معارك مصيرية:

أبعاد الصراع الروسي – الأوكراني للسيطرة على باخموت وخيرسون

05 November 2022


تسيطر منطقتان على المشهد العسكري في أوكرانيا حالياً، وهما مدينة باخموت، التي ما زال الجنود الأوكرانيون يسيطرون على النصف الغربي والشمالي منها، وذلك على الرغم من المحاولات الروسية للسيطرة عليها منذ أغسطس الماضي، وكذلك الشطر الغربي من إقليم خيرسون الواقع غرب نهر دنيبرو، والذي أعلنت مصادر روسية، في أواخر أكتوبر، أن كييف حشدت عشرات الآلاف من قواتها في محاولة لاقتحامها.

أهمية باخموت وخيرسون: 

تتمتع كل من المدينتين بأهمية استراتيجية كبيرة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي: 

1- أهمية خيرسون الاستراتيجية: استولت القوات الروسية على عاصمة المدينة، ومعظم أراضي الإقليم بحلول مارس 2022، والتي كانت أوائل المدن الكبيرة التي تمكنت روسيا من السيطرة عليها بسهولة ما أثار شكوكاً بقيام السلطات المحلية بالتعاون مع قادة العملية العسكرية الروسية، ولذلك فإن استعادتها يشكل أمراً معنوياً للقوات الأوكرانية.

ويشكل إقليم خيرسونسكايا بشكل عام أهمية كبيرة للطرفين، حيث يضم سد كاخوفكا ومحطته لتوليد الطاقة الكهرومائية، وهناك اتهامات روسية لأوكرانيا بمحاولة استهداف السد لإطلاق المخزون المائي الكبير خلف السد، والمقدر بحوالي 18 مليون متر مكعب، وذلك بهدف تدمير خطوط الدفاع الروسية في الإقليم. 

وتتمتع مدينة خيرسون بأهمية استراتيجية للجانبين. فبالنسبة للقوات الروسية، فإن الإقليم يقع بالقرب من مصب نهر دنيبرو، ولذلك فهو يوفر المياه العذبة لشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا منذ 2014، كما تمتلك أكبر ميناء أوكراني لبناء السفن في البحر الأسود ومركزاً مهماً لعمليات الشحن.

كما أن الشطر الغربي من خيرسون يمثل نقطة انطلاق محتملة للقوات الروسية إذا ما قررت توسيع هجماتها في غرب أوكرانيا وصولاً إلى ضم إقليم الأوديسا، وهو الإقليم الذي إذا ما سيطرت عليه روسيا ستتحول أوكرانيا إلى دولة حبيسة. ومن جهة أخرى، فإن سيطرة الجيش الأوكراني على الشطر الغربي من خيرسون سوف يضع المواقع الروسية في القرم والمناطق الجنوب الروسية في مرمى صواريخ هيمارس الأمريكية.

ومن جهة أخرى، فإن أوكرانيا تسعى لاستعادة السيطرة عليها لتحقيق عدة أهداف، وهو تهديد السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم، فضلاً عن إحراز نصر معنوي على الجيش الروسي، خاصة بعد أن أعلنت روسيا ضم إقليم خيرسون ضمن ثلاثة أقاليم أخرى إلى موسكو بعد إجراء استفتاء شعبي فيهم، وتأكيد موسكو حماية تلك الأقاليم من "نظام كييف العنصري"، إذ تسعى أوكرانيا إلى التأكيد أن هذه الاستفتاءات لن تمنعها من استعادة السيطرة على أراضيها من جديد. 

كما أن هناك محاولات أوكرانية لإخراج القوات الروسية من الشطر الغربي من خيرسون قبل انتخابات التجديد النصفي الأمريكية، وذلك لدعم إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في الانتخابات والتأكيد على أن خطته المعلنة لهزيمة روسيا في أوكرانيا ليست خطة وهمية. 

ويتمركز في خيرسون، وفقاً للتقديرات الأوكرانية، حوال 40 ألف جندي روسي، معظمهم من القوات التي تتمتع بخبرة قتالية عالية. ولذلك وضعت القوات الأوكرانية خطة زمنية تمتد إلى نهاية نوفمبر حتى تتمكن من السيطرة الكاملة على مدينة خيرسون فقط.

2- أهمية باخموت لدونيتسك: سيسهل الاستيلاء الروسي على باخموت من اتجاه الجيش الروسي للسيطرة على مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك في إقليم دونيتسك، ومن ثم اتجاه موسكو لاستكمال السيطرة عليها. فقد أكد دينيس بوشيلين، رئيس إقليم جمهورية دونيتسك المنضمة حديثاً لروسيا، أن الاستيلاء على أرتيومفسكا (باخموت) سيسهل "تحرير" كامل المناطق الشمالية من الجمهورية، ولذلك سيكون الاستيلاء على باخموت ضربة قوية للقوات الأوكرانية، والاستيلاء على كراماتورسك بعد باخموت سيمكن قوات دونيتسك من"تحرير" كامل الجمهورية.

استعدادات عسكرية متبادلة:

بدأ كل من الطرفين يستعد للمعارك القادمة حول خيرسون وباخموت، ويمكن تفصيل أحد الإجراءات التي تبناها الطرفين في التالي: 

1- إخلاء المدنيين من خيرسون: قامت روسيا بإخلاء مدينة خيرسون، حتى من موظفيها الإداريين، بالإضافة إلى إرسال تعزيزات جديدة، وذلك بعد قيام الرئيس الروسي بإعلان حالة الحرب والأحكام العرفية في المناطق الأربعة المنضمة حديثاً لروسيا الاتحادية، وذلك تحسباً لإقدام كييف على تفجير بعد بوابات سد كاخوفكا لإغراق خطوط الدفاع الأولى، حيث اشتكت روسيا في مجلس الأمن من تسديد القوات الأوكرانية صواريخ هيمارس الأمريكية على السد. 

وتعد أوكرانيا المستفيد الرئيسي من إغمار الصفة الغربية للنهر المتمركزة فيه القوات الروسية، نظراً لانخفاض السهول في تلك المنطقة وبالتالي ستكون الأكثر تضرراً من تفجيره، ولذلك قامت موسكو بالإفراغ الجزئي لمياه السد، وذلك بالإضافة إلى حديث خبراء عسكريين روس عن بناء موسكو لخط ثانٍ للدفاع عن خيرسون، فضلاً عن وجود توقعات بحدوث حرب شوارع داخل المدينة على غرار ماريوبول، وهو ما يؤشر إلى استعداد موسكو الدخول في حرب طويلة هناك.

2- تفجير الجسور على الدنيبرو: عملت أوكرانيا على استهداف الجسور التي تربط بين شرق خيرسون وغربها على نهر الدنيبرو بالصواريخ، وذلك لتدميرها، ومنع روسيا عن إمداد قواتها الموجودة في غرب خيرسون بالعتاد والأسلحة، ومن ثم تسهيل عملية اقتحامها من جانب القوات الأوكرانية، خاصة أنه من الصعب اجتياز نهر الدنيبرو، ولذلك سعت موسكو، منذ أغسطس 2022، لإقامة جسر عائم فوق نهر دنيبرو إلى جوار جسر أنتونيفسكي الذي لحقت به أضرار بالغة، وذلك للتمكن من نقل معدات عسكرية واسعة إلى هناك.

3- توجيه ضربات إلى ميكولايف: سعت موسكو للضغط على القوات الأوكرانية الموجودة في ميكولايف، والتي تقع على بعد 35 كم من الناحية الشمالية الغربية لخط المواجهة في خيرسون، وذلك عبر توجيه ضربات عسكرية على مستودعات الذخيرة ومناطق تمركز القوات الأوكرانية في ميكولاييف.

4- تقدم روسي في باخموت: تستمر محاولات القوات الروسية لإحكام السيطرة على باخموت، إذ تمكنت القوات الروسية من مواصلة التقدم في الضواحي الجنوبية للمدينة، وكذلك ضواحيها الشمالية الشرقية حتى 31 أكتوبر 2022، وذلك في حين تستميت القوات الأوكرانية في الدفاع عن المدينة.

ويبدو أن القوات الروسية قد تنجح في تحقيق أهدافها، وهو ما يتضح من تهوين تقارير غربية عدة من أهمية المدينة، وأن روسيا تتكبد خسائر فادحة في سبيل السيطرة على المدينة، وذلك على الرغم من تراجع أهميتها الاستراتيجية، وفقاً لهم، كما أنهم يرجعون الرغبة في السيطرة عليها إلى سعي فاجنر لتحقيق نجاحات "غير مهمة استراتيجياً ومحدودة" لتحسين صورتها لدى الكرملين وسط بطء شديد في محاولات السيطرة على باخموت منذ مايو. ويرجع بعض المحللين الغربيين التأخر الروسي في السيطرة على باخموت إلى الخسائر الكبيرة التي لحقت بالقوات الروسية في معارك السيطرة على سيفردونيتسك وليستشانسك في يوليو.

وفي الختام، يبدو أن الفترة القادمة ستشهد مزيداً من المعارك الضارية حول المدينتين، خاصة أن القوات الأوكرانية تسعى إلى تحقيق انتصارات عسكرية، حتى وإن كانت محدودة، بهدف الحفاظ على استمرار تدفق السلاح الغربي، والذي على الرغم من تأكيد الغرب عزمه على مواصلة دعمه لأوكرانيا مهما كانت التكلفة، فإن تعالي الأصوات في الولايات المتحدة من قبل الجمهوريين والديمقراطيين بضرورة مراجعة الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي لأوكرانيا يؤشر إلى أن إمكانية بقاء هذا الدعم بلا حدود هو أمر مستبعد، وهو ما يضغط على أوكرانيا لمحاولة تحقيق انتصارات عسكرية متتالية، وتجنب أي خسائر كبرى، أو التهوين منها، بهدف ضمان استمرار الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا.