ إن بناء قوة بحرية وجوية وكذلك زيادة حجم القوات البرية الروسية سيكون له تكلفة عالية، وهو ما قد يواجه تقييداً بفعل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في روسيا، إلى جانب أن الحرب في أوكرانيا كانت سبباً في تغذية أسوأ أزمة عمالية في روسيا منذ عقود من الزمن، فضلاً عن تعرض الاقتصاد الروسي لضغوط شديدة بسبب انخفاض النمو وانخفاض الروبل في مقابل الدولار.

اتصالاً بالسابق؛ فإن ظاهرتي الفساد والكسب غير المشروع ما تزالان متفشيتين في الجيش الروسي، مما قد يقوض خطة موسكو الشاملة لتنظيم قواتها وتعيينها وتدريبها وتجهيزها بشكل فعال، كما أنه من المرجح أن تواجه القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية تحديات بسبب الحرب في أوكرانيا؛ إذ إن روسيا استنزفت بالفعل كميات كبيرة من الذخائر الموجهة بدقة وغيرها من الذخائر في حرب أوكرانيا، فضلاً عن تدمير العديد من أنظمة أسلحتها ومعداتها أو تآكلها بشدة. 

كذلك، تواجه روسيا تحدياً كبيراً بسبب الاحتكاك المدني العسكري المتزايد، إذ قد يتفاقم التوتر بين الجيش الروسي والسكان بمرور الوقت بسبب حرب طويلة الأمد في أوكرانيا، والتراجع الاقتصادي، مما يجعل إعادة تشكيل الجيش الروسي تأخذ مستوى معيناً من الدعم والتضحية من الشعب الروسي.

ملاحظات ختامية:

توصلت الدراسة في ختامها إلى ملاحظات أساسية حول تفكير الجيش الروسي في مستقبل الحرب ومنها:

1- تهيمن على التفكير العسكري الروسي وجهة نظر مفادها أن الولايات المتحدة ستظل العدو الرئيسي لموسكو في المستقبل المنظور، وقد تزايدت هذه النظرة منذ نشوب حرب أوكرانيا وهو ما يرتب آثاراً كبيرة على مستقبل الحرب وتصميم القوة. ويقدر القادة السياسيون والعسكريون الروس أن المساعدات المقدمة من الولايات المتحدة و"الناتو" تجعلهما مشاركان مباشرة في الحرب، بل إن أولئك القادة يعتقدون أن واشنطن تحاول توسيع قوتها، ومواصلة تطويق روسيا، وإضعافها. 

هذه المشاعر تجعل من روسيا عدواً خطراً على مدى السنوات الخمس المقبلة، ومن المرجح أن تدفع رغبة موسكو في إعادة تشكيل جيشها في أسرع وقت ممكن، وتعزيز الردع النووي والتقليدي، والاستعداد لمحاربة الغرب إذا فشل الردع كجزء من استراتيجية "الدفاع النشط"، والانخراط في أنشطة غير منتظمة ومختلطة.

2- تخلص التحليلات الروسية إلى أن طبيعة الحروب المستقبلية سوف تتطور بسرعة بطرق تتطلب التكيف من خلال دعم روسيا لأنواع مختلفة من الأسلحة والتي تتمثل في (الأسلحة بعيدة المدى وعالية الدقة - أنظمة مستقلة وغير مأهولة - التقنيات الناشئة - الحرب الهجينة وغير النظامية)، مع زيادة التنسيق مع دول أخرى مثل الصين وإيران.

3- يلتزم القادة الروس بإعادة تشكيل الجيش الروسي على مدى السنوات القليلة المقبلة، وعلى الرغم من أن تحقيق هذا الهدف سيكون أمراً صعباً، فإن تصميم وإعادة القدرات العسكرية سيكون عاملاً مساعداً على مواجهة المتغيرات المختلفة. 

المصدر:

Seth G. Jones, In The Shadow of Ukraine Russian Concepts of Future War and Force Design, A Report of The CSIS Transnational Threats Project, The Center for Strategic and International Studies (CSIS), September 2023.