تحجيم متصاعد:

تحولات الوجود العسكري الإيراني في سوريا

23 November 2021


كشفت مصادر روسية في 19 نوفمبر أن موسكو تسعى لإخراج إيران من قاعدة "تي فور"، وسط سوريا، بعد تعرضها لقصف إسرائيلي متكرر. وتوصل الجانبان لتفاهمات تقضي بانسحاب الميليشيات من المطار، ومن المتوقع تنفيذ الانسحاب في غضون أيام، وجاءت هذه التطورات بعد اعتراف إيران في 16 نوفمبر بانسحاب جواد غفاري، قائد قوة فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا.

مؤشرات لتراجع محتمل:

أكدت مصادر متعددة إعادة انتشار القوات وقيادات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة لها، خاصة الأفغانية والباكستانية والعراقية، في مناطق مختلفة في سوريا خلال الأسابيع الأخيرة، وهو ما يتضح من المؤشرات التالية:

1- سحب جواد غفاري: قامت إيران بسحب جواد غفاري، قائد قوة فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا، وهو المسؤول عن تنسيق وقيادة العمليات الإيرانية على اختلافها في سوريا. وقد تولى المسؤولية في عام 2016، بناء على تكليف قاسم سليماني، قائد فيلق القدس وقتها، وذلك خلفاً للجنرال حسين همداني، الذي تم اغتياله في سوريا. وقاد غفاري العديد من العمليات في حلب بصورة أساسية. وكان مركز قيادته قد انتقل إلى جنوب سوريا من عدة شهور.

واعترفت إيران بسحبه، غير أنها أرجعت ذلك إلى انتهاء مهمته في سوريا بنجاح، غير أن السبب الحقيقي يتمثل في مطالبة روسيا إيران بمغادرته سوريا، وذلك لتسببه في مشاكل للحكومة السورية، بسبب تنفيذه عدداً من الهجمات ضد الولايات المتحدة انطلاقاً من الأراضي السورية، والتي كاد أن يتسبب بعضها في حرب غير مرغوب فيها في المنطقة، ويشمل ذلك هجوم 20 أكتوبر الماضي على القوات الأمريكية.

كما اصطدم الغفاري بالقيادات السورية الأمنية العليا ورفضه الامتثال لأوامرها أو التنسيق معها، بالإضافة للتصادم الحادث بينه وبين قائد عسكري الروسي في جنوب سوريا. أما العامل الثاني، وهو العامل الأهم، فيتمثل في خوف إيران من قيام إسرائيل باغتياله، خاصة بعد ضبط شبكة تجسس مرتبطة بتل أبيب كانت تتابع تحركاته في الفترة الأخيرة. 

2- إبعاد الميليشيات الإيرانية عن الجنوب: مارس الجيش السوري، وتحديداً الفرقة الرابعة منه، ضغوطاً على الميليشيات الأفغانية والباكستانية ومجموعات تابعة لحزب الله اللبناني؛ لمغادرة جنوب سوريا وجنوب دمشق والجولان بصفة خاصة، تحت دعوى الترتيب لمعارك استعادة إدلب ومحاصرة الفصائل العسكرية في الشمال. 

وتجدر الإشارة الى أن التفاهم الدولي الذي قاد لتوقيع اتفاق التسوية في الجنوب السوري (يوليو 2018) تضمن منع التغيير الديموغرافي، وإبعاد الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني عن هضبة الجولان مسافة 85 كيلومتراً، بالإضافة إلى عدم السماح لتلك القوات التابعة لإيران بالتمدد في جنوب سوريا.

3- إخراج إيران من مواقع عسكرية: سحبت إيران قوات تابعة لها كانت تنشر في مواقع التصنيع العسكري للجيش السوري المنتشرة في شمال وشرق وإبعادها عن تلك المواقع، وذلك لسحب مبرر قصف إسرائيل لها، حتى لا يتضرر التصنيع العسكري السوري. 

4- إبعاد الحوثيين خارج سوريا: ألغت الحكومة السورية إقامة عناصر عسكرية حوثية، والتي تزايد ترددها على سوريا في الأسابيع الأخيرة؛ لتلقي تدريبات على يد خبراء الحرس الثوري الإيراني في سوريا وعناصر حزب الله اللبناني، خاصة لتجميع الطائرات المسيرة. 

وتشير عدة مصادر إلى أن الحرس الثوري الإيراني كان يقوم بتدريب دفعات من المقاتلين الحوثيين، تصل كل دفعة إلى نحو مائة مقاتل، يتدربون في معسكرات بمناطق بصرى وإزرع بالجنوب السوري، قبل أن يعودوا إلى اليمن لتأتي دفعة أخرى بديلة.

5- وقف جهود التغيير الديمغرافي: تزامنت تلك التطورات مع معلومات مفادها استياء الحكومة السورية من بعض ممارسات الميليشيات التابعة لإيران بمناطق الحسكة ودير الزور وريف دمشق، والتي تستهدف التغيير الديموغرافي والاستيلاء على مناطق سكنية للمهجرين، فضلاً عن تقديم مساعدات اجتماعية لسكان الجولان، وإقامة علاقات مباشرة معهم تمهيداً لإيجاد حاضنة مجتمعية للمجموعات المسلحة، يمكن أن يتم توظيفها في مرحلة تالية لشن هجمات ضد إسرائيل.

ضغوط متعددة المستويات:

يمكن فهم قبول إيران بإدخال تغييرات على قواتها المنتشرة في سوريا بالرجوع إلى العوامل التالية: 

1- رفض دمشق انتهاك سيادتها: تتحفظ بعض القيادات الأمنية السورية على تصاعد عمليات التهريب عبر الأراضي السورية، إذ تقوم إيران بتهريب الأسلحة والوقود إلى حزب الله اللبناني من دون مشاورة الحكومة السورية. 

ويتمثل أحد العوامل التي تساعد إيران على ذلك في سيطرتها، عبر الميليشيات الشيعية الموالية لها، على منافذ حدودية بين سوريا والعراق، وتحديداً معبر البوكمال، بل ومحاولة منع القوات الأمنية السورية من استعادة السيطرة على تلك المعابر، وهو ما رفضته القيادة السورية وطالبت بوقفه بصورة كاملة.

2- الانفتاح العربي على سوريا: جاءت التطورات الأخيرة التي شهدتها سوريا ارتباطاً بوجود توجهات من عدة دول عربية أبرزها الأردن للانفتاح على دمشق مقابل فك ارتباط الحكومة السورية بدمشق. ويبدو أن هذه التوافقات قد وجد بعضها طريقه للتنفيذ، خاصة مع إقدام دمشق على إلغاء رخص شركات إيرانية، كانت تصدر إلى سوريا، وبينها شركتا "سايبا" و"إيران خودرو" للسيارات، فضلاً عن وقف عقود إعادة بناء مشاريع بنى تحتية منحت لشركات إيرانية. 

ويلاحظ أن تبني الحكومة السورية خطوات إضافية لتحجيم القوات الإيرانية سوف يلاقي ترحيباً عربياً، وانفتاحاً لعواصم عربية أكبر عليها، وليس أدل على ذلك من اللقاءات المتعددة بين مسؤولين سوريين وسعوديين، والتي يبدو أنها تهدف إلى استكشاف سبل استعادة العلاقات بين البلدين من جديد. 

3- الاختراق الإسرائيلي المحتمل: جاء تغير القيادات الأمنية بالمواقع العسكرية الإيرانية بسوريا ليمثل دليلاً واضحاً على حدوث عمليات اختراق استخبارية إسرائيلية، والتي كان من نتيجتها توجيه ضربات لتلك المواقع فور وصول، أو تجميع، أسلحة إيرانية أو كوادر عسكرية مهمة بتلك المواقع. وبالتالي، فإن سحب بعض القيادات العسكرية الإيرانية يهدف بدرجة كبيرة إلى حمايتها من التصفية. 

4- دعم روسي متواصل: يلاحظ أن أحد التفاهمات التي تم التوصل إليها بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت هو تحجيم التهديدات الإيرانية للأمن الإسرائيلي انطلاقاً من الأراضي السورية. ففي بداية نوفمبر، كشف وزير البناء والإسكان الإسرائيلي، زئيف إلكين، الذي أدى دور المترجم خلال اللقاء بين بوتين وبنيت، أنهما "تفاهما على العمل على إخراج إيران من سوريا".

وفي هذا الإطار، يمكن فهم أسباب سحب عشرين من القيادات الأمنية الإيرانية المسؤولة عن مناطق التمركز الإيراني والميليشيات التابعة، خاصة في مناطق حلب ومطار "تي فور" وبادية حمص وتدمر وجنوب سوريا. فقد عقد ضباط في القوات الروسية اجتماعاً مع قادة في الحرس الثوري الإيراني لبحث مصير مطار تي فور، بريف حمص، خاصة بعد تعرضه لقصف إسرائيلي متكرر. وتوصل الجانبان لتفاهمات تقضي بانسحاب الميليشيات من المطار. وتهدف موسكو من وراء تلك الخطوة لإعادة السيطرة الروسية على المطار وإبعاد الإيرانيين عنه. ويصب ذلك في النهاية في المصلحة الروسية، والتي ترى ضرورة إخراج كافة القوات الأجنبية من سوريا، بما في ذلك القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها. 

وفي التقدير، من الواضح أن هناك تقبلاً إيرانياً للمطالب السورية، وهو ما يرتبط بوجود بيئة إقليمية ضاغطة على النفوذ الإيراني في سوريا، سواء تمثلت في الانفتاح العربي الاقتصادي على دمشق، أو الضربات الإسرائيلية المكثفة الموجهة ضد الوجود الإيراني في سوريا. كما أن هذا التوجه السوري يمكن تفهمه في إطار محاولة القيادة السورية إزالة أسباب التوتر والاشتباك بين القوات الإيرانية والروسية في عدد من المناطق وسحب مبررات العمليات العسكرية الإسرائيلية على مواقع استراتيجية سورية، وهو ما يتوافق في النهاية مع وجهة النظر الروسية.