معارضة قائمة:

موقف الداخل الروسي من التعبئة الجزئية للحرب ضد أوكرانيا

06 October 2022


أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 21 سبتمبر 2022، التعبئة الجزئية لجنود الاحتياط الروس للمساعدة في ضمان نجاح العملية العسكرية الروسية بعد كثافة المساعدات العسكرية الغربية لكييف، والتي أدت إلى نجاح القوات الأوكرانية في استعادة بعد المناطق في خاركيف ودونيتسك، والتي كانت روسيا قد تمكنت من السيطرة عليها منذ بدء حربها ضد أوكرانيا.

ارتباك مبدئي:

قامت روسيا بأول استدعاء للتجنيد لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- استدعاء ذوي الخبرة العسكرية: أعلن بوتين في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة التجنيد، أن وزارة الدفاع الروسية ستقوم باستدعاء من كان لهم خبرة عسكرية بشكل حصري والموجودين في قوائم الاحتياط الروسية. وأكد وزير الدفاع، سيرجي شويجو، أنهم سيستدعون 300 ألف من الجنود الاحتياط، وهو يعتبر رقماً مناسباً للدفاع عن الأراضي التي ضمتها موسكو، بالإضافة إلى استكمال السيطرة على حدودها الإدارية، وذلك بالنظر إلى أن عدد القوات الروسية التي شنّت الحرب ضد أوكرانيا في فبراير 2022، قد بلغ حوالي 190 ألف شخص.

وأعطى القرار، في البداية، مطلق الحرية لوزارة الدفاع في تحديد طبيعة المستدعين، وبناءً عليه ستقوم الحكومة الروسية بتحديد عدد هؤلاء الأشخاص ونسبتهم حسب كل مقاطعة. وتحتاج عمليات التعبئة لوقت وتدريب، ولذلك لن يحدث تغيير جذري وسريع في الأوضاع الميدانية على المدى القصير.

2- أخطاء في الاستدعاء: لم تقم روسيا بأي عملية تعبئة منذ الحرب العالمية الثانية (أو الحرب العظمى)، لذلك كان من المتوقع وجود مشاكل في تلك العملية، نظراً لانخفاض الخبرة العملية في هذا المجال، حتى بين الأفراد ذوي الخبرة العسكرية. 

وتمت ملاحظة تعبئة أفراد بشكل غير متوازن نسبياً من الأقاليم التي تضم من يتمتعون بالخبرة العسكرية، أو حتى يفتقدونها، وقد امتص بوتين بعض الغضب الشعبي الحادث بسبب ما أسماه "أخطاء" أثناء عملية الاستدعاء، وأعطى أوامره بتصحيح تلك الأخطاء، وبضرورة عودة المستدعين بشكل خاطئ لأهاليهم.

مخاوف اقتصادية وسياسية:

كان لعملية التعبئة الجزئية تأثيرات على الداخل الروسي يتلخص أهمها في التالي:

1- مخاوف من التداعيات الاقتصادية: يلاحظ أن قرار التعبئة الجزئية سوف تكون له تأثيرات على الاقتصاد المحلي؛ حيث سيضطر الآلاف لترك عملهم حال استدعائهم، بالإضافة إلى هروب المئات من روسيا تجنباً للانضمام للجيش، ما سيقلل من فرص الشركات من إيجاد بدائل، وهو ما سيضغط على الاقتصاد الروسي، والذي يقع تحت ضغوط العقوبات الاقتصادية الغربية، كما سيؤثر كذلك على انخفاض الطلب المحلي وزيادة التضخم.

2- مؤشرات على معارضة داخلية: اصطفت السيارات على الحدود الروسية من المواطنين الذين لا يريدون استدعاءهم في الجيش، كما ارتفعت أسعار تذاكر الطيران للوجهات التي لا تتطلب تأشيرة دخول للمواطنين الروس. 

وتم القبض على أكثر من 1300 متظاهر مناهض للتعبئة الجزئية في احتجاجات شملت عدداً كبيراً من المدن الروسية، والتي أكدت الشرطة على عدم سماحها باستمرارها كونها غير مرخصة. كما تم حرق عدد من مكاتب التجنيد في عدد من المدن الروسية، ومهاجمة أحد العاملين في نقاط التجنيد من قبل أحد المستدعين.

إجراءات حكومية مقابلة:

تمكن بوتين من توظيف عدة أدوات لضمان امتصاص الغضب الذي ركزت عليه الآلة الإعلامية الغربية، وذلك من خلال ما يلي:

1- زيادة الدعم الاقتصادي: اتبع بوتين سياسات لضمان استمرار الدعم المجتمعي لسياساته، فقد قام بزيادة دعم الدولة للأسر الروسية للحفاظ على معدلات الإنفاق والطلب المحلي بعد الصدمة الاقتصادية التي سببتها العقوبات الاقتصادية الغربية غير المسبوقة ضد موسكو.

وساعدت تلك السياسات على امتصاص الصدمة الأولى لتلك العقوبات. ومن ضمن تلك المساهمات خلق نظام دعم أسري موحد في 5 مارس 2022. ويهدف لتقديم دعم مادي وعيني للأسر التي لديها أطفال ويبدأ الدعم من بعد الولادة مباشرة وحتى 18 عاماً، والتي تضررت من العقوبات الاقتصادية الغربية، بالإضافة إلى تحسين وضع المعاشات للمتقاعدين. 

كما وقّع بوتين، في 16 مارس، على توجيهات لقادة المناطق الفيدرالية لتطبيق معايير وآليات الحماية الاجتماعية – الاقتصادية، ما يعطي مساحة لرؤساء الأقاليم حرية في تحديد كيفية تطبيق الآليات في الحدود التي تسمح بها ميزانيتهم، ووجه بوتين كذلك بضمان حصول المواطنين على السلع الضرورية والأدوية، فضلاً عن تمديد العمل بنظام المساعدات المالية للأسر التي عليها ديون عقارية في يونيو. ولم تهمل القوانين الرئاسية الشركات التي عانت بسبب العقوبات الغربية، إذ تم تقديم مساعدات مالية للمتعثر منها جراء العقوبات.

2- تنظيم تجمعات شعبية: اعتمد بوتين على التجمعات الاحتفالية في وسط موسكو في الميدان الأحمر أو بالقرب منه عندما يريد أن يظهر للعالم التأييد الشعبي الذي يحظى به، خصوصاً بعد وجود تظاهرات معارضة له، واتجاه وسائل الإعلام الغربية لتسليط الضوء عليها. ودائماً ما تكون تجمعات التأييد لبوتين على مستوى عالٍ من التنظيم وتشمل لقاءات مع أشخاص مؤثرين وتتخللها حفلات وطنية وتحفيزية للحاضرين، ما يزيد من جاذبيتها.

وتلعب خطابات بوتين الحماسية على الشعور الوطني للروس، إذ يتم استدعاء ذكريات أمجاد روسيا القيصرية بالتحديد. ومن ذلك، على سبيل المثال، التأكيد أن الإمبراطورة، كاثرين الثانية، طورت جنوب وشرق أوكرانيا، وأسست مدنها، فيما سمي حينها "نوفوروسيا"، أو روسيا الجديدة، وبالتالي من الطبيعي، حسب بوتين، أن تعود تلك المناطق لروسيا الاتحادية، خصوصاً أن الاتحاد السوفييتي لم يشارك سكان تلك المناطق عندما قرر إقامة حدود الجمهورية الأوكرانية الاشتراكية السوفييتية في ثلاثينيات القرن الماضي، ولا حتى عندما تفكك الاتحاد وأصبح هؤلاء السكان بين ليلة وضحاها خارج "وطنهم الأم" وأصبحوا أوكرانيين بلا "اختيار".

ويرى بوتين أن الاستفتاءات فرصة للمواطنين في جمهوريتي لوجانسك ودونيتسك، ومقاطعتي خيرسون وازابوروجيا منذ ما يقارب القرن لتحديد مصيرهم. ولم تقتصر تلك التجمعات فقط على العاصمة ولكنها تمتد لأهم المدن، إما من خلال شاشات بث حي، أو من خلال إقامة تجمعات منفصلة، كلها تحت العنوان نفسه "نحن معاً" أو "نحن لا نترك أهالينا" في إشارة لسكان الجنوب والشرق الأوكراني الانفصاليين قبيل إعلانهم البدء في تنظيم استفتاءات بعد إشارة بوتين بتسريع انضمامهم في 21 من سبتمبر خلال خطابه، والذي تضمن كذلك إعلان التعبئة الجزئية. ومن تلك المدن إيكاترينبورج، ورستوف - نا - دانو، وإقليم كراسنادور، ومدينة إليستي، وغيرها.

3- تصحيح أخطاء الاستدعاء: اعترف الرئيس الروسي، والمتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، بوقوع أخطاء في عملية التعبئة الجزئية، ولذلك قاما بالإعلان عن تدارك هذه الأخطاء. وتمت بالفعل إعادة 145 مواطناً تم تجنيدهم بالخطأ في إقليم بيلوجراد الروسي، بالإضافة إلى بحث حالة 17 آخرين، وقد تم تعيين في كل نقاط التجنيد موظفين ليتعاملوا بكل شفافية مع الأخطاء، كما تمت إعادة 3 طلاب في إقليم تولا. ومن الواضح جدية عمل تلك اللجان وسرعة تنفيذ الأوامر التي ألقاها بوتين. 

كما تم التوسع في تطبيق الإجراءات الخاصة بمساعدة الأسر التي سيتم استدعاء أفراد منها للمشاركة في العمليات العسكرية، ومن ذلك تقديم المساعدات المادية، والتي وصلت إلى صرف 200 ألف روبل بشكل استثنائي في بعض المناطق، مثل ياكوتيا، بالإضافة إلى مميزات أخرى، ومنها إعفاء أبنائهم من مصاريف التعليم والتعليم العالي، كما تم افتتاح مراكز لدعم أمهات وزوجات المستدعين، التي ستقوم بتقديم الدعم النفسي في عدة أقاليم ومنها بيلوجراد.

كما أن السلطات العسكرية في روسيا لم تؤجل عمليات خروج المجندين الذين قضوا مدتهم العسكرية على خلفية العمليات العسكرية الروسية في الشرق والجنوب الأوكراني، بينما أجلت عملية تجنيد الدفعة السنوية الجديدة على خلفية انشغال نقاط التجنيد بممارسة أعمال التعبئة الجزئية، ويهدئ ذلك أيضاً من تخوف الأهالي من استمرار تجنيد الشباب الذين قاربت مددهم على الانتهاء، ويقدر هؤلاء عددهم بـ127.5 ألف مجند.

نجاح جزئي: 

توجد بعد الدلالات على أن الخطوات التي يتخذها بوتين أدت لتحسين الوضع الداخلي وزيادة الدعم الشعبي له، ومنها:

1- استمرار ثقة المواطنين: على الرغم من انخفاض نسب تأييد بوتين في استطلاعات الرأي الخاصة بمركز أبحاث الرأي العام الروسي، فإن نسب الثقة في بوتين وصلت إلى 80% من المستطلعين في سبتمبر 2022، كما وافق 76.7% منهم على عمل الرئيس، ولكن جاءت نسب التأييد لعمل الحكومة ورئيس الوزراء بنسب انخفاض كبيرة، حيث وصلت نسبة التأييد إلى 51.3% لرئيس الوزراء و50.3% للحكومة بمعدلات انخفاض أسبوعية وصلت إلى 12%، وهو ما يؤشر إلى عدم الرضا عن بعض السياسات الحكومية، وإن احتفظ بوتين بشعبيته لدى الشعب الروسي.

2- تأييد قطاع الأعمال: أكد الرئيس الروسي، والحكومة، والسلطات المحلية أن الأفراد الذين سيتم استدعاؤهم سيتم صرف لهم مرتبات الجنود المتعاقدين، كما أكدت كبريات شركات المعادن والفحم في روسيا تقديم 100 ألف روبل لكل عامل يتم استدعاؤه، كما سيتم حفظ وظيفتهم، بالإضافة إلى صرف 30% من مرتبهم، ومن أمثلة تلك الشركات فوركوتا-أوجل وسيفيرستال، ما يشير إلى وجود دعم على مستوى قطاع الأعمال لخطوات بوتين العسكرية.

3- تظاهرات مؤيدة لبوتين: استجاب لدعوات التجمع لدعم إعلان الاستفتاءات والتعبئة الجزئية في أول أسبوع من إعلانها حوالي 50 ألف مواطن، إذ تجمعوا في ميدان "مانيجني" الملاصق للميدان الأحمر بوسط العاصمة الروسية، موسكو، وبعد إعلان نتائج التصويت بالموافقة على الانضمام لروسيا الاتحادية من قبل، تجمع حوالي 180 ألف مواطن، حسب بيانات وزارة الداخلية الروسية، في تجمع "اختيار الشعب – معاً للأبد" الذي حضره بوتين وألقى خطاباً حماسياً للجماهير الذين تنوعت أعمارهم في الميدان الأحمر في قلب موسكو.

وفي الختام، يتوقع أن تستمر حالة تخبط الجماهير الروسية بين معارضة ومساندته نتيجة صعود وهبوط التأثيرات الاقتصادية على حياتهم اليومية، وتفاوت الإجراءات الحكومية لاستيعابها، بالإضافة إلى التعبئة الإعلامية واسعة النطاق التي يقوم بها الكرملين.