حسابات متغيرة

لماذا تواجه روسيا تحديات عسكرية في أوكرانيا؟

04 March 2022


قال بطل الملاكمة السابق مايك تايسون مرة: "يسير كل شخص حسب خطة.. إلى أن يتلقى لكمة في وجهه". تبدو هذه المقولة بسيطة، لكنها تحمل الكثير من الحكمة والمنطق، ففي الحرب، يظل للعدو الكلمة الحاسمة، فلا يمكن للتخطيط العسكري – مهما بلغ تعقيده – أن يتنبأ بدقة بالخطوات التي قد يتخذها الخصم للتخفيف من حدة الهجوم أو إبطائه أو صده، فدراسة مخزون أسلحة الهدف وعدد أفراد قواته الرسمية ما هو إلا جزء من المعادلة عند تقدير قدرات الخصم القتالية.

ولا يمكننا في هذا المنعطف التاريخي أن نتبين على وجه اليقين أهداف حرب موسكو – أو بالأحرى أهداف الرئيس فلاديمير بوتين – النهائية من وراء شن هذا الهجوم متعدد الجوانب والواسع النطاق على أوكرانيا، لكننا نستطيع افتراض أنه كانت هناك خطة، ولكن نظراً للإحباط الواضح على بوتين في المرات التي ظهر فيها مؤخراً على شاشات التلفاز، يمكننا أن نفترض أن الحرب لن تسير كما توقع الكرملين، وهو ما يعزيه بعض الخبراء إلى حقيقة أن بوتين يتبع استراتيجية قائمة على فرضية خاطئة، ألا وهي اعتقاده أن أوكرانيا ليست دولة، وأنها بلا هوية قومية، وأن كييف ستسقط بسرعة، بحيث يمكن عزل الرئيس الأوكراني زيلينسكي وتعيين نظام طوع يد روسيا محله. وبناءً على الثقة التي أظهرها القادة الروس في بداية اندلاع هذه الحرب، ثم الاعترافات المتخبطة والمندهشة للجنود الروس الأسرى منذ ذلك الحين، يمكننا القول إن موسكو أخطأت في تقدير عزم الأوكرانيين على الدفاع عن أراضيهم واستعدادهم لتحمل خطر الموت والحرمان، وهما من النتائج الثانوية المروّعة لأي حرب.

صمود المقاومة الأوكرانية

فشلت حتى الآن الموجات العديدة من الهجمات المنسقة بصواريخ كروز والضربات المدفعية ضد البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا (ومنها المطارات ومنشآت الرادار ومراكز القيادة العسكرية ومحطات تكرير النفط وغيرها من البنى التحتية الأخرى) في كسر عزيمة أوكرانيا على القتال. فبسبب الاختلال الهائل في التوازن بين القدرات العسكرية للدولتين، فإن قدرة أوكرانيا على الصمود في القتال تعتمد على العوامل النفسية بنفس قدر اعتمادها على الوسائل المادية، إن لم يكن بقدر أكبر. 

ومن أجل رفع معنويات الشعب الأوكراني – من مقاتلين ومدنيين على حد سواء – يميل قادة أوكرانيا بالطبع إلى تهويل خسائر روسيا والتقليل من سوء الوضع لدى الوحدات العسكرية الأوكرانية في جنوب شرق البلاد. ومن المؤكد أن الأوضاع متغيرة وغير مستقرة للغاية، لذا يجب التعامل مع أكثر المعلومات الواردة من أوكرانيا بقدر كبير من الشك. 

ومع ذلك، فإن قياس أداء روسيا العسكري عن طريق تطبيق بعض معايير الأداء الأولية قد يمكّننا من قياس كفائتها العملياتية. بيد أن أغلب المحللين العسكريين والمراقبين القدامى لروسيا يتفقون على أن الجيش الروسي قد واجه مقاومة أشد من توقعاتهم. وسبب تلك الاستنتاجات هو عدد من النكسات الكبيرة التي تعرضت لها بعض القوات الروسية الخاصة في الأيام الأولى من الحرب.

الحسابات الروسية

وعلى الرغم من جهلنا بأهداف الكرملين الاستراتيجية في أوكرانيا، يمكننا الافتراض أن روسيا تؤمن بوجود "مركزي ثقل" يحركان حملتها العسكرية: المركز الأول كييف، العاصمة ومقر السلطة السياسية؛ والمركز الآخر هو الجيش النظامي الأوكراني. لذا من المحتمل أن يرى الكرملين أن الطريق إلى هزيمة أوكرانيا هو الاستيلاء على المركز الأول وتدمير الآخر، لا سيما تلك الوحدات المحصورة بين القوات الروسية التي خرجت من شبه جزيرة القرم والوحدات الواقعة في شرق دونباس. غير أن الجيش الروسي لم يحقق هذه الأهداف حتى الآن.

وبعد شهور من الاستعداد، نفذت روسيا حتى الآن هجوماً عشوائياً وغير متماسك على نحو يثير التعجب. وبعد فشل الطليعة الأولى من القوات العسكرية الروسية، المجهزة تجهيزاً خفيفاً، في تجاوز حدود المدينة، انضمت إليها أعداد هائلة من المدفعية والمدرعات. ولقد تكبدت الوحدات المحمولة جواً وغيرها من وحدات المشاة المتخصصة خسائر فادحة في الأيام السابقة أثناء محاولتها شن هجمات للاستيلاء على المواقع الرئيسية في كييف وما حولها. 

ومن المحتمل أن تكون هذه الإخفاقات التكتيكية جاءت نتيجة عدم صبر الرئيس بوتين الذي طالب بتحقيق نصر سريع قبل أن تتمكن أوكرانيا من تنظيم دفاع لائق عن المدينة وقبل حشد الدعم الدولي بالكامل خلف الحكومة الأوكرانية.

لذا اندفعت روسيا للوصول إلى كييف باللجوء للقوات الخاصة والوحدات الخفيفة للإطاحة بزيلينسكي من منصبه وإقامة نظام موالي لروسيا يحل محله. ولكن سرعان ما انحرفت هذه الخطة عن مسارها، فلقد تم القضاء على الوحدة المكلفة بالسيطرة على المطار القريب من كييف والاستيلاء عليه حتى من قبل وصول المزيد من القوات. أضف إلى ذلك تدمير الجسور، مما أدى إلى إطالة رحلة القوات الروسية إلى مواقعها، وهو ما شكّل ضغطاً على خطوط الإمداد.

نقلة استراتيجية؟ 

حذر خبراء الشؤون العسكرية الروسية لعدة أيام من أن روسيا لم ترسل إلى داخل الأراضي الأوكرانية حتى الآن سوى جزءاً – ربما لا يتعدى الثلث – من القوات التي حشدتها على الحدود الأوكرانية. ونشرت تقارير إعلامية في الأول من مارس صوراً من الأقمار الصناعية لقافلة طولها 40 ميلاً من المركبات العسكرية والمدرعات الروسية متجهة نحو كييف. ولكن وجود سلاسل لوجستية باحتياجات أكثر سيزيد العمليات العسكرية تعقيداً، فهناك أدلة – من وسائل التواصل الاجتماعي على الأقل – على نفاد الوقود من المركبات الروسية، بل وعلى وجود مشكلات في  توفير الغذاء للجنود المرابطين في المواقع الأمامية.

ومع استبعاد احتمال الاستيلاء الروسي السريع على العاصمة الأوكرانية، من المرجح أن يعود الجيش الروسي الآن إلى منطقة راحته، ألا وهي عمليات الأسلحة المشتركة التي تكون فيها المدفعية هي المسيطرة.

وهكذا سنرى في الأيام المقبلة القوة الكاملة للآلة العسكرية الروسية المُحدّثة، والتي تم تجديدها بالكامل منذ حرب روسيا ضد جورجيا عام 2008. وتتعرض الوحدات الأوكرانية في الشرق، والتي أُرسلت منذ فترة طويلة إلى مواقع قريبة من المناطق الانفصالية، لخطر الانعزال والحصار بسبب صفوف القوات الروسية القادمة من شبه جزيرة القرم والتي لم تواجه مقاومة كبيرة بعد. وستشهد هذه المرحلة الجديدة من الحرب وتيرة ونطاق جديدين للقوة العسكرية يختلفان عن السابق. وستواجه كييف بطش هذه الآلة الحربية، وهو ما ستواجهه أيضاً القوات الأوكرانية التي تقاتل في الجنوب الشرقي في محاولة ألا تقع في حصار الكماشة الروسية.

ومع ذلك، علينا توخي الحذر عند افتراض أن تنامي القوة الخام للجيش الروسي ستؤدي تلقائياً إلى نجاح استراتيجي، فعلى الرغم من أن تنامي قوة السلاح سيعوّض بالتأكيد بعض أوجه القصور التي شهدتها ساحة المعركة حتى الآن، فإن الحرب ستنتقل إلى مسار جديد: من المرحلة الأولى من الحرب التقليدية إلى المرحلة التالية من حرب المدن، وربما إلى المرحلة التالية من مقاومة احتلال غير مرحب به.

باختصار، سيتكيف الأوكرانيون مع هذه المرحلة الجديدة. ولكن أي محاولة من جانب التشكيلات العسكرية الأوكرانية لمناطحة القوة الروسية الساحقة رأساً برأس ستنتهي بكارثة، وهو من غير المرجح حدوثه، فالتقدم العسكري الروسي على عدة جبهات في وقت واحد قد شتت رد فعل الجيش الأوكراني وأجبره على التركيز على العمليات الدفاعية، لا سيما في المراكز الحضرية الرئيسية، كما سيتعين على الجيش مضاعفة هذه التكتيكات غير المتكافئة والتي حققت حتى الآن نتائج مُرضية. وبعد تعرض الجيش الروسي لانتكاسات في وقت سابق، من المرجح أن يعتمد الآن على إطلاق أسلحته بغزارة، مما سيتسبب في دمار أكبر في حرب مُدمِرة بالفعل.