ما بعد حرب أوكرانيا:

كيف يوازن "الناتو" بين التحدي الأمني وتغير المناخ؟

17 October 2023


عرض: عبدالمنعم علي

لم تعد فكرة الأمن قاصرة على أنماط التهديدات التقليدية مثل الحروب، وإنما تداخلت معها أنماط غير تقليدية مثل تغير المناخ. إذ تؤثر التهديدات الأمنية التقليدية على الأعباء والتكلفة الخاصة بالظواهر المناخية؛ حيث قد تؤدي الحروب والصراعات إلى زيادة أسعار الطاقة والغذاء مما يفاقم عدم الاستقرار، وهو ما اتضح في الصراع الروسي الأوكراني والذي يُعد محور التركيز لحلف شمال الأطلسي لبعض الوقت في المستقبل، لكن هذا الاهتمام بالبعد التقليدي للأمن، يجب ألا يكون على حساب التصدي للتحديات الأمنية المرتبطة بالمناخ. فالتغيرات المناخية قد تؤثر في قدرات حلف "الناتو" وتخلق له تحديات تقنية وجيوسياسية جديدة، ومن ثم تزيد حجم الضغوط الأمنية عليه. 

في هذا الشأن، تأتي أهمية دراسة الباحث أنوم فرحان وآخرون في مركز تشاتام هاوس في يوليو 2023، إذ حملت عنوان "إعداد الناتو لمواجهة التحديات الأمنية المتعلقة بالمناخ". وأوضحت الدراسة الأعباء الأمنية الواقعة على عاتق حلف "الناتو" نتيجة للتغيرات المناخية، والتي تتطلب اتخاذ التدابير المختلفة للتخفيف من آثارها والتكيف معها، عبر بناء توافق سياسي بين دول الحلف لوضع أجندة لتقليل الانبعاثات الكربونية بنسبة 45% بحلول عام 2030، وأن يصبح محايداً للكربون بحلول عام 2050. 

"الناتو" وأمن المناخ:

تمثل قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" لعام 2023 فرصة رئيسية له لإظهار أهمية تغير المناخ كأولوية أمنية ولقيادة الطريق لحماية الحلفاء في المستقبل من الصدمات الناجمة عن المناخ. إذ يؤثر تغير المناخ في أمن السكان من خلال تغيير الوصول إلى الموارد وزيادة الهجرة، وإضعاف قدرة الدول على تقديم الخدمات العامة وجميعها عوامل تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي. وباعتباره تهديداً عابراً للحدود، فإن تغير المناخ يؤثر في المجتمع الدولي والذي تتحمل منظماته المسؤولية عن توقع المخاطر وإدارة الأزمات للتصدي لهذه التغيرات.

انطلاقاً من ذلك، فقد أدرك "الناتو" الحاجة إلى تعزيز قدراته على التعامل مع الأبعاد الناجمة عن ظاهرة التغير المناخي خاصةً وأن تلك المسؤوليات تزامنت مع متغير أمني ضاغط يتمثل في التدخل الروسي في أوكرانيا في فبراير 2022، إلى جانب ظهور التكنولوجيات الناشئة والمدمرة وقضايا الأمن الاقتصادي، الأمر الذي أعاد الدفاع الجماعي إلى الواجهة، لكن من الضروري ألا تؤدي الحرب والمخاوف المترتبة عليها بشأن التهديدات الأمنية التقليدية إلى صرف انتباه الدول الأعضاء عن الجهود الرامية إلى معالجة عدم الاستقرار المرتبط بالمناخ. لكن مع تزايد وتيرة الحرب فإن معادلة التوازن بين التهديدات الأمنية التقليدية وتغير المناخ باتت أكثر حساسية بالنسبة لحلف "الناتو"، وذلك في ضوء الاعتبارات الآتية:

1- تغير المناخ والتهديد المضاعف: إذ يُعد تغير المناخ بمثابة "تهديد مضاعف" يؤثر بشكلٍ مباشر في القدرات العسكرية لحلف "الناتو"؛ فالارتفاع القياسي لدرجات الحرارة والجفاف وحرائق الغابات والفيضانات ومواسم الأعاصير ستؤدي إلى تقليل أو إضعاف قدرات أفراد "الناتو" ومعداته والأسلحة والتكتيكات والبنية التحتية، كما أن تلك المخاطر المناخية تؤثر في الموارد الذاتية لـ"الناتو" وأولويات سياساته؛ مما يجعله أكثر عرضة للتهديدات الأخرى، بما في ذلك الهجمات العسكرية التقليدية. 

2- مسار ضاغط للانبعاثات الكربونية: في ضوء مسار الانبعاثات الحالي، فإنه بحلول عام 2030، من المرجح أن يعاني أكثر من 400 مليون شخص على مستوى العالم من ارتفاع درجات حرارة كل عام، وهو الأمر الذي ليس ببعيد عن الدول الأعضاء داخل حلف "الناتو"؛ إذ إنها تعاني بالفعل من ارتفاع درجات الحرارة التي انعكست سلباً على العمليات العسكرية، مثل المناورة العسكرية التي أجريت في بولندا 2019 حيث تجاوزت درجات الحرارة 40 درجة مئوية، وهو ما يؤثر في الصحة البدنية والعقلية للعسكريين، وتدليلاً على ذلك شهد الجيش الأمريكي في عام 2018 إصابة نحو 2792 من أفراده بضربات الشمس أو الحرارة. 

وتؤثر أيضاً الانبعاثات الكربونية في القواعد العسكرية، إذ كشفت وزارة الدفاع الأمريكية أن ثلثي القواعد العسكرية الأمريكية، بما في ذلك هامبتون رودز في فرجينيا، والتي تحمل أهمية استراتيجية لحلف "الناتو"، معرضة بشكل خاص لارتفاع منسوب مياه البحر والفيضانات الشديدة مما يؤثر في تشغيلها واستمرارية عملها، بل إن الموانئ الرئيسية في روتردام وأنتويرب وهامبورغ -وهي مراكز للجناح الشرقي لـ"الناتو"-  معرضة أيضاً للتهديد، وفي ألاسكا يؤدي ذوبان التربة الصقيعية إلى ترك المنشآت العسكرية معرضة لخطر الانهيار، وفي يوليو 2022، تعرضت منشآت عسكرية لخطر الانهيار مثل، ذوبان مدرج في قاعدة للقوات الجوية الملكية بالمملكة المتحدة.

3- التغيرات المناخية والتأثيرات الجيوسياسية: قد تنعكس التغيرات المناخية على الاستقرار الاجتماعي وانهيار الدول وتزايد وتيرة العنف المسلح، وهو ما يؤثر في الوضع الأمني والدفاعي لحلف "الناتو"، علاوة على الاضطرابات المجتمعية المحتملة بسبب التأثيرات المتتالية لتغير المناخ، ويتطلب فهّم تلك المخاطر المركبة والاستجابة لها تركيزاً استراتيجياً على بناء القدرة على الصمود لتحمل الصدمات أو استيعابها والتعافي بصورة سريعة منها.

4- تزايد الالتزامات على حلف "الناتو": يشكل تغير المناخ اختباراً لالتزام "الناتو" بحماية الحلفاء وغيرهم من السكان، وسيستلزم ذلك دوراً أكبر للجيوش في المساعدات الإنسانية وعمليات الإغاثة في حالات الكوارث، حيث باتت دول الحلف تواجه ضغوطاً متزايدة للاستجابة للأحداث الناجمة عن المناخ. ففي عام 2022، حشدت أكثر من 10 دول أوروبية قواتها لمكافحة حرائق الغابات، كما تسببت الكوارث المناخية في حدوث نزوح داخلي كبير في الدول الأوروبية مثل البوسنة والهرسك وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، مما أدى إلى نشر القوات المسلحة في بعض الحالات.

تغير المناخ واستراتيجية "الناتو":

يعد "الناتو" الآن تغير المناخ أزمة عابرة للحدود الوطنية وسبباً لتفاقم التهديدات الأمنية على المستويات التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية، لذا أدرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، تغير المناخ في المفهوم الاستراتيجي للحلف لعام 2022، والذي يحدد أهم التحديات في هذا المجال على مدى السنوات العشر المقبلة. ونتيجة لذلك، تم وضع اعتبارات المناخ ضمن التفويض الرسمي للحلف وذلك لدمج تغير المناخ في مهامه الأساسية الثلاث المتمثلة في الدفاع الجماعي وإدارة الأزمات والأمن التعاوني، وذلك من خلال تقييم تأثير تغير المناخ في الدفاع والأمن للإسهام في الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة، والاستثمار في التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة والاستفادة من التقنيات الخضراء، مع ضمان الفعالية العسكرية ووضعية الردع والدفاع الموثوقة.

يأتي دمج تغير المناخ في المفهوم الاستراتيجي لـ"الناتو" ليكرس مبادئ مختلفة منها، إعادة صياغة مفاهيم مرونة جيوش الدول الأعضاء عبر دمج تعريفات الاستعداد المدني، والتكيف مع المخاطر المناخية للحفاظ على قابلية التشغيل والاستعداد العسكري في العمليات التدريبية، وضمان استمرارية الخدمات الحكومية خاصة الحيوية، والقدرة على التعامل مع الإصابات الجماعية والأزمات الصحية المدمرة. وتحقيقاً لذلك، وضع "الناتو" أولويات تُمثل مجالات التنفيذ الثلاثة وهي الهياكل السياسية والمؤسسية، وآليات توقع مخاطر المناخ، والقدرة على الصمود التشغيلي لمواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بالمناخ، وتستند إلى:

1- تعزيز الهياكل السياسية والمؤسسية مع ضرورة الالتزام السياسي بالأمن المناخي، وذلك في ضوء مساعي حلف "الناتو" لتنفيذ أجندة 2030 بخفض انبعاثاته بنسبة 45% والتي على الرغم من أهميتها، فإنها لا تنطبق إلا على المقر العسكري لحلف "الناتو"، ومرافقه والأصول الأصول المملوكة له، أي مجموعة صغيرة نسبياً من البنية التحتية، مما يتطلب ممارسة ضغوط من جانب "الناتو" على الحلفاء لحملهم على تحديد أهدافهم الخاصة بالانبعاثات العسكرية وتقديم تقارير سنوية إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ.

2- الاستثمار في التغيير الثقافي؛ فبناء القدرة على الصمود في مواجهة تأثيرات المناخ يتطلب من حلف "الناتو" الاستثمار في التغيير الثقافي، ويستلزم التنفيذ الفعَّال لخطة العمل المتعلقة بتغير المناخ والأمن استثماراً كبيراً في الموارد والموظفين داخل المقر الرئيسي للحلف. وعلى وجه الخصوص، يشمل هذا تمويل هياكل الموظفين، مثل قسم التحديات الأمنية الناشئة، المسؤول عن وضع استراتيجية حلف "الناتو" لمعالجة التهديدات الأمنية المرتبطة بالمناخ. وقد يؤدي تثقيف الموظفين حول ارتباط المناخ والأمن إلى عدم النظر إلى هذه المسألة على أنها هامشية ومنفصلة، بل إنها تدخل في الجوانب الأمنية للحلف. 

3- تعزيز آليات توقع المخاطر المناخية؛ عبر تقييم المخاطر المناخية في ضوء ما يمتلكه "الناتو" من العديد من الأدوات التي تجمع المعلومات الاستخباراتية والبيانات حول الاتجاهات المناخية؛ على سبيل المثال تمتلك أساطيل الحلف أجهزة استشعار متقدمة لتتبع المحيطات والأرصاد الجوية بما يمكِّنها من قياس ومراقبة التغيرات في الجليد القطبي الشمالي، إلى جانب الاستثمار في أنظمة المراقبة الفضائية الخاصة به لتتبع ارتفاع درجة حرارة المحيطات والتصحر، الأمر الذي يجعل هناك قاعدة بيانات ضرورية من أجل التقييم السنوي لـ"لناتو" حيال التغير المناخي والأثر الأمني، وذلك في ضوء قدرة الحلف على تنسيق جهد عسكري متعدد الجنسيات لقياس ومراقبة وتقييم التقلبات المناخية على البنية التحتية والعمليات والأمن بشكل عام، وهو ما قد يسهم في وضع نماذج دقيقة للغاية ونظام إنذار مبكر.

4- ضرورة تعزيز المرونة العملياتية؛ عبر إعطاء الأولوية لتنفيذ استراتيجيات المرونة لتحسين الفعالية والقدرات والاستعداد العسكري، وتحقيق الأهداف المناخية في الوقت نفسه وضخ طاقة وموارد وقدرات جديدة في برامج الشراكة القائمة، وزيادة الحوار السياسي والتشاور على المستوى الوزاري، وتعزيز التعاون المدني العسكري وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص.

إجمالاً؛ فإن التكيف مع تغير المناخ في عصر المنافسة الجيوسياسية في سياق الصراع بين أوكرانيا وروسيا هو أمر مطلوب في ضوء الموازنة بين الأولويات والتحديات المباشرة وطويلة المدى، ومن ثّم فإنه يجب إبقاء المناخ كأولوية عُليا في جدول الأعمال السياسي لحلف "الناتو" من خلال المشاورات السياسية والدبلوماسية وتبادل المعرفة مع تعزيز علاقاته مع شركاء المناخ عبر إنشاء شبكة تعاون قائمة على التعلم لتسريع عملية تبادل المعرفة، والمشاركة في تصميم التقييمات والتوقعات الإقليمية.  

وإذا كان حلف "الناتو" جاداً بشأن التزاماته بالتكيف مع تغير المناخ، وتبني تدابير التخفيف الفعّالة، فيتعين عليه أيضاً أن يعمل على بناء المصداقية في بعض الدول الأكثر تأثراً بتغير المناخ، عبر دعم البلدان المعرضة للمخاطر المناخية في الشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء لبناء المرونة والحد من التأثيرات المتتالية لتهديدات الأمن، فضلاً عن ضرورة اتخاذ إجراءات ملموسة لدعم خفض انبعاثات المقر الرئيسي لـ"الناتو" والدول الأعضاء عبر آليات شفافة وشاملة، وهو ما قد يؤدي إلى بناء مصداقية للحلف باعتباره جهة عسكرية فاعلة في مجال المناخ، ومن ثم منحه موطئ قدم في مجتمع المناخ الدولي.

المصدر:

Anum Farhan, Signe Kossmann and Armida van Rij, Preparing NATO for climate-related security challenges, Research Paper, International Security Programme, Chatham House, July 2023.