سرديات التعاطف:

هل أحدثت "سينما اللجوء" التوازن بين السياسة والإنسانية؟

16 June 2023


تُقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن هناك 103 ملايين شخص حول العالم اضطروا للنزوح أو اللجوء، منهم 36.5 مليون طفل، 32.5 مليون لاجئ،4.9  مليون طالبي لجوء و72% منهم من خمس دول بترتيب الأكثر عدداً: سوريا، فنزويلا، أوكرانيا، أفغانستان، جنوب السودان، وذلك حتى منتصف 2022 أي قبل حرب السودان الأخيرة. و74% منهم تمت استضافتهم من قبل دول ذات دخل متوسط أو متدن. وهو الأمر الذي جعل مسألة اللجوء واحدة من الأزمات الإنسانية الكبرى، التي تفرض نفسها على أجندة الاهتمام الدولي. 

وفي الوقت الذي يتصاعد فيه الجدل حول تداعيات قدوم اللاجئين إلى الدول المضيفة، وتصوير اللاجئين، خاصة القادمين من المنطقة العربية، على أنهم يشكلون تهديداً أمنياً يجب أن تتصدى له الحكومات والمجتمعات، في مقابل أصوات مدافعة عن حقوق اللاجئين، وأوضاعهم القانونية، تأتي صناعة السينما على الجانب الآخر لتظهر التعقيدات الإنسانية المرتبطة برحلة اللجوء من خلال سرديات تتجاوز عصبية الخطاب السياسي سواءً المناهض أوالداعم، وتسمح للرأي العام العالمي بالاقتراب من تجربة إنسانية جبرية، لا يعلم مرارتها إلا اللاجئون أنفسهم. 

ويتناول هذا المقال تأثير هذا البعد الإنسانى لأفلام اللجوء السوري والسوداني في الرأي العام الدولي، خاصة في الوقت الذي تصاعدت فيه الحركات اليمينية المنددة بوجود اللاجئين في المنطقة الأوروبية، مطالبة الحكومات بالتخلص منهم. فهل استطاعت السينما إحداث توازن أخفقت الطرق السياسية والدبلوماسية الأخرى في تحقيقه؟  

لجوء غير شرعي أم تشبث بالحياة؟

التفتت منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى الدور المحوري الذي تؤديه الأفلام في تلك القضية، وقدرتها على خلق حالة من التعاطف بين الجمهور وتغيير اتجاهاته نحو اللاجئين بعد مشاهدة الجانب الإنساني من القضية، وهو الأمر الذي يخلق مزيداً من التضامن مع القضية خاصة في ظل ارتفاع عدد اللاجئين ومحدودية موارد المنح. ولذلك تحرص المفوضية على نشر قوائم الأفلام التي تتناول قضايا اللاجئين على موقعها الرسمي، وتنظم عروضاً لها وتتعاون مع صانعيها لدعم بعض الأفلام. 

وقد حضرت قضية تدفق اللاجئين السوريين على الأجندة الدولية منذ 2011، خاصة بعد أن مست الداخل الأوروبي. حيث يقدر عددهم منذ أن بدأت الأزمة بحوالي 5.6 مليون لاجئ حول العالم، كما قام السوريون بتقديم طلبات لجوء لحوالي 130 دولة، وإن كان معظمهم ما زال يتركز في دول الجوار. وبالتالي حصلت تلك القضية على تغطية إعلامية عالمية واسعة. وقد ألقت بظلالها على صناعة السينما أيضاً. 

فعلى مدار السنوات الأخيرة منذ اندلاع الأزمة، لا يكاد يمر عام دون اختيار فيلم يتناول الأزمة السورية في واحد أو أكثر من المهرجانات الدولية الخمسة الأهم عالمياً ومنها على سبيل المثال: مهرجان كان (كفر ناحوم 2018، قمشاتي المفضلة 2018، ليمبو 2020) مهرجان فينيسيا (يوم أضعت ظلي 2018، الرجل الذي باع ظهره 2020، نزوح 2022) مهرجان برلين (في سوريا 2017) مهرجان تورنتو (السباحتان 2022) ومهرجان صاندانس (عزيزة 2019 فيلم قصير) بخلاف عدد كبير من الأفلام الوثائقية. 

واستطاع بعضها الوصول إلى الترشح لجائزة الأوسكار، مثل فيلم "كفرناحوم" إخراج اللبنانية نادين لبكي، وفيلم "الرجل الذي باع ظهره" للتونسية كوثر بن هنية، وهو ما يشير أيضاً لتأثير تداعيات الأزمة السورية في المحيط العربي بأكمله ومن ثم تأثر صانعي الأفلام العرب بل والغربيين أيضاً بالقضية.

وقد استطاعت تلك الأفلام وغيرها تحدي الأنماط الذهنية الثابتة عن اللاجئين، فعلى سبيل المثال عادة ما يتم الترويج لسردية أن اللاجئين هم أشخاص اقتحموا البلاد بصورة غير شرعية، ويجب إخضاعهم للمساءلة القانونية. بينما تظهر الأفلام الواقع المظلم لرحلة اللجوء، بدءاً من عدم اختيار مصير اللجوء ذاته إذ هو أمر فرض على مواطني دول الصراع، الذين لا يجدون أمامهم من الخيارات، إلا انتظار الموت جراء الصراعات الجارية، أو القبول بمخاطر قرار اللجوء الذي يقدم لهم احتمالاً ضئيلاً للحصول على فرصة أخرى للحياة. 

فعلى سبيل المثال ألقى فيلم "السباحتان" إنتاج عام 2022، الضوء على القضية التي أثارت الجدل، حيث جسد قصة سارة ويسرا مارديني، اللتان أنقذتا 18 لاجئاً كانوا معهما على متن قارب صغير في عرض البحر حينما كاد القارب أن يغرق. وبعد أن نجحتا في الوصول لألمانيا عام 2015 استطاعت يسرا الاشتراك في أولمبياد اليابان، بينما قررت سارة العودة لليونان والالتحاق بمجموعة من الناشطين لمساعدة اللاجئين وإنقاذهم من الغرق. وقد وجهت السلطات اليونانية لها ولزملائها عدة تهم منها الاستخدام غير الشرعي لذبذبات الراديو وتصنتهم على أجهزة اللاسلكي التابعة لخفر السواحل والمشاركة في منظمة إجرامية للمساعدة على الهجرة غير القانونية، ومساعدة شبكات تنظيم تهريب المهاجرين. وهو الأمر الذي استهجنته منظمة "أمنستي" العالمية حيث صرحت Glykeria Arapi مديرة مكتب المنظمة باليونان قائلة: "لقد تم اتهامهم بسبب تعاطفهم وتضامنهم مع غيرهم. هذه الاتهامات تؤثر في حقوق الإنسان وفي العمل الإنساني بل وفي حياة الأفراد". 

وقد ركز الفيلم على هذا البعد الإنساني بشكل جعل المشاهد يعيش معهما رحلة معاناتهما ومن معهما من اللاجئين وكيف واجهوا الموت وتشبثوا بآخر أمل لهم في الحياة. وبذلك تبنى الفيلم منظوراً يركز على أن ما هو غير شرعي قانونياً وسياسياً، قد يكون الأكثر شرعية في قانون الإنسانية. وعرض الفيلم لأول مرة في مهرجان تورونتو (واحد من أهم خمسة مهرجانات في العالم) وقامت "نتفلكس" بتوزيعه مما ضمن انتشاره على نطاق واسع.

ضغط على الموارد أم فرص اقتصادية؟

لا يمكن أن نغفل أن هناك ضغوطاً حقيقية على المواطنين في الدول المضيفة، وأنهم يعانون بالفعل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بشكل قد يصعب معه تقبلهم للآخر، حتى لو تعاطفوا معه في البداية، وهي واحدة من القضايا الشائكة والمهمة خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تزيد من صعوبات الحياة في غالبية المجتمعات. 

غير أن ثمة منظوراً مختلفاً حاولت السينما تجسيده أيضاً أمام الجمهور العام، لا يستند فقط على التعاطف الإنساني، إنما يرتكز على الفرص التي قد يجلبها اللاجئون معهم فقد يكونون مصدر قوة للبلد المضيف. كان آخرها فيلم "شجرة البلوط القديمة"، من إخراج كين لوتش، والذي عرض في مهرجان كان، لهذا العام. 

يتناول الفيلم حالة التوتر والاحتقان التي تنتج عن قدوم اللاجئين السوريين إلى قرية صغيرة في شمال إنجلترا، يعاني أهلها من مشاكل اقتصادية كثيرة، ما يجعلهم ينظرون للسوريين على أنهم عبء إضافي من الصعب تحمله خاصة أنهم يحصلون على معونات لا يحصل عليها أهل البلد أنفسهم. ويخلص الفيلم إلى أن الخلاص الوحيد لن يأتى إلا بتكاتف الجميع. وقد استعان المخرج بلاجئين حقيقيين، في التمثيل. وفي المؤتمر الصحفي الذي انعقد في مهرجان كان، أصر المخرج على مشاركة إحدى بطلات الفيلم - عبر الإنترنت - وهي لاجئة سورية تعيش في لندن لتتحدث عن تجربتها أمام العالم أجمع. 

ففي واقع الأمر لا يمكن أن نغفل الدور الذي أدته السينما على مدار أكثر من عشر سنوات في رفع الاهتمام العالمي بقضية اللاجئين السوريين. ومع ذلك لا تزال تلك القضية في حاجة لمزيد من تسليط الضوء عليها، وقد ناشدت – أخيراً - مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين العالم ألا يغفل الاحتياجات المتزايدة للنازحين واللاجئين السوريين، ودعت الجهات المانحة إلى تقديم الدعم للاجئين ومضيفيهم.

وتتجدد الآن الحاجة إلى زيادة اهتمام السينما، مع اندلاع الحرب السودانية والحاجة الماسة للفت الأنظار إلى ما يعانيه الشعب السوداني.

الأزمة الجديدة في السودان والمصير المشترك    

ما إن اندلعت الاشتباكات في السودان في 15 إبريل الماضي، حتى وجد السودانيون أنفسهم في خضم حرب خلفت حوالي 750 قتيلاً و5576 جريجاً حتى الآن وفقاً لتقديرات وزارة الصحة السودانية، ووجدوا أنفسهم مضطرين للنزوح واللجوء. 

يقدر عدد الذين اضطروا للنزوح سواءً داخل السودان أو إلى دول الجوار بحوالى مليون نازح ولاجئ وفقاً لمنظمة الهجرة الدولية التي أشارت إلى أن هذا الرقم سيرتفع خلال الأشهر المقبلة، ومنهم لاجئون من جنسيات أخرى كانوا قد استقروا بالسودان، مثل اللاجئين السوريين الذين صار عليهم أن يمروا بنفس التجربة مرة أخرى. وقد قدرت الأمم المتحدة المساعدات الإنسانية التي سيحتاجها السودان بحوالي 2.6 مليار دولار.

 بالنظر للانشغال العالمي بالحرب في أوكرانيا وما خلفته من أزمة اقتصادية وبأزمات المنطقة في أفغانستان وسوريا واليمن وغيرها، وما نتج عن تلك الأزمات من أعداد متزايدة من اللاجئين، تصير مهمة وضع الأزمة السودانية على الأجندة الدولية وجذب الانتباه العالمي لها، مهمة ليست بيسيرة. من هنا كان توظيف كل الأدوات الممكنة ومنها السينما، من أجل تحقيق هذا الهدف أمراً حيوياً.

في هذا السياق، وقبل يوم واحد من الحرب، أعلن مهرجان كان، في 14 إبريل، عن اختيار الفيلم السوداني "وداعاً جوليا" للمشاركة في المهرجان ليصبح أول فيلم سوداني يشارك في إحدى المسابقات الرسمية التابعة للمهرجان وهي مسابقة "نظرة ما". 

يتناول الفيلم آثار انفصال جنوب السودان، والنزاعات الطويلة التي عانت منها البلاد، والعنصرية المتجذرة في المجتمع من خلال قصة امرأة من الشمال تتسبب في مقتل رجل من الجنوب، تقوم مدفوعة بإحساس الذنب بمساعدة زوجة الرجل وابنه دون إخبارهما بالحقيقة. 

وفي هذا التوقيت الفارق ومع اندلاع الحرب، أصبح الفيلم وصناعه يحملون على عاتقهم كونهم صوت وصورة شعبهم الذي يعاني الموت والفقر والنزوح القسري. بدا ذلك جلياً في الاهتمام العالمي الذي حظي به الفيلم بعد عرضه وحصوله على "جائزة الحرية". 

وقد دأب صناعه وعلى رأسهم مخرجه محمد كردفاني في توجيه التغطية الإعلامية نحو التركيز على القضية السودانية لجذب الانتباه العالمي، حيث تركزت تصريحاته في هذا الاتجاه ومنها على سبيل المثال: "أخطو على السجادة الحمراء بينما شعبي يلهث هرباً من الرصاص"، وذلك في إطار السعي لخلق حالة من التعاطف المستحق مع مواطنين وجدوا أنفسهم لاجئين بين عشية وضحاها، بمن فيهم بعض من فريق عمل الفيلم نفسه، حيث لم يستطع البعض منهم الحصول على تأشيرات للذهاب لمهرجان كان، كما أن المخرج نفسه صرح أنه لا يعرف إلى أين ستكون وجهته بعد انتهاء المهرجان.  

هذا الوجود السوداني القوي ليس وليد اللحظة. فعلى مدار السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد قيام الثورة في 2019، شهدت السينما السودانية حالة من الانتعاش واكبت أحلام وتطلعات الثورة السودانية وأحسنت استغلال المناخ العالمي الذي كان أكثر جاهزية لاستقبال أفلام أكثر تنوعاً. فعلى سبيل المثال في 2019، حصل فيلم "ستموت في العشرين" على جائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسيا. والفيلم من إخراج أمجد أبو العلاء وهو أيضاً أحد المنتجين الرئيسين لفيلم "وداعاً جوليا". 

ومن جانبها، ناشدت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين جميع البلدان السماح للاجئين من السودان بدخول أراضيها، وأعلنت عن متطلبات تمويل بقيمة 445 مليون دولار لتوفير الدعم لهؤلاء اللاجئين حتى أكتوبر المقبل. وأكدت ضرورة دعم الدول المضيفة كما صرح رؤوف مازو، مساعد المفوض السامي للعمليات قائلاً: "الاحتياجات هائلة والتحديات عديدة وإذا استمرت الأزمة قد يكون السلام والاستقرار في جميع أنحاء المنطقة على المحك"، وهذا هو بالضبط قلب القضية، أن يترسخ في الوعي الجمعي أن مساندة اللاجئين لا تأتي فقط من منطلق التضامن مع الآخر وإنما ضماناً للسلم العام. 

وأخيراً، يمكن القول إن ترسيخ هذه الصورة أمر حيوي، من دونه يصعب لمس نتائج حقيقية على الأرض إذ أن القوانين والسياسات لا يمكن لها وحدها أن تكون فاعلة دون تغيير منظور الجمهور العام تجاه قضية اللاجئين. وهنا تبرز أهمية تفعيل دور السينما كأحد أهم الأدوات تأثيراً في الوعي الجمعي.