تلاشي الطفرة:

لماذا تراجعت القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا الكبرى؟

29 March 2022


شهدت أسعار أسهم شركات التكنولوجيا والترفيه العالمية الكبرى تراجعاً لافتاً في أسواق المال العالمية منذ بداية عام 2022، بضغط من موجات بيع متتالية تعرضت لها من قِبل المستثمرين، وكانت أسهم شركات "تسلا" و"نتفليكس" و"آبل" و"مايكروسوفت" و"ميتا" و"زووم" هي الأكثر انخفاضاً في الفترة الأخيرة. وأثار التراجع المتتالي لأسهم تلك الشركات مخاوف عالمية بعودة ما يُسمى بـ "فقاعة الدوت كوم" (Dot-com bubble)؛ وهي فقاعة أسعار حدثت بأسواق الأسهم الأمريكية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ونتجت عن المضاربة المفرطة في شركات التكنولوجيا الحديثة المعتمدة على طفرة الإنترنت آنذاك، وواكبها إفلاس العديد من هذه الشركات وخروجها من السوق نهائياً. وفقد مؤشر "ناسداك" الأمريكي بعد انفجار فقاعة "الدوت كوم" نحو 78% من قيمته السوقية، أو ما يُعادل وقتها نحو 2 تريليون دولار كخسائر رأسمالية. 

ومن هذا المنطلق، سيتناول هذا التحليل تراجع الأداء المالي لعدد من شركات التكنولوجيا والترفيه الكبرى منذ بداية العام الجاري، والأسباب الرئيسية وراء ذلك، والآفاق المستقبلية لتلك الشركات. 

تراجع القيمة السوقية:

شهدت أسهم القطاع التكنولوجي، على غرار شركات منصات البث الرقمي، وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها، في البورصات الأمريكية قفزة كبيرة في قيمتها منذ بداية جائحة كورونا؛ وذلك بدعم من اتساع قاعدة عملائها ونمو إيراداتها بشكل قوي. ووصلت أسهم كبرى شركات التكنولوجيا ذروتها في منتصف عام 2021، لكن هذا الزخم بدأ في التلاشي تدريجياً، مع رفع قيود جائحة كورونا، وتخفيف قيود السفر الدولي.

وفي هذا السياق، هبطت أسهم العديد من شركات التكنولوجيا والمنصات الترفيهية، ومنها مثلاً شركة "نتفليكس" التي تراجع سهمها إلى ما دون 400 دولار في فبراير 2022، مقارنة بمستواه القياسي البالغ نحو 682 دولاراً في نوفمبر 2021. وانخفض سهم "زووم" إلى ما دون 150 دولاراً، أي بتراجع نسبته 67% مقارنة بمستواه في فبراير 2021؛ الأمر الذي أدى في النهاية إلى تراجع أداء المؤشرات البورصات العالمية مثل مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" و"مؤشر ناسداك"، منذ بداية يناير 2022.    


ومن ناحية أداء الأسهم منذ بداية العام الجاري، كما هو موضح في الشكل البياني، انخفض سعر سهم شركة "ميتا"، المالكة لـ "فيس بوك"، بنسبة 33.8%، مسجلاً نحو 219 دولاراً في 10 فبراير 2022 مقارنة بنحو 331 دولاراً في بداية يناير 2022. كما انخفضت ثروة مارك زوكربيرج، مؤسس شركة "ميتا"، حوالي 31 مليار دولار، وتركز الانخفاض الأكبر لقيمة الشركة في الرابع من فبراير 2022 عندما تراجع سهمها بنسبة 26%، مع ظهور نتائج أداء الشركة للربع الأخير من العام الماضي، والتي جاءت مُخيبة للآمال. 

أيضاً تراجع سعر سهم شركة "نتفليكس" بنسبة 27.4% من قيمته أو ما يُعادل حوالي 148 دولاراً، حيث انخفض من 539 دولاراً للسهم في أول يناير 2022، إلى حوالي 391 دولاراً للسهم خلال شهر فبراير من نفس العام، مسجلاً أدنى مستوياته. بينما شهدت أسهم شركة "مايكروسوفت" تراجعاً بنسبة 11.7% من 334 دولاراً للسهم في يناير 2022 إلى 295 دولاراً في فبراير من العام نفسه. وامتد هذا الأداء المتراجع إلى شهر مارس 2022، ولم تستطع أسهم الشركات التكنولوجية الأمريكية اختراق أو تجاوز مستوياتها القياسية التي حققتها في بدايات جائحة كورونا.

تفسير التراجع:

أدت العديد من العوامل إلى تراجع أسهم كبريات شركات التكنولوجيا في البورصات الأمريكية، ومن أبرزها التالي:


1- وجود تحديات اقتصادية عالمية: تعمل شركات التكنولوجيا الكبرى في بيئة صعبة تحيطها العديد من التحديات في ظل جائحة كورونا، ومنها تحديات الاقتصاد الكلي على غرار تضخم التكلفة، واضطرابات سلاسل التوريد العالمية؛ وهو أمر ضغط بشدة على إيرادات الإعلانات، وأضعف مستويات إيراداتها وأرباحها. 

2- مخاوف المستثمرين من رفع سعر الفائدة الأمريكية: دفعت السياسة المتوقعة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة في عام 2022، مستثمري الأسهم إلى التخلص من أسهم شركات التكنولوجيا بالبورصات الأمريكية في الفترة الأخيرة. ومنذ بداية العام الجاري، بدأت حملات بيع مكثفة لأسهم شركات البرمجيات وصانعي الرقائق بوتيرة متسارعة، خاصة من قِبل صناديق التحوط الأمريكية.

ومع تحول الاحتياطي الفيدرالي إلى سياسة أكثر تشدداً في العام الجاري، حيث يُتوقع رفع الفائدة الأمريكية 3 مرات في هذا العام، جنباً إلى جنب مع تقليص برنامج شراء الأصول؛ من المحتمل ارتفاع عائد سندات الخزانة الأمريكية، ما سيُعرض أسهم القطاع التكنولوجي وغيرها من القطاعات لضغوط بيعية إضافية، وسيدفع صناديق التحوط لبيع المزيد من أسهم تلك الشركات.

3- التخفيف التدريجي لقيود كورونا: تراجعت معدلات الطلب على خدمات شركات التواصل الاجتماعي والتواصل عبر شبكة الإنترنت مقارنة بالعام الأول لانتشار وباء كوفيد- 19، حيث دعمت برامج التطعيم ضد الفيروس، عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها تدريجياً، ومن ثم أضعفت من آفاق أعمال بعض الشركات وعلى رأسها "زووم"، حيث تراجعت الحاجة إلى عقد الاجتماعات عبر الإنترنت، مع عودة الأفراد إلى أماكن عملهم وممارسة الحياة بصورة طبيعية.

4- ظهور لاعبين ومنافسين آخرين: يتصاعد السباق المحموم بين شركات التكنولوجيا التي تقدم خدمات متشابهة أو متماثلة، على اقتناص حصص إضافية من السوق العالمية. فمثلاً، يواجه تطبيق "زووم" منافسة قوية مع شركة مايكروسوفت صاحبة تطبيق "مايكروسوفت تيمز" Microsoft Teams، الذي يجمع بين عقد الاجتماعات ومؤتمرات الفيديو وميزات التواصل الأخرى، والأخير بلغ عدد مستخدميه 250 مليون مستخدم نشط شهرياً في يوليو 2021. 

كما يوجد إلى جانب شركة "نتفليكس" مجموعة من المنافسين الآخرين في العالم، ومن بينهم شركة "والت ديزني" التي خصصت ميزانيات كبيرة لاقتناص حصة معتبرة من سوق البث الرقمي، وجاء رد فعل الأولى محدوداً لمواجهة هذه المنافسة، بل تحركت بشكل متناقض بزيادة أسعار الاشتراكات في أمريكا الشمالية. فيما تواجه شركة "ميتا" عدداً كبيراً من المنافسين في ساحة وسائل التواصل الاجتماعي. وبدوره، يتطلع الرئيس التنفيذي لشركة "تسلا"، إيلون ماسك، لإنشاء منصة عالمية جديدة للتواصل الاجتماعي، بينما تتزايد المنافسة على الحصص بين تطبيقات الفيديوهات القصيرة مثل "تيك توك"، و"يوتيوب".

5- تراجع أعداد المشتركين والمستخدمين: فعلى سبيل المثال، شهدت منصة "فيس بوك" تراجعاً في عدد مستخدميها للمرة الأولى منذ إطلاق الشركة قبل 18 عاماً، مع تحول المستهلكين إلى منصات اجتماعية أخرى تستخدم الإعلانات بوتيرة أقل. وانخفض عدد مستخدمي "فيس بوك" بنحو 100 مليون من نحو 1.93 مليار مستخدم نشط في الربع الثاني من 2021، إلى نحو 1.92 مليار مستخدم بنهاية العام الماضي، وهو انخفاض قياسي في مدة زمنية قصيرة، ما يعكس مشاكل جذرية في نموذج أعمال الشركة.

6- تغير الأُطر التنظيمية لشبكات التواصل الاجتماعي: هناك العديد من الأُطر التشريعية والتنظيمية التي أقرها عدد من الحكومات في العالم، والتي تضع قيوداً على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، مما سيحد من نمو أعداد المستخدمين في هذه الدول في المستقبل. 

آفاق مستقبلية:

بسبب جائحة كورونا، تواجه الشركات العالمية جملة من التحديات؛ من أبرزها ارتفاع معدلات التضخم، وتشديد البنوك المركزية للسياسة النقدية والاتجاه نحو رفع أسعار الفائدة، واضطراب سلاسل التوريد، ومما يُحتمل معه أن تتأثر نتائج أعمال الشركات وأرباحها في المدى القصير، وسيضغط بالتالي على أسعار الأسهم. 

وعلى الرغم من ذلك، تتباين الاتجاهات بين المحللين حول اتجاهات أسعار أسهم قطاع التكنولوجيا في عام 2022، حيث يحذر البعض من الاستثمار في أسهم شركات التكنولوجيا؛ في ضوء التشديد المُتوقع للسياسة النقدية وارتفاع سعر الفائدة الأمريكي، وهو ما قد تنجم عنه موجات بيع صناديق الاستثمار لأسهم تلك الشركات أو غيرها. وفي المقابل، يعتقد آخرون أن الهبوط المُتتالي لأسهم الشركات ليس إلا أمراً عارضاً ومؤقتاً، ويعود سببه إلى الأداء المالي المُخيب للآمال لبعض شركات التكنولوجيا في العام الماضي، والذي يمكن أن يتعافى في المديين المتوسط والبعيد. وبنظرة قليلة إلى الوراء، استطاعت أسهم شركات التكنولوجيا في المتوسط تحقيق معدلات عائد تنافسي وقوي للغاية لمستثمريها خلال السنوات الأربع الماضية، وهو اتجاه سيستمر على الأرجح، مع مساعي الشركات لتطوير وتنويع خدماتها، وبناء شرائح جديدة من العملاء. 

وجدير بالذكر أن سعر سهم "آبل" ارتفع خلال 5 سنوات من نحو 43.75 دولار في عام 2018 ليسجل نحو 168.6 دولار للسهم الواحد في فبراير 2022. وينطبق هذا الأمر أيضاً على أغلب أسهم التكنولوجيا الأخرى؛ فقد ارتفع سعر سهم شركة "مايكروسوفت" إلى 295 دولاراً في فبراير 2022 مقارنة بنحو 64.6 دولار للسهم خلال عام 2018، وأيضاً سهم "نتفليكس" ارتفع بنسبة 175.14% خلال الفترة المذكورة.

ختاماً، يمكن القول إن أسهم شركات التكنولوجية الكبرى حققت زخماً قوياً بالتزامن مع بداية جائحة كورونا، حيث أصبحت عنصراً أساسيا ًفي الحياة اليومية في ظل الوضع الصحي العالمي المضطرب، مما زاد من شهية المستثمرين لضخ رؤوس أموال في هذه الشركات، مع نمو أعداد مستخدميها. لكن مع عودة الحياة إلى طبيعتها تدريجياً، تتضاءل فرص نمو بعض شركات التكنولوجيا في الأمد القصير، إلا أن هذا الأمر مؤقت وستستطيع تلك الشركات عكس مسارها مع تقديم مزيد من الخدمات المتطورة والمتنوعة.