عوائد متفاوتة:

الرابحون والخاسرون من الاتفاق الضريبي العالمي

11 January 2022


يسعى العالم منذ سنوات لاتخاذ تدابير جادة من أجل إقرار قواعد ضريبية شاملة، تساهم في تعزيز عدالة وكفاءة النظام الضريبي العالمي. وفي أكتوبر 2021، أقرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، فرض حد أدنى لضريبة أرباح الشركات متعددة الجنسيات بنسبة 15% بدءاً من عام 2023. وتستهدف المنظمة من خلال تلك القاعدة الجديدة، التي تنتظر امتثال الموقعين لها، الحد من اتجاه الشركات متعددة الجنسيات للتحايل على النظم الضريبية للدول من خلال تحويل الأرباح إلى دول تقدم إعفاءات ضريبية أو تفرض ضرائب منخفضة، وذلك بغض النظر عن الدول التي تم تحقيق هذه الأرباح فيها فعلياً. وخلال السنوات القليلة الماضية، انتقل جزء كبير من الأرباح التي تحققها الشركات من الخدمات غير الملموسة، مثل براءات الاختراع، والبرمجيات، وعائدات الملكية الفكرية، للملاذات الضريبية، حتى باتت الشركات التكنولوجية المسؤول الأول عن تراجع الحصيلة الضريبية لكثير من دول العالم.

اتفاق طال انتظاره:

في محاولة لترجمة الجهود الدولية المستمرة منذ سنوات بهدف تعزيز عدالة النظام الضريبي العالمي، أعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في 8 أكتوبر 2021، عن إتمام اتفاق ضريبي عالمي، وقّعت عليه نحو 136 دولة من أصل 140 مستهدفة، حيث يقضي بفرض حد أدنى لضريبة أرباح الشركات متعددة الجنسيات وقدرها 15%، على أن يسري الاتفاق بدءاً من عام 2023.

وبعد فترة طويلة من المفاوضات الضريبية خلال السنوات الأخيرة، لاقى هذا الاتفاق قبولاً أوسع لدى كثير من دول العالم، حيث انضمت أيرلندا وإستونيا والمجر إليه، وهي من ضمن الدول التي تفرض معدلات ضريبية منخفضة على الشركات، ليشمل بذلك دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كافة والبالغ عددها 38 دولة، بالإضافة إلى دول مجموعة العشرين، كما وقعت 10 دول عربية على الاتفاق. وإجمالاً، تمثل الدول الموقعة على الاتفاق نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وقد جاء الاتفاق بعد إجراء محادثات ضريبية عالمية في عام 2021، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، مع تأييد دول مجموعة السبع لفرض حد أدنى من الضرائب على الشركات الكبرى، فيما تم تقديم حوافز وعمل مواءمات لحث أكبر عدد من الدول على الانضمام إليه، ومنها الاتفاق على زيادة عدد الشركات المشمولة ومراجعة نسبة الضريبة بعد 7 سنوات من التطبيق؛ وذلك من أجل إقناع الدول الناشئة للانضمام إلى الاتفاق الجديد.

ومن المنصوص عليه في الاتفاق، أن يتم إجراء مباحثات مراجعته والمقرر أن تبدأ في عام 2030، على ألا تتعدى مدة إنجازها 12 شهراً، وهو ما ساعد في إقناع دول مثل الهند وتركيا والأرجنتين على قبول هذا الاتفاق الضريبي. كما تم التفاوض في عدد من البنود لحث دول مثل أيرلندا على الانضمام إليه، وأبرزها اقتصار الضرائب في الوقت الراهن على 15%، وهو ما يعد نصف ما بدأت به المباحثات الأولية التي دارت حول 30%.

وبشكل عام، ترى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الاتفاق الجديد لا يسعى إلى القضاء على المنافسة الضريبية؛ ولكنه يضع ضوابط تضمن تحسين كفاءة المنظومة والحد من التهرب الضريبي، بالإضافة إلى القضاء على التحديات الضريبية الناشئة عن تسارع رقمنة الاقتصاد العالمي.

ومن هنا، يقوم اتفاق فرض حد أدنى للضريبة على الشركات متعددة الجنسيات على ركيزتين أساسيتين؛ الأولى تتمثل في ضمان الحقوق الضريبية بين دول العالم، اعتماداً على التحقق من قيام الشركات متعددة الجنسيات بدفع حصة عادلة من الضرائب أينما كانت تعمل وتُدر أرباحاً في مختلف دول العالم، حيث سوف تتم إعادة تخصيص الحقوق الضريبية على هذه الشركات بين بلدانهم الأصلية أو الأسواق التي يكون لديها فيها أنشطة تجارية وتحقق أرباحاً من خلالها. وحدد الاتفاق الشركات المستهدفة، وهي الشركات الرابحة من العولمة والتي تزيد مبيعاتها العالمية على 20 مليار يورو (ما يعادل 22.6 مليار دولار) سنوياً، وتحقق معدل ربحية يتجاوز 10%، مع إعادة تخصيص 25% من الأرباح فوق عتبة 10% للسلطات القضائية. وبموجب الركيزة الأولى، من المتوقع إعادة توزيع نحو 125 مليار دولار من أرباح كبريات الشركات في العالم.

أما الركيزة الثانية من الاتفاق، فتتمثل في التوافق على حد أدنى من الضرائب نسبته 15% على الشركات متعددة الجنسيات التي تزيد إيراداتها على 750 مليون يورو (848 مليون دولار) سنوياً. وهنا أشارت صياغة الاتفاق إلى أن النسبة المتفق عليها هي الحد الأدنى، بما يفتح الباب لإمكانية أن ترتفع نسبة الضريبة المفروضة في المستقبل، خاصة أنها نسبة متواضعة مقارنة بالمباحثات التي بدأت بسقف يتراوح بين 20 و30%، كما أن النسبة المتفق عليها هي دون المعدل السائد في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والذي يتراوح بين 33% في البرتغال، و15% في ليتوانيا. والجدير بالذكر أنه توجد 3 دول فقط في المنظمة تفرض معدلاً ضريبياً أقل، وهي أيرلندا بنحو 12.5%، وتشيلي بـــ 11%، والمجر بــ 10%.

أما عن عائدات الاتفاق، فمن المتوقع أن يعمل على تأمين ما يصل إلى 150 مليار دولار سنوياً من إيرادات الضرائب عالمياً، كما أنه سوف يدعم استقرار النظام الضريبي الدولي وزيادة اليقين الضريبي لكل من دافعي الضرائب والإدارات الضريبية. وبالرغم من ذلك، لا يزال هذا المبلغ أقل من تحويلات الأرباح الخارجية التي أجرتها الشركات متعددة الجنسيات للملاذات الضريبية الآمنة والمُقدرة بنحو 650 مليار دولار، وفقاً لورقة بحثية صدرت في عام 2019 عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية  (NBER)وهو مؤسسة بحثية أمريكية.

عدالة العائدات:

بطبيعة الحال، تتضمن الاتفاقيات العالمية كافة رابحين وخاسرين منها. ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتي تبنت الاتفاق الضريبي الأخير، فإن مكاسب الدول النامية ستزيد عن الاقتصادات المتقدمة كنسبة من الإيرادات الضريبية المتوقعة، لكن يرى مراقبون من المنظمات غير الحكومية وبعض الاقتصاديين أن الاتفاق يفتقر إلى الطموح وستنتج عنه حالة من عدم المساواة في العائدات الضريبية بين الدول النامية والأخرى المتقدمة.

وينظر البعض إلى أن الاقتصادات العالمية الكبرى والمتقدمة هي الرابح الأكبر من الاتفاق الضريبي الجديد، حيث تحقق الشركات متعددة الجنسيات بها حجماً أكبر من المبيعات مقارنة بالدول النامية. وعلى الأرجح أن تكون البلدان النامية التي توجد بها مقرات ومصانع الشركات العالمية وأعمالها الأخرى فقط، هي المستفيد من الاتفاق، أما باقي الدول النامية فمكاسبها منه تبدو محدودة للغاية.

كما أنه ليس مستبعداً أن تقوم الشركات بترحيل أعبائها الضريبية إلى المستهلكين بالدول النامية، عبر زيادة الأسعار المفروضة على الخدمات التي تقدمها، أو أن تقوم باستغلال بعض الثغرات لتقليل مقدار ما تدفعه من ضرائب.

ولذا يؤيد وزير الاقتصاد الأرجنتيني، مارتن جوزمان، وجهة النظر القائلة بأن هذا الاتفاق الضريبي لا يقدم الكثير من المنافع للدول النامية، فعلى الرغم من تأكيده أهمية الإصلاح الضريبي العالمي، فإنه صرح بأن الضرائب على الشركات متعددة الجنسيات يجب ألا تقل نسبتها عن 21%، لتقتنص الدول النامية قدراً عادلاً من المزايا. وفي هذا الاتجاه أيضاً، ترى منظمة "أوكسفام" غير الحكومية أن مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي ستجني حوالي ثُلثي العائدات الضريبية من الاتفاق العالمي الجديد، في حين أن أفقر دول العالم سوف تسترد أقل من 3% من المكاسب الضريبية المتوقعة، على الرغم من كونها موطناً لأكثر من ثلث سكان العالم.

تأثيرات جانبية:

يفرض الاتفاق الضريبي الجديد تحديات اقتصادية بالنسبة لبعض دول العالم التي تفرض معدلات ضريبية منخفضة أو صفرية على الشركات التكنولوجية العملاقة. وتعتمد اقتصادات بعض الدول على تدفقات الأموال التي تودعها الشركات الكبرى بالمؤسسات المالية فيها. وفي هذا السياق، يمثل قطاع الخدمات المالية لجزر العذراء البريطانية حوالي 60% من الناتج المحلي للبلاد في عام 2018، كما تمثّل جزر كايمان موطناً لصناديق التحوط التي تشارك بها الشركات الكبرى، والتي تحقق من ورائها إيرادات كبيرة، لكنها مُعرضة للتآكل في ظل الاتفاق الضريبي الجديد.

كما تعد أيرلندا واحدة من الدول التي تتمتع بواحد من أكثر الأسعار جاذبية للشركات في العالم، حيث تبلغ الضريبة المطبقة على الشركات فيها نسبة 12.5% فقط، وهو ما جعلها وجهة مفضلة لعدد كبير من الشركات الدولية. وقد حرصت الحكومات الأيرلندية المتعاقبة على الدفاع في المحافل الدولية عن المعدل المنخفض للضريبة على الشركات العالمية، بدعوى أنها كانت أداة لجذب الشركات وتنشيط الاقتصاد المحلي.

بيد أنه في النهاية انضمت أيرلندا إلى الاتفاق الضريبي الجديد بعد إدخال عدة تعديلات عليه، ومن بينها المحافظة على المعدل المنخفض للضريبة بالنسبة للشركات الأصغر الموجودة في البلاد والتي يقل حجم إيراداتها عن 750 مليون يورو سنوياً. وفي ضوء هذه التعديلات الضريبية، من المتوقع أن تتقلص الحصيلة الحكومية من الضرائب بمقدار 2 مليار يورو (2.3 مليار دولار) سنوياً؛ نتيجة تراجع تنافسية بعض الأنشطة الاقتصادية في البلاد.

امتثال الشركات الكبرى:

يبدو أن الشركات التكنولوجية العملاقة، مثل "جوجل"، و"ميتا"، و"آبل"، و"أمازون"، هي أكبر المتضررين من اتفاق فرض حد أدنى للضريبة على الشركات متعددة الجنسيات، حيث إنها اعتمدت في السابق على دفع ضرائب منخفضة أو عدم دفعها على الإطلاق في أفرع الدول التي يعملون بها؛ مما عرضها لانتقادات دولية متكررة.

وقد شهدت الشركات التكنولوجية نمواً في حجم أعمالها وأرباحها في الأعوام الماضية، لاسيما خلال جائحة كورونا؛ نتيجة النمو المتسارع للطلب العالمي على السلع والخدمات التكنولوجية. وفي المقابل، تكبدت مختلف دول العالم أضراراً اقتصادية ومالية واسعة في ظل فقدان الإيرادات الضريبية، وتراجع الأنشطة الاقتصادية؛ بسبب الجائحة. كما تحملت الدول أعباءً مالية ضخمة بسبب التوسع في الإنفاق على الأنظمة الصحية، بالإضافة إلى الحزم التحفيزية التي ضختها الحكومات لتنشيط القطاعات الاقتصادية الأكثر تضرراً، ودعم المتعطلين عن العمل خلال الجائحة.

ولكن يبدو أنه ليس هناك مفر أمام الشركات الكبرى سوى أن تمتثل للقواعد الضريبية الجديدة، في ظل الإصرار الدولي على إحراز تقدم في مسألة عدالة النظام الضريبي العالمي. وفي هذا السياق، عقبت شركة "ميتا" (فيس بوك سابقاً) بشكل إيجابي في يونيو الماضي على المباحثات الضريبية العالمية التي سبقت توقيع الاتفاق الأخير. وقال نيك كليج، نائب رئيس الشركة للشؤون العالمية، في أكتوبر الماضي: "نريد أن تنجح عملية الإصلاح الضريبي الدولية، وندرك أن هذا قد يعني دفع فيس بوك ضرائب أكثر وفي أماكن مختلفة".

طريق الإصلاح:

تطرح الأوساط الاقتصادية تساؤلات عديدة حول مدى إمكانية نجاح اتفاق الضريبة العالمي في معالجة مسألة التهرب الضريبي وتعزيز العدالة الضريبية؟ ويبدو ذلك منطقياً خاصة أن هذا الاتفاق ليس المحاولة الأولى لإصلاح النظام الضريبي العالمي. وعلى الرغم من انضمام عدد كبير من الدول للاتفاق، فإن رُبع دول العالم بما يمثل 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مازالت غير مدرجة فيه.

وهناك 4 دول شاركت في المحادثات ولكنها لم توقع على الاتفاق الضريبي، وهي كينيا ونيجيريا وباكستان وسريلانكا، حيث تعتقد كل من نيجيريا وكينيا أن الضمانات المقدمة للدول الناشئة غير كافية. كما تدور بعض الشكوك حول التزام الدول المشاركة في الاتفاق بالمدى الزمني لتنفيذه. ومن الناحية الفنية، مازالت الجوانب التقنية للاتفاق الضريبي غير واضحة بالشكل الكافي.

ختاماً، يمكن القول إن اتفاق فرض حد أدنى للضريبة على الشركات متعددة الجنسيات قد حظي بقبول عالمي غير مسبوق، على نحو يعزز الامتثال له، ويمهد الطريق لاتخاذ مزيد من الخطوات المقبلة نحو إصلاح النظام الضريبي العالمي، وتحقيق العدالة الضريبية على مستوى العالم. وعلى الرغم من ذلك، ينبغي على المشاركين في الاتفاق إعادة النظر في بعض الثغرات القائمة به، ومنها توزيع العائدات بين الدول النامية والمتقدمة، فضلاً عن تعزيز شفافية القواعد الضريبية.