انهيار "الأنثروبوسين":

كيف تُغير الموجة الجديدة لـ"الأتمتة" الحداثة الصناعية؟

26 September 2023


عرض: هند سمير

على مدى المئة عام الماضية، ظل الإنتاج بكميات ضخمة هو المنطق التقني الأساسي للحداثة الصناعية، لذلك حاول المهندسون والمصممون المعماريون تحويل البناء لصناعة، وتوحيد مواد وعمليات البناء من أجل تحقيق وفورات الحجم (economies of scale). لكن هذه المسيرة التاريخية للحداثة قد انتهت الآن مع حلول "الأتمتة". إذ تسمح التقنيات في عصرنا الراهن باستخدام مواد البناء غير القياسية كما تم العثور عليها، أو كما هي مصنوعة، وتجميعها بالعديد من الطرق غير القياسية والذكية والتكيفية حسب الحاجة. 

في هذا الإطار، يستعرض الكاتب ماريو كاربو، الأستاذ الجامعي والمؤرخ المعماري في كتابه "ما وراء الأتمتة" الصادر في العام 2023، التاريخ الطويل للنمط الحاسوبي للإنتاج، ويوضح كيف ستؤدي الموجة الجديدة من اندماج الأتمتة الروبوتية والذكاء الاصطناعي إلى إيقاف وعكس السعي الحداثي لتحقيق وفورات الحجم، وكيف أن المشروع الحاسوبي، الذي ظل لفترة طويلة تحت تأثير الأيديولوجيات القوية المضادة للحداثة، تعاد صياغته الآن بسبب إلحاح أزمة المناخ، وجائحة "كوفيد19".

التقنيات بين الصعود والهبوط:

يتطرق كاربو، في بداية كتابه، إلى مراحل تطور الصناعة، وكيف أنها بدأت بالصناعات اليدوية، ثم الصناعة بالآلات الميكانيكية والاعتماد على اقتصاديات الحجم، مروراً بالتصنيع الرقمي، وما بعد حقبة التأثير البشري (الأنثروبوسين)، حيث اقتصاد جديد بلا حجم يستخدم طاقة أقل، وبصمة كربونية أصغر، وانهيار طريقة الصناعة الحديثة في مجال التصميم المعماري والبناء، ثم الدروس المستفادة من جائحة "كوفيد19".

ويستدعي الكاتب مصطلح الأنثروبوسين (أو حقبة التأثير البشري) غالباً للإشارة إلى العالم الميكانيكي الحديث الصادر عن الثورة الصناعية وعلى أساس الإنتاج الشامل الموحد، والنقل الميكانيكي العالمي، والاحتراق غير المحدود للوقود الأحفوري. ويقول الكاتب إن ما رأيناه خلال العامين التاليين لظهور جائحة "كورونا" هو ببساطة انهيار ذلك العالم، أي انهيار الأنثروبوسين، حيث كانت سرعة الكارثة وتوقيتها وطبيعتها غير مسبوقة.

ويمكن إيجاز اتجاه الصعود والانخفاض في جاذبية التقنيات الرقمية في خطوتين: أولاهما، فترة تكنولوجية عظيمة صاحبها التفاؤل في التسعينيات. وثانيتهما، تلتها موجة من عدم الثقة العميقة في كل الأشياء الرقمية، بدءاً من أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويضيف الكاتب: "هذا هو الاتجاه الذي نعرفه تماماً في مهن التصميم"، وهنا ينقلنا الكاتب إلى تناول التطور التاريخي للتصميم المعماري عبر المراحل المختلفة بدءاً من الثورة الصناعية، مروراً بالعمارة الحديثة وتعقيد ما بعد الحداثة، حتى ما بعد الرقمية، وما ارتبط بها من أيدولوجيات سياسية.

ففي التسعينيات، كان المصممون والمهندسون المعماريون أول من فهم الإمكانات الثورية للمُزاوجة السلسة بين التصميم والتصنيع بمُساعدة الحاسوب (CAD-CAM). لقد وعد هذا المنطق التقني الجديد بالإنتاج الضخم للتباينات دون أي تكلفة إضافية. وتوصل البعض في ذلك الوقت تقريباً إلى إطار مفاهيمي جديد لتحديد هذا الهدف التقني الجديد، والتوافق مع هذه الطريقة الجديدة في التصنيع - والتي يُطلق عليها التخصيص الرقمي الشامل (Digitalmass customization).

ويشير التخصيص الرقمي الشامل إلى نمط جديد من التصميم والتصنيع لا يتأثر بوفورات الحجم، أي نمط جديد للإنتاج حيث يتم إنتاج وحدة واحدة أو مليون نسخة متطابقة من نفس العنصر بنفس تكلفة الوحدة؛ كما سيكلف إنتاج مليون وحدة جميعها متشابهة، أو جميعها مختلفة، نفس التكلفة. هذا، ببساطة، عكس كل مبادئ الإنتاج الشامل الصناعي (industrial mass production)، واقتصاديات الحداثة الصناعية الحديثة. 

ويُعد المهندسون المعماريون والمصممون أول من أدرك هذا المنطق التقني الجديد، إذ تم الخروج بنظرية لوصفه وتفسيره، في التسعينيات من القرن الماضي. وبالتوازي مع هذه القصة - التي تدور حول التصميم والتصنيع باستخدام الحاسوب والتكتونية الرقمية (الترميز والتصنيع) - كانت هناك قصة أخرى تتكشف في نفس الوقت.

الانتقال إلى الفضاء الافتراضي:

في عام 1995، جادل بيل ميتشل، عميد الهندسة المعمارية والتخطيط في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأن العديد من الأشياء التي نقوم بها -الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية- ستنتقل قريباً من الفضاء المادي إلى فضاء إلكتروني جديد يسمى الإنترنت. ونتيجة لذلك، فإن العديد من أنواع المباني التي حددت المدينة الحديثة ستصبح عتيقة قريباً. قدم ميتشل قائمة طويلة من الوظائف والمباني التي من المقرر أن تختفي، ومنها: فروع البنوك، لأن الخدمات المصرفية الإلكترونية ستحل محل الأوراق المادية والمعاملات وجهاً لوجه؛ وكالات السفر، لأن المسافرين سيشترون التذاكر من مواقع شركات الطيران؛ أكشاك الصحف، لأننا سنقرأ الصحف على الإنترنت؛ مكاتب البريد، لأننا سنستخدم البريد الإلكتروني؛ وغيرها وصولاً إلى مباني المكاتب، لأنه في وقت ما بفضل الإنترنت، سنعمل جميعاً من المنزل، دون الحاجة إلى الانتقال إلى مكتب.

ومع ظهور الإنترنت، بدا هو المكان الذي من المفترض أن تحدث فيه كل هذه الوظائف، أي معظم حياتنا. كان ذلك في عام 1995، عندما لم يكن لدى الكثير منا اتصال بالإنترنت. وفي هذا العام، لم يكن الإنترنت بحد ذاته جديداً، لأنه مشتق من شبكة عسكرية قديمة تسمى (ARPANET). ولكن في عامي 1989 و1990، اخترع تيم بيرنر لي (http)، و(html)، ومن ثم شبكة الويب العالمية، والتي أعطت كل مستخدم للإنترنت إمكانية "تصفح الويب"، والتنقل عبر الإنترنت بالكامل من رابط إلكتروني إلى آخر، دون الحاجة إلى كتابة عنوان إنترنت جديد لكل اتصال. 

ومع ظهور (www)، أصبح الإنترنت فجأة مكاناً سهل الاستخدام، ومجهزاً للاستغلال التجاري، ومن هنا بدأ الكثيرون في الاعتقاد بأن الإنترنت سيكون مستقبل البيع بالتجزئة، لذا باعت أمازون كتابها الأول في صيف عام 1995. وكانت الشركة تسمى أمازون دوت كوم أو عنوان الرابط الإلكتروني الخاص بها.

نهاية المدينة الحداثية:

ذهب البعض إلى أنه لكل ميغا بايت من الذاكرة تقوم بتثبيتها على القرص الثابت الخاص بك، سيختفي قدم مربع واحد من مساحة البيع بالتجزئة في وسط المدينة. كما بدأ البعض أيضاً في الإشارة إلى أن الانخفاض في النقل الميكانيكي للأشخاص والبضائع يمكن أن يكون صديقاً للبيئة (أو كما نقول اليوم، سيقلل من "البصمة الكربونية"). لم يتوقف بيل ميتشل عند هذا الحد كمهندس معماري وباحث في الجانب النظري للحضر، لكنه أشار إلى أن ظهور الإنترنت يعني، ببساطة نهاية المدينة الحداثية، بناءً على فصل الوظائف وتركيزها في "مناطق" متخصصة، فمع التحول من النقل الميكانيكي إلى الإلكتروني، يمكن التعامل مع العديد من الأنشطة في أي مكان، لأنها ستتم في الغالب على الإنترنت.

قبل 25 عاماً، اعتقد الجميع أن إلغاء الطابع المكاني، أي هجرة الأنشطة البشرية من الفضاء المادي إلى السيبراني هو المستقبل. كما لم يكن المصممون هم الوحيدون الذين قفزوا إلى الفضاء الإلكتروني. ففي أواخر التسعينيات، كان يُنظر إلى الثورة الرقمية على نطاق واسع على أنها الحل النهائي تقريباً لكل مشكلة أوجدتها الثورة الصناعية.

وفي عام 1995، كان الجميع يشتري شركات الإنترنت في البورصة، وكانت تلك بداية ما نسميه الآن فقاعة الإنترنت. إذ تزايد تقييم جميع شركات الدوت كوم بين يناير 1995 ومارس 2000، حيث ارتفع مؤشر ناسداك المركب بنسبة 600%، مع تسجيل العديد من الشركات التكنولوجية الشابة في البورصة. وبلغ مؤشر ناسداك ذروته في 10 مارس 2000، ثم خسر 80% من قيمته في الأشهر الثمانية عشر التي تلت ذلك. كان هذا هو انهيار الإنترنت، أو انفجار فقاعة الإنترنت، حيث اختفت العديد من شركات التكنولوجيا. 

أما أمازون نفسها، فقد نجت بالكاد بعد أن فقدت 88% من رأسمالها السوقي، واستغرق مؤشر ناسداك 15 عاماً للعودة إلى قيمته في مارس 2000. مع هبوط مؤشر ناسداك، في عامي 2000 و2001، تحول المزاج العام فجأة من صديق إلى كاره للتكنولوجيا. وفي ظل المناخ المؤسف لتلك السنوات التي أعقبت الانهيار (والتي كانت أيضاً سنوات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر)، ما زال عدد قليل من الناس ينظرون إلى الإنترنت على أنه هادف للخير، أو حتى تكنولوجيا واعدة. وكان رد الفعل العنيف ضد الإنترنت سريعاً ويمكن التنبؤ به، كما حذر الكثيرون منذ البداية، لا ينبغي للتكنولوجيا أن تحل محل الاتصال البشري وأنه لا يمكن أن يكون هناك مجتمع من دون قرب جسدي. 

قبل بضعة أشهر فقط من تفشي جائحة "كورونا"، كانت غريتا ثونبرج الناشطة السويدية تنادي بـ"فضح الطيران" بسبب البصمة الكربونية للسفر الجوي؛ وبالفعل فازت في معركتها بشكل كبير، وإن لم يكن بسبب البصمة الكربونية. ونظراً لانهيار الاقتصاد ثقيل الكربون للعصر الصناعي في عام 2020 والذي لم يعد بعد إلى مستوياته السابقة للجائحة، فإن أبرز ما تم تعلمه من هذه الكارثة هو أن الفيروسات الحقيقية يمكن أن تكون أكثر فتكاً من فيروسات الإنترنت. 

"كورونا" لم ينتشر عبر الإنترنت: 

لقد انتشر فيروس "كورونا" عبر الطائرات والقوارب والسكك الحديدية، حيث وُلد وترعرع كمنتج نقي للعصر الميكانيكي الصناعي. وعندما بدأت الجائحة، كان بالفعل يتم استخدام الإنترنت، وعلى الرغم من أنه أُعيد فتح المدارس والمتاجر والمصانع الآن، بطريقة ما بعد تراجع الجائحة. فإن الكثيرين لا يزالون يعملون من المنزل، وغالباً ما يتسوق من المنزل، وهو الأمر الذي يحدث بسبب أن الجائحة أظهرت أن الطريقة التقليدية للعمل -طريقة العمل الخاصة بـ"حقبة التأثير البشري"، القائمة على الوجود بالجسد والسفر والمواصلات- لم تعد الخيار البشري الوحيد.

ومع ذلك لا يمكن حتى الآن فصل عمل أصحاب الياقات الزرقاء عن المكان بنفس فعالية عمل أصحاب الياقات البيضاء، ولكن هذا ليس بعيداً جداً في المستقبل أيضاً، فالتصنيع الآلي بالكامل موجود بالفعل في بعض الصناعات (وفي مدارس التصميم بصورة أوضح). غالباً ما تكون المصانع الآلية محصنة ضد وفورات الحجم، فهي لا تحتاج إلى توسيع نطاقها لتحقيق التعادل، وبالتالي يمكن أن تكون أصغر حجماً وتقع بالقرب من أسواقها؛ مما يقلل من النقل العالمي للمواد الخام والسلع والمكونات ذات الإنتاج الضخم. 

وقد أثبتت حالة الطوارئ لوباء "كورونا" افتراضاً قديماً لنظرية التصميم الرقمي، بأن الموجة التالية من التصنيع الآلي تعمل بالفعل على أتمتة المصانع التقليدية. إذ سيؤدي الجيل الجديد من التصنيع الآلي إلى القضاء على المصنع التقليدي، واستبداله بشبكة من المصانع الصغيرة الأكثر ذكاءً، والقابلة لإعادة البرمجة، والتي تشتمل على منشآت مرنة من شأنها أن تصنع الأشياء فقط عند الحاجة إليها، في مكان الحاجة إليها، كما نحتاج إليها، وباستخدام المواد المحلية والطاقة المنتجة محلياً وشبكة إلكترونية عالمية للبيانات وقوة الحوسبة. لكن الموجة التالية من الأتمتة لن تحل محل عمال الصناعة، لكنها ستعيد اختراع حقبة الحرفيين فيما قبل الصناعة، واقتصادها الدائري المستدام بطبيعته.

في النهاية، يشير الكاتب إلى أنه بات الآن يعرف جيداً ويأسف لأن العديد من الأشياء قد سارت بشكل خاطئ في الطريقة التي تم التعامل بها مع الأدوات الحاسوبية، والثقافة الرقمية بشكلٍ عام، في الثلاثين عاماً الماضية. حيث تم اختراق النظرية الرقمية من قبل عدد من الأيديولوجيات، مثل الليبرتارية اليمينية، وهي الأيديولوجية السياسية المختارة للعديد من أصحاب رؤوس الأموال المغامرة الذين استثمروا في التقنيات الرقمية وروجوا لها واستفادوا منها. والأكثر خطورة منها، أيديولوجية ما يسمى بعلم ما بعد الحداثة، والذي تغلغل بعمق الآن في علوم الكمبيوتر المعاصرة، مما يوفر إطاراً مفاهيمياً مدفوعاً بالإيمان بالقوة الخارقة للظهور والتنظيم الذاتي.

المصدر:

Mario Carpo, Beyond Digital: Design and Automationat the End of Modernity, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts London, England, 2023.