متن نيوز:

ترتيبات هشة: لماذا يتعثر الاستقرار السياسي في السودان؟

07 February 2022


عصفت أزمة سياسية مطوّلة بالسودان بعد أن أطاح الجيش بالرئيس عمر البشير من السلطة في أبريل 2019 بعد أشهر من الاحتجاجات ضد حكمه الذي استمر 30 عامًا. ومع ذلك، فشل استيلاء الجيش على السلطة في تهدئة المحتجين، الذين وصفوا هذا الاستيلاء بأنه "انقلاب النظام" صُمم استراتيجيًا للحفاظ على وضع الجيش في السلطة، فتشكيل مجلس عسكري انتقالي، برئاسة الفريق عوض بن عوف، الذي فرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وفترة انتقالية لمدة عامين لتهيئة البلاد لحكم مدني، أدى إلى إثارة فكرة تمسك الجيش بالسلطة في أذهان المواطنين.

ولقد تشكل تحالف لجماعات المعارضة باسم "قوى الحرية والتغيير"، وحثّ المتظاهرين على مواصلة التظاهرات والدعوة إلى تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية، ورفض حظر التجول الذي فرضه المجلس العسكري. وفي 11 أبريل 2019، استقال عوض من رئاسة المجلس العسكري الانتقالي بعد احتجاجات شديدة ومتواصلة، وجاء الفريق عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان بديلًا له. وفي 20 أغسطس 2019، قام قادة الجيش وقادة التظاهرات بحل المجلس العسكري، وشكلّوا مجلسًا سياديًا انتقاليًا مكونًا من 11 عضوًا لحكم السودان لمدة ثلاث سنوات حتى الانتخابات العامة في عام 2022. وضم مجلس السيادة السوداني ستة مدنيين وخمسة عسكريين، وتولى البرهان قيادته لمدة 18 شهرًا، على أن يتولى القيادة بعده زعيم مدني يعيّنه المتظاهرون، ويستمر حكمه لمدة الثمانية عشر شهرًا المتبقية من الفترة الانتقالية. وفي 21 أغسطس 2021، عيّن مجلس السيادة عبدالله حمدوك الكناني رئيسًا للوزراء. 

ومن هنا بدأت فترة من المكائد السياسية المعقدة اتسمت بوجود علاقات مدنية-عسكرية حادة تتنافس على الهيمنة والنفوذ والسلطة.

التنافس العسكري المدني 

يمكن القول إن الحكومة الانتقالية كانت بمنزلة تسوية سياسية بين القيادة العسكرية والمدنية مدفوعة بأهداف متباينة بالنسبة لكليهما. أما الجيش، فقد كان دافعه الرئيسي هو وقف الخسارة المفاجئة للسلطة، بينما كان هدف القادة المدنيين هو تشكيل حكومة مدنية وديمقراطية بالكامل. وعلى الرغم من أن الاتجاه نحو حكم شامل للأطراف كافة قد لقي ترحيبًا، فإن ضم الجماعات السياسية والمسلحة الرئيسية – باستثناء الفصائل الإسلامية – إلى الحكومة زاد من التعقيدات السياسية لإقامة حكومة انتقالية.

وكانت محاولة اغتيال حمدوك في مارس 2020 انعكاسًا لتدهور المشهد السياسي في السودان. وبعدها مر القادة العسكريون والمدنيون بفترة سلام غير مستقرة، فلقد اتهم المدنيون العسكريون بالفشل في السيطرة على قواتهم وبالإبقاء على الخائنين وسط صفوفهم، في حين اتهم الجيش الحكومة المدنية بسوء إدارة الاقتصاد والتسبب في زعزعة الاستقرار بسبب الخلافات السياسية بينهما.

ثم تصدر التنافس السياسي المشهد باحتجاز الجيش لرئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك، وأعضاء آخرين في حكومته، في 25 أكتوبر 2021. وهذا ما جاء في أعقاب ورود تقارير عن محاولة انقلاب فاشلة دبّرها مجموعة من المتعاطفين مع الإسلاميين، بعضهم ضباط حاليون وسابقون في الجيش السوداني. وبرر الجيش الإجراءات التي اتخذها في 25 أكتوبر الماضي بأنها جاءت لإعادة المرحلة الانتقالية إلى مسارها ولتعزيز الاستقرار السياسي، ولكن توقيتها ربما أثار الشكوك، حيث جاءت في وقت كان من المقرر أن يسلّم فيه الجيش قيادة مجلس السيادة السابق إلى قيادة مدنية خلال الأشهر المقبلة.

ولما فشل الجيش في الاحتفاظ بالسلطة الكاملة، انسحب وأعلن إعادة تعيين حمدوك رئيسًا للوزراء. ولكن لم يتوقع لا الجيش ولا حمدوك التغيرات السياسية في الواقع السياسي على الأرض، حيث شجع الانسحاب العسكري الشارع السوداني على رفض الصفقة، وطالب الجيش بتقديم المزيد من التنازلات. ومنها إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ومحاكمة ضباط الجيش المتورطين في قتل 42 متظاهرًا خلال أعمال العصيان التي استمرت شهرًا، وإقامة حكومة ذات قيادة مدنية وجيش يقتصر دوره على أعمال وزارة الدفاع. وكان من بين من رفضوا الصفقة التي أعادت حمدوك إلى السلطة عنصر من العناصر الأساسية للقاعدة الداعمة لحمدوك، ألا وهو الجماعات السياسية المعارضة الرئيسية، مثل حزب الأمة – وهو أكبر منظمة سياسية في السودان – بالإضافة إلى بعض أعضاء قوى الحرية والتغيير، فلقد اتهموا حمدوك بإعطاء الجيش الشرعية والقبول لاستمرار هيمنته على المجال السياسي. ومما أعطى مصداقية لهذا الموقف الفكري كان الإعلان عن ترأس حمدوك حكومة من التكنوقراط بدلًا من الحكومة السابقة، التي تألفت من ساسة وقادة آخرين. ولقد رأى الكثيرون أن الجيش كان يعزز سلطته للإبقاء على الوضع الراهن من خلال الوكالة عن طريق دفع القيادة المدنية التي تتمتع بالمصداقية إلى هامش المشهد السياسي.

سيولة العنف الطائفي

وبعيدًا عن المجال السياسي المحلي، أدت سلسلة من الأحداث العنيفة في بعض المناطق الواقعة على أطراف السودان إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي في البلاد، فمنذ سبتمبر 2021، على سبيل المثال، اندلعت التظاهرات في الأجزاء الشرقية من البلاد، حيث احتجت بعض القبائل على اتفاق السلام الذي تم توقيعه في أكتوبر 2020 بين الحكومة الانتقالية والجماعات المتمردة في المنطقة. وكان للاحتجاجات تداعيات اقتصادية حيث عطّل المتظاهرون تدفق حركة التجارة والبضائع من ميناء بورتسودان والعاصمة الخرطوم. ولقد ترددت أصداء الأحداث التي شهدتها أطراف البلاد وانعكست على مناطق أخرى، فلقد اندلعت الاحتجاجات في جنوب دارفور بعد نقص الخبز بسبب انخفاض إمدادات القمح نتيجة الاضطرابات.

وبالمثل، نجد أن اندلاع العنف الطائفي والمخاوف من تصعيد العنف إلى مناطق أخرى في البلاد قد أدى إلى تصعيد التوترات السياسية، ففي نوفمبر 2021، أدت الاشتباكات الطائفية بين البدو، رعاة الإبل، وبين المزارعين في منطقة جبل مون بولاية غرب دارفور إلى مقتل 50 شخصًا، كما شهدت مناطق طويلة ودار السلام وسورتوني وكبكابية بشمال دارفور اشتباكات مماثلة.

تعقد المشهد الاقتصادي 

أدت هشاشة الوضع الاقتصادي إلى تفاقم الأزمة السياسية كما ذكرنا قبلًا، فعلى الرغم من بوادر الانتعاش والاستقرار التي ظهرت في أعقاب الإطاحة بالبشير في عام 2019، فإن عدم الاستقرار السياسي الذي طال أمده أعاق الانتعاش الاقتصادي، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى زيادة عدم الاستقرار السياسي، حيث إن الظروف الاقتصادية المتدهورة هي التي أشعلت الاحتجاجات التي أدت إلى الإطاحة بالبشير في عام 2019. ومنذ استقالة حمدوك، استمرت قيمة الجنيه السوداني في التراجع أمام العملات الرئيسية، حيث تم تداول الدولار عند سعر439،55 جنيه سوداني، بينما يتم تداوله في السوق السوداء عند سعر 475 جنيهًا، بنهاية يناير 2022، بينما بلغ سعر اليورو الواحد 516 جنيهًا سودانيًا. علاوة على ذلك، من المرجح بعد خروج حمدوك من السلطة أن تتردد الدول المانحة الرئيسية والجهات الممولة الدولية في تقديم المساعدات الاقتصادية للسودان، فلقد أوقفت الولايات المتحدة والوكالات الدولية مساعداتها المالية للسودان والتي بلغت قيمتها مئات الملايين من الدولارات، في حين توقفت عملية إعفاء السودان من ديونها التي بدأت في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون التي أطلقها صندوق النقد الدولي.

وهناك تحد آخر يكمن في أن محاولات تنفيذ الإصلاح الاقتصادي بما يتماشى مع مقترحات صندوق النقد الدولي تزيد من مخاطر نشوب مزيد من الاضطرابات، ففي عام 2021  على سبيل المثال، اندلعت تظاهرات عنيفة بعد أن رفعت الحكومة الدعم عن البنزين والديزل، مما أدى إلى تضاعف الأسعار. ومما أثار القلق أن الاحتجاجات اتخذت طابعًا سياسيًا، حيث دعا المتظاهرون إلى إقامة حكومة مدنية بالكامل.

وهكذا يواجه السودان مهمة شاقة لتحقيق الاستقرار لأن المساعدات الدولية والتجارة والاستثمار والأعمال تتطلب إمكانيات للتخطيط والتنبؤ، ولكن عدم وضوح المشهد السياسي، نتيجة العديد من التغييرات السياسية المفاجئة في قيادة البلاد، يحول دون ذلك.

احتمالات تفاقم الأزمة

ليس من المحتمل الآن أن يسيطر الجيش على الفضاء السياسي بسبب الضغوط المحلية والإقليمية والدولية. ولكن إذا حاول الجيش ذلك على المدى المتوسط، فسيتعين عليه أن يركز على وضع الحسابات السياسية في الاعتبار ضمن معايير الصفقة الحالية. ويبدو أن القيادة المدنية لا تزال مكتوفة الأيدي بسبب الانقسامات والمنافسات الداخلية، ويظل مصدر قوتها الوحيد المتبقي للقبول السياسي هو المتظاهرون في الشارع. وهكذا، ستستمر احتجاجات الشوارع العنيفة في محاولة لإجبار القيادة العسكرية على التنازل عن مزيد من الصلاحيات للقيادة المدنية وللفت الانتباه الدولي والإقليمي إلى مسارها.

ومن الأمور الكاشفة أن الترتيب بين القيادة المدنية والعسكرية بشأن الحكم هو ترتيب يقوم على النفع والضرورة. وسيفضي غياب آليات إدارة المصالح المتباينة من القيادة المدنية والعسكرية إلى تحالف مدني-عسكري مشحون بالتوتر. فالجيش من جانبه يشعر بالقلق إزاء فقدانه الامتيازات والسلطات المطلقة التي كان يتمتع بها طوال 30 عامًا خلال حكم البشير. أما بالنسبة للقيادة المدنية، فلقد أدت المشاحنات الداخلية وانعدام الثقة فيما بينهم إلى إضعاف قدرتهم على تشكيل جبهة موحدة. لذا من المحتمل أن يؤدي طول أمد الأزمة السياسية إلى دفع أعضاء الجماعات المسلحة إلى التخلي عن اتفاقهم مع الحكومة واللجوء إلى العنف.

أخيرًا، فإن الحال الآن يشي بأن تعدد العوامل المؤثرة في أزمة السودان يعني عدم وجود علاج واحد وسهل للأزمة. ومع ذلك فإن الخطوة الحاسمة نحو الانتقال الناجح لحكم مدني تتمثل في إنشاء هياكل لإدارة وتخفيف حدة اختلاف المصالح والتوقعات من جانب القيادة السياسية المدنية-العسكرية ذات القاعدة العريضة. وتتطلب هذه العملية التنويع لتحفيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالتوازي مع إحداث تغييرات سياسية في البلاد. وكما أظهرت الأزمة، فإن التركيز المفرط على المسرح السياسي على حساب القطاعين الآخرين قد يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

*لينك المقال في متن نيوز*