تحديات خمسة:

الطريق نحو استعادة قوة الاتحاد الأوروبي

28 September 2015


إعداد: باسم راشد

يواجه الاتحاد الأوروبي العديد من التحديات التي تفرض عليه ضرورة مواجهتها وإعادة تعريف موقعه منها من أجل الحفاظ على رؤيته ومنظوره المختلف للعالم وللقيم التي يجب أن تسوده؛ فالهجوم الروسي على نظام ما بعد الحرب الباردة، وانهيار بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتزايد موجات الهجرة والإرهاب، بالإضافة إلى التحولات في توزيع القوى الدولية، والتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية، كلها تحديات أعادت تشكيل البيئة التي يجب على الاتحاد الأوروبي أن يسعى لتحديد موقعه فيها، وتبني سياسة خارجية تتفهم وتتقبل حدود التأثير الأوروبي من ناحية، وتطمح في تصدير نموذجها وقيمها الأساسية للعالم الخارجي من ناحية أخرى.

ويمتلك الاتحاد الأوروبي من الأدوات ما يُمكِّنه من لعب دور أكثر فعَّالية في الإقليم المحيط به وعلى النطاق الأوسع، سواء من خلال الدبلوماسية أو التنمية أو الأمن أو الاقتصاد أو غيرها، إلا أن هذا كله يعتمد على الدول الأعضاء ورغبتها وحدود قدراتها على تدعيم الاستراتيجية التي من شأنها تعزيز هذا الدور.

في هذا الإطار، نشر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية دراسة بعنوان: "الطريق نحو استعادة القوة الأوروبية" أعده سبعة باحثين، ليناقش التحديات الجديدة التي تفرض نفسها على الاتحاد الأوروبي وموقعه منها، مع العمل على تقديم رؤية مقترحة للتعامل معها من واقع استراتيجية أوروبية جديدة.

التحدي الروسي والنظام الأوروبي الجديد

يرغب العديد من الأوروبيين أن يُسهم اتفاق "مينسك" الأخير في تحقيق السلام في أوروبا، إلا أن الشهور الثمانية عشر الأخيرة أكدت أن الغرب لن يستطيع التعامل مع صراع المصالح القائم مع روسيا، ومن ثم ينبغي على الدور الأوروبي أن يكون أكثر تقييداً، وأن يسعى لإدارة الموقف بشكل أكثر احتواءً، لأنه ليس من المُرجح أن يتم حله بشكل سريع.

ويرتبط التحدي الروسي بالعديد من المحددات منها شخصية "فلاديمير بوتين" نفسه، وطبيعة النظام السياسي القائم، بجانب رؤية روسيا للعالم ورغبتها في أن تعود لحدود تأثيرها السابق كقوة عظمى في النظام الدولي، بالإضافة إلى التوترات بينها وبين دول الجوار الأوروبي الشرقي. ومن ثم، تساهم تلك المحددات مجتمعة في تعزيز السلوك الروسي العدواني وذات التأثير في أوروبا بما يهدد نظام ما بعد الحرب الباردة وقيمه التي أسس لها.

ومن ثم، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يتبنى نهجاً داعماً لدول الجوار الشرقي الأوروبي من ناحية، وعلاقة "حميمية عنيفة" tough love مع روسيا من ناحية أخرى؛ ويتطلب هذا الأمر ضرورة دعم استقلال الدول المجاورة لروسيا، وهو ما يعني عملياً توسيع نطاق السياسات نحوها؛ وأن يتم تقديم المساعدة في المجالات المتعلقة بالأمن كإصلاح قطاعات الأمن الداخلية، والتدريب على حراسة الحدود والخدمات الخاصة.

كذلك، يجدر دعم الاستقلال الاقتصادي لتلك الدول في مجالات أمن الطاقة والدخول إلى الأسواق على سبيل المثال. ولا يخفى أن تلك الأمور جميعها ستواجه تحديات معقدة؛ ليس بسبب روسيا فقط، بل بسبب النخب الحاكمة في تلك الدول، والتي يغلب عليها طابع الفساد أكثر.

أما بالنسبة لروسيا، فيجب على الاتحاد الأوروبي أن يتبع استراتيجية ثنائية تجمع بين العقوبات والتعاون؛ حيث ستزيد العقوبات من المصداقية في التعامل مع موسكو وستقيِّد قدرتها على المناورة، وفي نفس الوقت يجب العمل على تنمية العلاقات التعاونية بينهما حتى لو لم تكن قائمة على المبادئ والمعايير الأوروبية، لكنها على الأقل لن تقلل منها، وقد يكون التعاون بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوراسي أحد الأشكال الهامة لتحقيق هذا المسعى النهائي.

الشرق الأوسط وجغرافيا القوة الجديدة

تؤثر التطورات التي تحدث في الشرق الأوسط على الاتحاد الأوروبي، وقد تزايدت الصراعات داخل هذا الإقليم بشكل كبير بعد ظهور تنظيم "داعش" وامتداداه في الأراضي العراقية والسورية، ونمو جماعات تابعة له في شمال أفريقيا وغيرها.

وتشير الدراسة إلى أن الحقيقة الصعبة فيما يتعلق بدور الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أيضاً في التأثير على تطورات المنطقة، تُعد - ويجب أن تظل - محدودة؛ إذ إنه يمكن القول إن التطورات في الإقليم أصبحت تُدار من جانب دول الخليج وإيران وتركيا، وذلك بعد تراجع دول كبرى في المنطقة في السنوات الأخيرة مثل مصر وسوريا والعراق.

بيد أن الاتفاق بين بعض تلك الدول كالسعودية وإيران - على سبيل المثال - لمواجهة تنظيم "داعش" لما يمثله من تهديد للمنطقة، لم يُترجم على أرض الواقع في استراتيجية مشتركة، فبدلاً من ذلك زادت حدة التصعيد الطائفي بين الطرفين.

وتنقسم الدول الأوروبية في تحديد وضعها في العلاقات مع هذا الإقليم المُعقد، خاصةً في ظل تزايد تأثير تطوراته على أوروبا بسبب أزمات الهجرة، والتهديدات الأمنية من تدفق المقاتلين الأجانب، والهجمات الإرهابية التي تُشن على الدول الأوروبية.

ومن ناحية أخرى، تستفيد الدول الأوروبية من العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج. فعلى سبيل المثال، بلغت مشتريات دول الخليج من السلاح من فرنسا وحدها حوالي 14 مليار يورو في عام 2015.

في هذا الصدد، يتعين على دول الاتحاد الأوروبي تشجيع دول المنطقة على تحمل مسؤولية التوترات التي تحدث في دول جوارها، ويجب أن ينخرط الاتحاد الأوروبي في اتجاه عدم تصعيد الخلافات الإقليمية في الشرق الأوسط من خلال الطرق الدبلوماسية، وبالتحديد بين دول مجلس التعاون الخليجي وبين إيران عن طريق استغلال العلاقات الجيدة التي تربط دول أوروبا بكل من السعودية وإيران لفتح آفاق جديدة لحل المشكلات العالقة دون التحيز لطرف على حساب الآخر من الناحية الطائفية حتى لا تزداد الخلافات تعمقاً وتعقيداً.

ومن الضروري أن يسعى الأوروبيون لتحصين أنفسهم ودولهم من الأعمال الإرهابية المستقبلية من خلال سياسات احتوائية تعبر عن القيم الأوروبية، ولا تُقصي المسلمين نتيجة قيام بعضهم بأعمال عنف ضد بعض الدول الأوروبية، بحيث تشتمل الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي حماية وتعزيز الحقوق المدنية للجميع دون استثناء وعدم اتخاذ سياسات من شأنها تدعيم روح التطرف والعنف داخل بعض الجماعات الإسلامية.

إعادة تعريف العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا

تمثل القارة الأفريقية اختباراً استراتيجياً رئيسياً للاتحاد الأوروبي لأسباب اقتصادية وأمنية وجيوسياسية. وعلى الرغم من الجهود والمساعدات، سواء المادية أو قوات حفظ السلام التي تقدمها الدول الأوروبية لأفريقيا، فإن حدود تأثير الاتحاد ما زالت محدودة خصوصاً مع تنامي الاستثمارات الصينية داخل القارة السمراء.

جدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي قد حقق بعض النجاحات في استقرار بعض الدول مثل سيراليون وليبيريا، لكنه لم يتمكن من تحقيق نفس الأمر في دارفور ومالي، حيث تنتشر الجماعات الإرهابية بشكل كبير وتستهدف قوات الأمم المتحدة. ويضاف إلى ذلك، ظهور جماعة "بوكو حرام" في نيجيريا، والتي حجَّمت القدرة على تحقيق الاستقرار داخل الإقليم.

ومع ذلك لاتزال أمام الاتحاد الأوروبي فرص استراتيجية هامة في أفريقيا؛ فالحكومات الأفريقية في دول مثل نيجيريا والسنغال - على سبيل المثال – تريد تعاوناً أمنياً أفضل مع الاتحاد الأوروبي ضد الجماعات الإرهابية، وهو ما يتطلب وضع إطار تعاوني أوروبي ـ أفريقي لتحقيق هذا الأمر. كما ينبغي أن يتم توجيه المساعدات الأوروبية نحو دعم منع الأزمات، وتعزيز الحوكمة، وسيادة القانون في أكثر الدول هشاشة داخل الإقليم بما فيها سيراليون وليبيريا وغينيا، والتي تأثرت كثيراً بانتشار وباء "الإيبولا" في عام 2014.

تحدي الصعود الصيني في آسيا

عند الحديث عن القارة الآسيوية، فليس من شك أن الأمر ينصرف إلى الصعود الصيني في القارة، بل وطبيعة المؤسسات والمبادئ الدولية التي تنتجها داخل النظام الدولي، والتي تُعد تحدياً للنموذج الأوروبي في مجمله، خاصةً في كونها جاذبة للعديد من الدول التي تحبذ العمل داخل إطار مؤسسات جديدة عن إحداث تغييرات في المؤسسات القائمة في نظام ما بعد الحرب الباردة.

وإذا حدث هذا الأمر، فإن الاتحاد الأوروبي سيكون أكثر المتضررين، ومن ثم يتعين على دول الاتحاد ألا تخضع لإغراءات هذه المؤسسات الجديدة، بل بدلاً من ذلك تعمل على تحقيق استجابة جماعية لتلك المؤسسات.

ويُقصد بالنظام التعددي الجديد الذي تقوده الصين، ومن خلفها روسيا والهند، إلى جانب الكثير من الدول الواقعة تحت إغراءات النمو، أنه النظام الذي يعتمد على الحوافز التجارية والمادية، والذي يشكل الاقتصاد المحور الأساسي فيه، بعيداً عن القوة الصلبة أو الناعمة، حيث يدعم هذا النظام تدفق رأس الماس والنمو التجاري للدول الأعضاء ويقلل من قيمة المعايير والمبادئ الليبرالية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي.

في هذا الصدد، ليس أمام الاتحاد الأوروبي سوى محاولة العمل بشكل متوازن تجاه ذلك النظام الجديد بمؤسساته المالية الضخمة، بحيث يركز على العوامل الاقتصادية في علاقاته مع الدول وتعميق الأدوات الأوروبية داخل النظام المالي العالمي، لكن دون أن يتخلى عن اهتمامه بقضايا حقوق الإنسان والقضايا الاجتماعية. كما يُفضَّل أن تتداخل تلك الأهداف في إطار استراتيجية أوروبية واضحة ومتفق عليها يمكنها التعامل مع التطورات المختلفة حول العالم.

الانقسام داخل البيت الأوروبي

تشير الدراسة إلى أن أبرز التحديات التي تواجه تأسيس الاستراتيجية الجديدة التي يمكنها التعامل مع التطورات المختلفة الآنفة الذكر، تكمن في عدم وجود رؤية مشتركة لدول الاتحاد الأوروبي لتأسيس سياسة خارجية موَّحدة تحقق أهداف الاتحاد التي أُنشئ من أجلها، بما أدى إلى ظهور موجات رافضة للاتحاد الأوروبي، وأخرى ضد إنشاء كيانات مشتركة داخل القارة، كما ازدادت أزمة اليورو داخل دول الاتحاد بما ساهم في تعميق الخلافات بين الدول المدينة والأخرى الدائنة، بما يعيق إمكانية تحقيق رؤية مشتركة للسياسة الخارجية الأوروبية.

لذا، تقوم "فيديريكا موغريني"- الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي - بمراجعة الاستراتيجية الأوروبية العالمية، وعقد اجتماعات ونقاشات مُوسعة مع ممثلي دول الاتحاد للتعرف على وجهات نظرهم وأولويات مصالحهم وأهدافهم وطبيعة التهديدات التي تواجههم والخلافات الحقيقية بين المصالح والقيم التي قد تظهر في المستقبل.

وتقترح الدراسة في هذا الإطار أن يتم عقد اجتماعات خاصة، إلى جوار الاجتماعات العامة، بحيث تضم كبار المسؤولين في الدول الأوروبية الثماني والعشرين للعمل على تحديد الأولويات المختلفة والخطوط الحمراء للدول، وهو ما قد يمكِّن من التعرف على العناصر المشتركة بين الدول والعناصر المختلف عليها، ما قد يساهم في تحديد ملامح أولية لاستراتيجية أوروبية مشتركة.

ويحتاج الاتحاد في المرحلة الثانية إلى تطوير آليات مؤسسية أفضل من أجل بناء وتعزيز الوحدة حول تلك الموضوعات المشتركة، مع التأكيد على أن السياسة الجماعية التي سيتخذها الاتحاد لا يجب أن تقع فقط على عاتق الدول الكبرى الأعضاء وبالتحديد ألمانيا، بل يجب أن تتم بمشاركة كل الدول كاستجابة جماعية للتطورات العالمية المختلفة.

ختاماً، يؤكد معدو هذه الدراسة أن نجاح أي استراتيجية أوروبية جديدة لن يتم إلا بالتعرف جيداً على موقع الاتحاد الأوروبي الحقيقي من التطورات التي تحدث في العالم وحدود دوره وتأثيره فيها، وهو ما تسعي "موغريني" لتحقيقه في المرحلة الأولي من الاستراتيجية. ومن ثم، يجب على الدول الأعضاء في الاتحاد أن تتحدث بصراحة ودون تحفظات عن تخوفاتها ومصالحها والتهديدات التي تواجهها، حتى يتمكن الاتحاد ككيان جماعي من أخذها في الاعتبار والعمل على علاجها بشكل جماعي تعاوني بما يحافظ على روح الاتحاد ومبادئه ونموذجه السياسي.


* عرض مُوجز لدراسة: "الطريق نحو استعادة القوة الأوروبية"، المنشور في يوليو 2015 عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.

المصدر:

Susi Dennison, François Godemen and others, The Road Back To European power, (London, European Council on Foreign Relations, Policy Brief, July 2015(.