التصويت الغاضب:

هل يحقق ميلي المفاجأة بالسباق الرئاسي في الأرجنتين؟

12 October 2023


أجريت الانتخابات الرئاسية التمهيدية في الأرجنتين يوم 13 أغسطس، وتم التصويت فيها على القوائم التي ستتنافس في الانتخابات يوم 22 أكتوبر. وقد جاءت نتيجة الانتخابات التمهيدية مغايرة تماماً لتوقعات مئات الاستطلاعات التي أجريت قبل الانتخابات، حيث فاز خافيير ميلي بنسبة 30% من الأصوات، يليه مرشح الحزب الحاكم (وزير الاقتصاد الحالي) سيرجيو ماسا بنسبة 21%، وفي المركز الثالث جاءت باتريشيا بولريتش (يمين الوسط) بنسبة 17%.  

هذا في الوقت الذي قدرت فيه استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات أن ميلي سيفوز بحد أقصى بنسبة 20% من الأصوات، ولهذا السبب فاجأت نتيجة الـ30% التي فاز بها الرأي العام وأرسلت رسالة قوية إلى بقية القوى الانتخابية.

من هو خافيير ميلي؟

ميلي هو اقتصادي ليبرالي تقليدي، ورأسمالي غير سلطوي (كما يعرّف هو نفسه)، دخل الساحة السياسية عام 2019، بخطاب ليبرالي لم يُسمع بمثله في البلاد منذ عقود. حيث أثارت أفكاره –حول خفض الضرائب وإحداث تغييرات جذرية في البلاد بمجالات العمل والتعليم والصحة- اهتمام المواطنين والسياسيين على حد سواء.

وكثيراً ما يهاجم ميلي في خطابه ما يسميه "الطبقة المنغلقة"، أي المؤسسة السياسية ــ سواءً التابعة للحزب الحاكم أم للمعارضة ــ التي تقدم نفسها باعتبارها البديل الوحيد الذي بإمكانه هزيمة التراجع السياسي في الأرجنتين. ورغم أنه رفض في البداية دخول الساحة السياسية، فإنه أسس في يوليو 2021 حزباً سياسياً يعرف باسم "لا ليبرتاد أفانزا" أو "تقدم الحرية"، مما أتاح له فرصة المنافسة بالانتخابات التشريعية في نوفمبر 2021 حيث حصل على 1.3 مليون صوت. وقد أدت هذه الخطوة إلى وصول خافيير ميلي وثلاثة أعضاء آخرين من حزبه إلى مجلس النواب.

يعتبر ميلي نفسه دخيلاً على السياسة، ولكنه دخيل متمرد، يتمنى أن يفجر النظام السياسي الأرجنتيني من الداخل. ومن الصعب تصنيف اتجاهات ميلي السياسية، فلا يمكن تعريفه على أنه يميني أو محافظ، بالإضافة إلى أنه عدو شرس للاشتراكية والشيوعية بجميع أشكالها، فهو يتهمها بإفقار البلدان التي طبقتها. والأرجنتين مثال على ذلك وفقاً لميلي، حيث كانت واحدة من أكثر الدول النموذجية التي تصدرت قائمة البلدان في بداية القرن العشرين من حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، أما اليوم فهي ليست حتى من بين الدول السبعين الأوائل في قائمة تضم 190 دولة.

وعادة ما يشيد ميلي بعمل ناييب بوكيلي، رئيس دولة السلفادور، حيث تمكن خلال سنوات قليلة من نقل السلفادور من واحدة من أكثر البلدان عنفاً والأقل أمناً في العالم (كانت تسيطر عليها حركة ماراس) إلى دولة مستقرة، وذلك بفضل سياسة أمنية صارمة وتعديلات ضخمة في السلطة القضائية بالدولة. كما أشاد ميلي أيضاً بنظامي ترامب وبولسونارو، خاصةً وأنه يشارك الأخير على المستوى الإقليمي بالعديد من الأفكار والرؤى الخاصة بالمنطقة.

القاعدة الانتخابية لميلي 

يصنف الكثيرون ناخبي خافيير ميلي على أنهم "يمين متطرف" أو "متشدد"، أو على أنهم مجموعة من "الأغنياء"، أو مجرد أشخاص جاهلين تم "إغواؤهم" بخطاب ميلي المناهض للسياسة العامة للدولة. ولكن هذا التحليل سطحي للغاية في واقع الأمر. فمن أجل فهم أدق لنتائج الانتخابات التمهيدية لا بد من التطرق بإيجاز للأوضاع الحالية في الأرجنتين.

تُعد الأرجنتين ثامن أكبر دولة في العالم، وتمتلك ثاني أكبر احتياطي عالمي من الغاز الصخري ورابع أكبر احتياطي عالمي من النفط الصخري، بالإضافة إلى امتلاكها لاحتياطيات واسعة من جميع أنواع المعادن (فعلى سبيل المثال تأتي الأرجنتين في المركز الثالث في التصنيف العالمي لاحتياطيات الليثيوم). وتحظى بتنوع مناخي فريد، وتمتلك غابات استوائية وجبالاً وشواطئ وأنهاراً جليدية وشلالات، وتنتج الغذاء سنوياً لنحو 400 مليون شخص، وتتمتع بمعالم سياحية وثقافية فريدة.

إلا أن كل هذه الثروات الطبيعية والبشرية بالأرجنتين لا تنعكس في المؤشر الاقتصادي والاجتماعي الكلي للدولة. لقد بلغ التضخم في عام 2022 نسبة 94%، ومن المتوقع أن يتجاوز نسبة 120% في العام الجاري 2023، أضف إلى ذلك نسبة الفقر التي بلغت 42%، والعمالة غير الرسمية التي وصلت إلى 40%. وثبات إجمالي الناتج المحلي كما هو منذ عام 2015، كما أن نسبة عالية جداً من العمالة ما تزال متمركزة في أفقر مقاطعات البلاد، ويظل العجز المالي المزمن والديون الخارجية (والتي تمثل حوالي 85% من إجمالي الناتج المحلي) والإنفاق العام المرتفع كما هم. 

على مستوى أمريكا اللاتينية، تُعد الأرجنتين ثاني أدنى دولة فيما يتعلق بالحد الأدنى للأجور (بالدولار الأمريكي) في عام 2023، تسبقها فقط فنزويلا الدولة التي شهدت انهياراً، وبمعنى آخر يُعد الوضع الحالي في البلاد حرجاً للغاية.  

أما على المستوى السياسي، فمنذ منتصف القرن العشرين (1946) وإلى يومنا هذا، فإن الحزب الحاكم (بارتيدو جوستيكياليستا Partido Justicialista –) ظل في السلطة، أي استمر لمدة 40 عاماً تقريباً، في حين حكمت بعض الحكومات العسكرية البلاد لمدة 10 سنوات. وقد غيرت الأرجنتين عملتها 4 مرات بين عامي 1969 و1992، وأزالت 13 صفراً.  وتخلفت عن سداد ديونها 3 مرات حتى الآن في هذا القرن. وأوضاعها الراهنة غير مشجعة.

في هذا السياق، استطاع خافيير ميلي أن يقنع عدداً لا يستهان به من الناخبين في الأرجنتين بأن الخروج من هذه الأوضاع غير ممكن إذا ما استمروا في انتهاج نفس النهج، وقاموا بالتصويت لنفس السياسيين الذين يستحوذون هم وأقاربهم وأصدقاؤهم على نفس المناصب في الدولة منذ عقود من الزمن.

ينتمي ناخبو ميلي إلى طبقات اجتماعية وفئات عمرية متنوعة ومتعددة داخل الأرجنتين. فقد فاز ميلي في أكبر الأحياء الفقيرة (والتي تسمى بـ"الفيلات") بمدينة بوينس آيرس بأكثر من 50% من الأصوات في بعض المناطق. كما نجح في جذب أصوات الشباب، الذين يرون فيه مرشحاً متمرداً على سلطة الأقلية السياسية، ومدافعاً عن الحرية. فالتمرد، بالنسبة للشباب، يعني الوقوف ضد الأوضاع الراهنة والنظام المهيمن، ومن وجهة نظرهم ليس هناك من شخص اليوم يمكنه أن يمثل ويقود هذا الاتجاه المتمرد الجديد أفضل من مرشح "لا ليبرتاد أفانزا"، أي خافيير ميلي. 

تشير خريطة الانتخابات التمهيدية أيضاً، إلى فوز ميلي في 16 منطقة (من أصل 24) وأنه سبق غيره من المرشحين حتى في الأماكن التي كان الحزب الحاكم متجذراً فيها. ولذلك وصف كثيرون التصويت لصالح ميلي بأنه تصويت "الغضب" أو التصويت "المناهض للسياسة العامة بالدولة"، أي بعبارة أخرى فإنه يمكن اعتبار التصويت لميلي تصويتاً "ضد" سياسة الدولة الحالية أكثر منه تصويتاً "لصالح" ميلي. وهذا التحليل يمكنه إلى حد ما أن يفسر جزءاً من الأصوات التي صوتت لصالح ميلي. 

لقد حاول الصحفي جابرييل ليفيناس، وهو ليس مؤيداً لميلي على وجه التحديد، أن يحلل السبب وراء كون العديد من ناخبي الرجل من المنتمين للطبقات الدنيا، وخلُص إلى أن هؤلاء الأشخاص ليس لديهم ما يخسرونه وأنهم يسترشدون بمشاعرهم وحدسهم أكثر من الاسترشاد بالتفكير المنطقي أو السياسي. كما لاحظ أيضاً أن "ما يقوله ميلي وما يفكرون به متشابه جداً" على عكس بقية السياسيين التقليديين. ويشير ليفيناس أيضاً إلى أنه في مثل هذه الأزمة فإن "ميلي ليس بالضرورة هو الحل، ولكنه مؤشر على مرض المجتمع".

إن "السياسة القديمة" لم تشهد ظهور مرشح كميلي من قبل. ولذلك فإن أساليب الحملات القديمة لا يمكنها وقف حملة كحملة ميلي، والتي على الرغم من أن مواردها أقل بكثير، فإنها أكثر فعالية، فهي تستند إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وظهور المرشح في المناسبات العامة بمختلف المحافظات وعلى كافة الشاشات.

إن ظاهرة ميلي قد أصبحت أمراً واقعاً بإمكانه أن يلقي الضوء على أسس مهمة، لا تخص فقط انتخابات هذا الشهر، ولكنها تتعلق أيضاً بأي انتخابات ستأتي في المستقبل.

سباق انتخابي صعب 

مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، يترقب الجميع أية مفاجآت تظهر على الساحة السياسية.  ويتوقع خلال الأسبوع الذي يلي الانتخابات، أن يلتف الحزب الحاكم وحزب المعارضة كلٌ حول مرشحه الأكثر كسباً للأصوات: أي ماسا وبولريتش على التوالي. أي أن الفائزين في الانتخابات الداخلية سيحصلان نظرياً على دعم بقية أحزابهما. ومع ذلك، فإنهم لن يصلوا إلى عدد المصوتين لخافيير ميلي.

ولهذا السبب أصبح السباق الرئاسي صعباً للغاية بالنسبة للطرفين (الحزب الحاكم وحزب المعارضة). ومع ذلك فمن المهم أيضاً تسليط الضوء على أنه في النظام الانتخابي الأرجنتيني لا يكفي الفوز بنسب تصويت أعلى فحسب بل يجب أن يحصل حزب المرشح الفائز على 45% من الأصوات، أو على 40% على الأقل من الأصوات على أن يكون الفارق بينه وبين منافسه أكثر من 10 نقاط، وإلا ستكون هناك جولة ثانية، وستقام في هذه الحالة في نوفمبر.

في هذا الإطار يتوقع بعض منظمي استطلاعات الرأي أن ماسا وميلي سيخوضان سباق الجولة الثانية، بينما يتوقع آخرون أن بولريتش وميلي هما من سيتنافسان في هذه الجولة. أما الفريق الثالث فهو يتوقع فوز ميلي من الجولة الأولى للانتخابات. 

على الرغم من صعوبة الثقة في استطلاعات الرأي بعد النتائج غير الدقيقة التي ظهرت قبل الانتخابات التمهيدية، فإن سيناريو خوض جولة ثانية في انتخابات الرئاسة يبدو محتملاً للغاية. ولكن على أية حال تتفق كل التوقعات على أن ميلي سيكون أحد المنافسين الأقوياء في ذلك السيناريو المحتمل.

من الصعب التنبؤ بما سيحصل عليه ميلي من أصوات في انتخابات أكتوبر. ولكن أياً يكن الفائز، فلقد تمكن ميلي من إثارة حالة من الجدال العام حول موضوعات شديدة الحساسية في السياسة الأرجنتينية مثل: بنية الدولة والبيروقراطية، والعبء الضريبي الخانق، وأوجه القصور في سياسات الصحة والتعليم، وهي موضوعات لم تكن مثارة من قبل على هذا النحو. وهكذا فإن التحليل الدقيق للمشكلات السياسية بالدولة إضافة إلى ترحيب الرأي العام غير المتوقع بخطاب ميلي، أديا إلى إجبار السياسيين الآخرين على مناقشة هذه القضايا المهمة. ومن ثم، فبغض النظر عن احتمالات فوز ميلي، فإن فتح هذه الملفات المهمة خلال خطابه والحالة التي أحدثها في المجال العام يُعد في حد ذاته انتصاراً لحزبه السياسي الجديد.