عشر معادلات أمريكية في حسابات حرب غزة

06 November 2023


منذ الوهلة الأولى، انخرطت الولايات المتحدة في الحرب الجارية في قطاع غزة، ولعل صور الرئيس الأمريكي جو بايدن وهو يحضر مجلس الحرب الإسرائيلي خير شاهد على استغراق واشنطن في هذا الصراع. كما أن إرسال 10 منظومات دفاع جوية أبرزها "باتريوت" و"ثاد" إلى منطقة الشرق الأوسط، بالتزامن مع وصول حاملتي الطائرات "جيرالد فورد" و"دوايت أيزنهاور"؛ يؤكد أيضاً أن رؤية الولايات المتحدة للصراع الحالي تقوم على إلقاء كل ثقلها السياسي والعسكري والاستخباراتي خلف تل أبيب. فما تزال واشنطن ترفض وقف إطلاق النار، وترى أن لدى إسرائيل "حق مطلق" في الدفاع عن النفس، بالرغم من الحديث المتأخر لمستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، عن تقييد هذا الحق بمطالبة إسرائيل بالالتزام بالقانون الدولي الإنساني وقوانين الحرب. ولعل استخدام الولايات المتحدة أكثر من مرة حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع صدور أي قرار يوقف إطلاق النار أو يدين إسرائيل، يدلل على مدى تماهي المصالح الأمريكية مع تل أبيب في هذا الصراع.

ومع دخول الحرب في غزة أسبوعها الرابع، وتوافد الجنود الأمريكيين على المنطقة، بدأت تتبلور حسابات واشنطن، وتتجلى بوضوح مصالحها ومخاوفها سواءً في المدى القصير، أم على المديين المتوسط والبعيد. وإذا كان الرهائن الأمريكيون لدى الفصائل الفلسطينية يتصدرون أولويات إدارة بايدن، فإن هناك مصالح استراتيجية أخرى تتجلى في رؤية بعض الدوائر الأمريكية لفرص كبيرة في هذا الصراع، بالرغم من كل التحديات التي يتحدث عنها البيت الأبيض، ما أدى إلى طرح تساؤلات حول الأهداف الأمريكية من إرسال كل هذه الأسلحة والذخيرة إلى المنطقة، وهل كل ما يجري من تحركات سياسية وعسكرية أمريكية هدفها فقط تحقيق انتصار إسرائيلي على قطاع لا يتجاوز عدد سكانه 2.3 مليون نسمة؟ أم أن لواشنطن أهدافاً ومآرب أبعد بكثير من قضية الحرب والملف الفلسطيني؟

ويؤكد تحليل الخطاب السياسي والعسكري الأمريكي أن البيت الأبيض وضع أهدافاً بعيدة، لكن أيضاً تعتريه هواجس كثيرة. وتقوم الحسابات الأمريكية في الصراع الحالي بين إسرائيل والجانب الفلسطيني، على 10 معادلات رئيسية، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- مخاوف من تكرار سيناريو رهائن 1979:

تبدو الأولوية المطلقة للرئيس بايدن هي إطلاق سراح الأمريكيين الأسرى لدى حركة حماس منذ يوم 7 أكتوبر 2023. ولا يوجد رقم دقيق للرهائن الأمريكيين، لكن حساسية هذا الملف قد تدفع بالمشاركة العسكرية الأمريكية على الأرض لإطلاق سراح هؤلاء الأسرى. فالبيت الأبيض يرفض أي مشاركة برية مع إسرائيل في المعارك، لكنه يستثني تحرير الرهائن الأمريكيين من هذا الرفض. 

ويخشى الحزب الديمقراطي من تعرض الأسرى لأي مكروه قد يؤدي إلى أزمة تشبه أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران عام 1979، التي استمرت 444 يوماً، وقادت في النهاية إلى خسارة الرئيس الديمقراطي آنذاك، جيمي كارتر، للولاية الثانية أمام المرشح الجمهوري حينها، رونالد ريغان. وتُعد حساسية هذا الملف ربما السبب في طلب واشنطن في وقت سابق من تل أبيب أن تؤجل هجومها البري على القطاع حتى لا يُقتل الرهائن الأمريكيون.

2- وجود أكثر من 700 ألف أمريكي بالمنطقة في مرمى النيران:

 يوجد 600 ألف أمريكي في إسرائيل، و85 ألفاً آخرين في لبنان، وفي حال تردي الوضع سوف تضطر الولايات المتحدة لإجلاء هؤلاء؛ وهي عملية معقدة ومحفوفة بالمخاطر أيضاً. ولهذا وضعت واشنطن خطة لإجلاء هذا العدد الكبير عبر البحر وعن طريق سفن تراقب حاملات الطائرات في المنطقة. 

كما تعمل الولايات المتحدة على إخراج نحو 600 أمريكي من قطاع غزة، وهم من مزدوجي الجنسية أو العاملين في المؤسسات الأممية هناك. ويتوقف مصير هؤلاء على فتح معبر رفح في الاتجاه العكسي، وهي قضية ارتبطت بمدى سهولة دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية للقطاع. وأكد البيت الأبيض، يوم 5 نوفمــبر الجاري، أن أكثر من 300 أمريكي غادروا بالفعل قطاع غزة منذ فتح معبر رفح إلى مصر في الأيام الماضية.

3- تهديد القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة:

هناك ما يزيد عن 40 ألف جندي أمريكي في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وهؤلاء الجنود والقواعد العسكرية الأمريكية ربما يكونون في مرمى الغضب الشعبي الذي يرفض الانحياز الأمريكي العسكري والسياسي لإسرائيل. ويمثل ما تتعرض له القواعد العسكرية الأمريكية في عين الأسد وحرير في العراق، والتنف في سوريا، نموذجاً لما يمكن أن يتعرض له نحو 2500 جندي أمريكي في العراق، ونحو 900 جندي في سوريا. 

4- الخوف من انتقال "ألسنة اللهب" إلى الداخل الأمريكي:

يستند هذا التخوف الأمريكي إلى توقع هجمات متبادلة بين العرب والمسلمين من ناحية، واليهود الإسرائيليين على الأراضي الأمريكية من ناحية أخرى. فجريمة قتل طفل فلسطيني مسلم بطريقة بشعة بعد أن طعنه أمريكي في ولاية إلينوي يوم 16 أكتوبر الماضي، تُعد مثالاً لما يمكن أن يتطور إليه الأمر في الداخل الأمريكي. كما أن المظاهرات التي اندلعت في ولاية نيويورك، ووقف تمويل أحد المليارديرات الإسرائيليين لجامعة هارفارد، نموذج آخر على ما يمكن أن يلحق بالولايات المتحدة من تبعات وارتدادات للحرب في قطاع غزة. 

ولا يمكن تجاهل التباين في مواقف النخبة الأمريكية حول حدود الدعم الأمريكي لإسرائيل، وكل هذا يُعقد الحسابات الأمريكية التي ربما تعتبر أن أفضل سيناريو هو تحقيق الأهداف الإسرائيلية في القضاء على حركة حماس، حتى وإن كان ذلك صعباً، واسترجاع الرهائن كافة في وقت قصير. وفي هذا الإطار، صرح السيناتور الأمريكي، كريس ميرفي، يوم 3 نوفمبر الجاري، قائلاً: "لا يبدو أن الإسرائيليين سيحققون الهدف بإنهاء التهديد الذي تمثله حركة حماس".

5- اعتبارات الاستقطاب الدولي الجديد:

 تخشى الولايات المتحدة أن يؤدي اصطفافها مع إسرائيل إلى جذب القوى الدولية المنافسة لها، مثل الصين وروسيا، بشكل أكبر وأعمق إلى الشرق الأوسط، على حساب النفوذ والهيمنة الأمريكية. وترى واشنطن أن موسكو وبكين تحققان مكاسب من الحرب الجديدة في الشرق الأوسط، فالمتظاهرون الفلسطينيون في الضفة الغربية رفعوا صور الرئيس الروسي، فلاديمير بوتن، أكثر من مرة. كما أن استخدام روسيا والصين لحق النقض "الفيتو" ضد مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن الدولي، لاقى ترحيباً كبيراً من الدول والشعوب العربية. 

6- العودة الأمريكية إلى الشرق الأوسط من جديد:

منذ عام 2010، انتهجت الولايات المتحدة سياسة تتبنى استراتيجية "التحول شرقاً"؛ أي ترك الشرق الأوسط والاتجاه الى منطقة الإندو-باسيفيك لمواجهة المنافسة الصينية هناك. بيد أن الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة أعادت واشنطن "عملياً" من جديد إلى الشرق الأوسط؛ لأنها باتت تخشى الصعود الصيني والروسي في المنطقة، وهي تريد من خلال حجم ونوعية العتاد العسكري الهائل أن توصل رسالة "للأصدقاء والأعداء معاً". 

فرسالة واشنطن لأعدائها، وخاصة المجموعات العسكرية المرتبطة بإيران، أن الولايات المتحدة مستعدة لكل السيناريوهات، وللدفاع عن جنودها وقواعدها في أكثر من جبهة. أما رسالتها للأصدقاء فمفادها أن واشنطن لم تتخل عن المنطقة، وما تزال شريكاً موثوقاً به، وذلك بعد أن نجحت الصين في مارس الماضي في تحقيق المصالحة بين السعودية وإيران. وجاءت الحرب الإسرائيلية على غزة لتكون فرصة للولايات المتحدة لتحاول إعادة التموضع من جديد في الشرق الأوسط. وتخشى واشنطن في نفس الوقت أن تكون نهاية هذه الحرب بمثابة خسارة استراتيجية لها لو تورطت أكثر في تلك الحرب.

7- عدم الرغبة في طول أمد الحرب الحالية:

على الرغم من أن الولايات المتحدة تعارض وقف إطلاق النار في الوقت الحالي حتى تمنح إسرائيل الفرصة لتحقيق أهدافها في غزة، فإن الحسابات الأمريكية تقوم على أنها تريد حرباً إسرائيلية سريعة في القطاع. إذ إن إرسال حاملة الطائرات "جيرالد فورد"، وغيرها من السلاح والذخيرة بشكل عاجل لإسرائيل، يهدف إلى تحقيق الأهداف الإسرائيلية بأسرع وقت ممكن حتى لا تتأثر الجبهة الأوكرانية سلباً بإرسال الأسلحة والذخيرة الأمريكية إلى تل أبيب؛ لأن من شأن إطالة أمد الحرب في غزة وانخراط أطراف جديدة فيها أن يجعل واشنطن تحارب عملياً على جبهتين رئيسيتين "أوكرانيا والشرق الأوسط"، وهو ما قد يؤدي إلى خسارة كييف للحرب في مواجهة موسكو، وكذلك انتصار حماس استراتيجياً على إسرائيل.

8- تفادي خسارة "النظام القائم على القواعد":

كانت إسرائيل منذ قيامها في مايو 1948 ضمن النظام العالمي الغربي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يُطلق عليه "النظام القائم على القواعد"؛ وهو نظام مرفوض من الصين وروسيا وعدد من الدول الأخرى في العالم. وحال تعرض إسرائيل لخطر وجودي أو حتى هزيمة نهائية، ستضعف صورة الحليف الأول لإسرائيل وهي الولايات المتحدة في عيون منافسيها الدوليين وخاصة الصين وروسيا.

ولهذا تقوم الحسابات الأمريكية على أن هزيمة إسرائيل هي بمثابة خسارة لـ"النظام القائم على القواعد". ووفق هذا المنظور، هناك حديث لم تنفه واشنطن عن وجود قاعدة عسكرية أمريكية سرية في إسرائيل يُطلق عليها "الموقع 512"، والهدف منها مراقبة الصواريخ البعيدة التي يمكن أن تنطلق من إيران، والغرض النهائي هو الحفاظ على إسرائيل وما تمثله من أهمية لـ"النظام القائم على القواعد". 

9- مؤشر أسعار الطاقة:

تخشى الولايات المتحدة أن يؤدي الصراع والفوضى في الشرق الأوسط إلى التأثير في إمدادات الطاقة العالمية خاصة الغاز والنفط من الخليج وشرق المتوسط، وهو ما سيؤدي إلى العودة بطرق خلفية للغاز والنفط الروسي، ورفع أسعار الطاقة. وتراقب واشنطن بقلق التقديرات التي تقول إن سعر برميل النفط قد يصل إلى 150 دولاراً حال توسع الصراع أو إطالة أمده.

10– مسار الانتخابات الأمريكية في 2024:

يحسب البيت الأبيض ألف حساب للتهم الموجهة للرئيس بايدن بأنه منحاز وغير عادل في نظرته للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بما يؤثر في جذب الناخبين العرب والمسلمين والليبراليين واليساريين، وهو ما يمكن أن يعطي الرئيس السابق دونالد ترامب فرصة لهزيمة بايدن في انتخابات نوفمبر 2024، خاصة في ظل استطلاعات الرأي التي توضح أن بايدن خسر 11 نقطة لدى الناخب الديمقراطي، ونحو 7% لدى المستقلين، بسبب قراراته بشأن الحرب الجارية في قطاع غزة.