محددات حاكمة:

هل تعترف واشنطن بحكومة طالبان المقبلة؟

04 September 2021


مع خروج آخر جندي أمريكي من أفغانستان يوم 30 أغسطس 2021 بعد 20 عاماً من التدخل العسكري، وتحول تركيز واشنطن من الحرب الأطول في تاريخها إلى مهمة دبلوماسية جديدة في هذا البلد الذي استنزف الكثير من الموارد الأمريكية؛ ثمة سؤال رئيسي يطرح نفسه عن مستقبل العلاقة بين واشنطن وطالبان، وهو هل ستعترف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بحكومة طالبان المقبلة؟

وعلى الرغم من أنه من المبكر الإجابة على هذا السؤال، لكن عدة عوامل ومتغيرات سوف تحكم تقييم دوائر صُنع القرار في واشنطن لمدى أهمية هذا الاعتراف من عدمه، وسيكون أمام إدارة بايدن بديلان؛ الأول عدم الاعتراف بطالبان وهو البديل المحتمل على الأقل في المدى القريب، والثاني الاعتراف بها بما يترتب عليه من التزامات قانونية.

تطور العلاقة:

مرت العلاقة بين واشنطن وحركة طالبان بثلاث مراحل رئيسية؛ شملت التمهيد لظهور طالبان، ثم مرحلة العداء والحرب، وصولاً إلى مرحلة الاضطرار إلى التنسيق والتعاون مع الحركة، وذلك على النحو التالي:

1- مرحلة "التمهيد لظهور طالبان": تذهب بعض التقديرات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لعبت دوراً غير مباشر في التمهيد لظهور حركة طالبان، في إطار الدور الذي قامت به في تسليح المجاهدين الأفغان في ثمانينيات القرن الماضي في إطار الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي في ظل إدارتي كارتر وريجان، وذلك من خلال برنامج "عملية سايكلون الإعصار" Operation Cyclone الذي أدارته وأشرفت عليه وكالة الاستخبارات المركزية لتدريب وتمويل المجاهدين الأفغان في الفترة من عام 1979 إلى عام 1989، وكان من بينهم الملا محمد عمر الذي أسس طالبان بعد ذلك في عام 1994. وتشير التقديرات أيضاً إلى أن الولايات المتحدة لعبت دوراً غير مباشر في صعود طالبان خلال السنوات من 1994 إلى 1996، بعدها وصلت الحركة إلى السلطة في أفغانستان، وخاضت تجربتها الأولى للحكم في الفترة من أواخر عام 1996 إلى أكتوبر 2001.

2- مرحلة "العداء والحرب": أدى إيواء طالبان لأسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، على الأراضي الأفغانية ورفض تسليمه إلى الولايات المتحدة، ثم وقوع أحداث هجمات 11 سبتمبر 2001، إلى انتقال العلاقة بين واشنطن وطالبان من الدعم غير المباشر إلى "علاقة عداء وحرب عسكرية" امتدت لنحو 20 عاماً، بدأتها الولايات المتحدة بعملياتها العسكرية ضد الحركة، والتي مرت بمرحلتين رئيسيتين؛ الأول عملية "الحرية الدائمة" Operation Enduring Freedom في الفترة من عام 2001 إلى عام 2014، والثانية عملية "حارس الحرية" Operation Freedom’s Sentinel التي استمرت في الفترة من عام 2015 إلى أغسطس 2021 مع انسحاب آخر جندي أمريكي من أفغانستان.

وخلال عمليتي "الحرية الدائمة" "وحارس الحرية" التي امتدت لنحو 20 عاماً، ركزت الولايات المتحدة على تحقيق 3 مهام رئيسية؛ وهي إسقاط طالبان في السنتين الأوليين للحرب، ثم هزيمتها وبناء مؤسسات الدولة الأفغانية في الفترة من 2002 إلى 2008، ثم مكافحة محاولة طالبان إعادة انتشارها وبناء قواتها فيما عُرف باستراتيجية "مكافحة التمرد" Counterinsurgency Operations في الفترة من عام 2008 إلى عام 2014، وصولاً إلى التركيز على عمليات مكافحة الإرهاب Counterterrorism Operations وتقديم الدعم للقوات الأفغانية. لكن تطورات الأحداث الأخيرة وسقوط أفغانستان في يد طالبان والانسحاب الأمريكي، أثبتت فشل كل تلك الأهداف.

3- مرحلة "الاضطرار إلى التنسيق والتعاون": يمكن الإشارة إلى أبرز التطورات المرتبطة بالتنسيق والتعاون بين واشنطن وطالبان في الجوانب التالية:

أ- إدارة أوباما: بدأ التعاون بين الجانبين مبكراً عام 2009 حينما سعت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، إلى إدخال عناصر طالبان ضمن برنامج "إعادة الدمج" Afghan Reintegration Program الذي كانت تنفذه الإدارة ويهدف إلى إعادة دمج المقاتلين من الحركات المسلحة الأفغانية ضمن قوات الجيش الأفغاني، وتقديم دعم مالي للذين يقررون القبول بإعادة التأهيل ودخول القوات الأفغانية، لكن فشلت محاولات الإدارة الأمريكية في هذا الصدد.

وأعقبتها مفاوضات سرية بين ممثلي طالبان وبعض المسؤولين الأمريكيين في أواخر عام 2010، وكان هدفها فصل طالبان عن القاعدة، وبناء الثقة، ومناقشة قضايا تبادل الأسرى، وافتتاح مكتب سياسي للحركة في الدوحة. ولكن مفاوضات الطرفين فشلت حينها؛ لعدة أسباب أبرزها معارضة الرئيس الأفغاني آنذاك، حامد كرازي. وأدت الوساطة القطرية والباكستانية إلى اتفاق الطرفين في يونيو 2013 على السماح بطالبان بفتح مكتب لها في الدوحة، الذي أُغلق بعدها بفترة بسيطة بسبب عدم التزام الحركة ببنود الاتفاق، حيث إن المكتب رُفع عليه علم طالبان وكأنه سفارة تمثيل، لكنه عاد بعدها للعمل مرة أخرى.

ب- إدارة ترامب: وصل التنسيق بين واشنطن وطالبان ذروته في فترة إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، حيث بدأت مفاوضات بين الطرفين في أواخر عام 2018، وانتهت بتوقيع الجانبين اتفاق فبراير 2020، والذي نص على عدد من البنود؛ أبرزها أن تلتزم الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي بسحب جميع الأفراد المدنيين غير الدبلوماسيين والمتعاقدين الأمنيين الخاصين والمدربين والمستشارين وموظفي خدمات الدعم من أفغانستان، في غضون 14 شهراً بعد إعلان هذا الاتفاق؛ أي بنهاية مايو 2021، بما في ذلك الانسحاب من 5 قواعد عسكرية التي كان تسيطر عليها القوات الأمريكية والتحالف، والبدء في خطة لإطلاق سراح السجناء السياسيين والمقاتلين كتدبير لبناء الثقة، ومراجعة العقوبات الأمريكية ضد طالبان. وجاء ذلك في مقابل أن تتخذ حركة طالبان خطوات لمنع أي جماعة إرهابية من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك منع تدريب وتجنيد وتمويل هذه التنظيمات في أفغانستان.

ج- إدارة بايدن: بعد دخول الرئيس جو بايدن البيت الأبيض في يناير 2021، وجد نفسه مضطراً إلى التعامل مع الاتفاقية التي وقعتها ترامب مع طالبان، خاصة في ظل إعلان بايدن استكمال الانسحاب العسكري بشكل نهائي من أفغانستان بحلول نهاية أغسطس من هذا العام، والذي كان أحد الأسباب الرئيسية في تسريع طالبان من وتيرة عملياتها العسكرية للسيطرة على العاصمة كابول.

ومع سقوط العاصمة الأفغانية، فرضت عمليات إتمام عمليات إخلاء الأمريكيين والمتعاونين معهم، وتأمين مطار كابول، ضرورة التنسيق والتعاون الأمني والاستخباراتي مع عناصر طالبان. وتم هذا التنسيق بين مسؤولي السفارة والقوات الأمريكية في أفغانستان وعناصر الحركة، وصولاً إلى أعلى مستوى خلال الزيارة السرية غير المُعلنة لوليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية، إلى أفغانستان يوم 23 أغسطس الماضي، ولقائه القيادي في طالبان، عبدالغني برادر. ولاحقاً تم نقل التنسيق والتعاون بين واشنطن وطالبان إلى الدوحة.


محددات ثلاثة:

هناك مجموعة من المحددات التي ستحكم دوائر صُنع القرار الأمريكي في تحديد إمكانية الاعتراف رسمياً بحكومة طالبان في أفغانستان، وتشمل هذه المحددات الآتي:

1- شكل وأداء حكومة طالبان: يمثل تشكيل وأداء حكومة طالبان المقبلة معياراً رئيسياً في القرار الأمريكي للاعتراف الدبلوماسي بالحركة، حيث إن قدرة الحكومة الجديدة على تمثيل كافة أطياف الشعب الأفغاني، خاصة المرأة والأقليات، ستكون محل اعتبار شديد، بالإضافة إلى أداء هذه الحكومة في ملفات السياسة الداخلية والخارجية، وهل ستلتزم بقضايا حقوق الإنسان، لاسيما المرأة والحريات بشكل عام؟ فضلاً عن أدائها الاقتصادي، وعلاقاتها الخارجية، وهل ستقوم الحركة بشكل حقيقي بمنع تحول أفغانستان إلى ملاذ للتنظيمات الإرهابية أم لا؟ وهل ستنجح بشكل حقيقي في تحقيق الاستقرار في أفغانستان أم ستؤدي سياستها إلى حالة من عدم الاستقرار والفوضى المستمرة في هذا البلد؟

2- رؤية واشنطن لمصالحها الاستراتيجية: ينصب جانب من التقييم الأمريكي على مدى أهمية الاعتراف بحركة طالبان في تحقيق مصالح واشنطن، وهل سيساعد ذلك على ضبط توجهات الحركة وتحولها من جماعة مسلحة متشددة إلى قوة سياسية معتدلة؟ وهل سيساعد في دعم استقرار أفغانستان أم لا؟ ومن جانب آخر، هل سيخدم مثل هذا القرار الاستراتيجية الأمريكية تجاه آسيا الوسطي؟ خاصة ما يتعلق بالاحتواء الأمريكي للصين، التي صدرت منها إشارات تعكس احتمالية اعتراف بكين بحكومة طالبان.

فقد ترى إدارة بايدن أن الاعتراف بطالبان سيساعد على تحجيم تقارب طالبان مع الصين، وفي الوقت نفسه ربما ترى واشنطن أن أفغانستان لم تعد بؤرة اهتمام استراتيجي في ظل الخبرة السيئة المرتبطة بها، وأنه من غير الضروري التركيز عليها في ظل وجود بدائل أخرى لاحتواء الصين وأهمها تعزيز الشراكات في المنطقة الحيوية للمصالح الأمريكية، وذلك في إطار مبادرة "المحيطين الهندي والباسيفك" Indo-Pacific Initiative، أو ضمن التحالف الأمني الرباعي "كواد" Quadrilateral Security Dialogue.

3- محددات قانونية: من ضمن محددات اتخاذ إدارة بايدن لقرار الاعتراف بطالبان، الجوانب القانونية التي ترتبط بكيفية إعلان هذا الاعتراف في ظل قرارات دولية وأمريكية بفرض عقوبات على الحركة، فضلاً عن مسألة قبول الأمم المتحدة لطالبان والاعتراف بها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن واشنطن وبالرغم من حربها التي استمرت 20 عاماً ضد طالبان، لم تقم بتصنيف الأخيرة كحركة إرهابية.


سيناريوهان:

استناداً إلى تقييم دوائر صُنع القرار الأمريكي لمدى أهمية الاعتراف الدبلوماسي بحكومة طالبان المقبلة من عدمه، فإنه من المحتمل أن يكون هناك بديلان أمام إدارة بايدن؛ الأول هو عدم الاعتراف بطالبان مع الاحتفاظ بدرجة من التنسيق والتواصل السياسي معها، والثاني الاعتراف رسمياً بالحركة، وذلك على النحو التالي:

1- سيناريو عدم الاعتراف الأمريكي بطالبان: وفقاً لهذا السيناريو، ستتبع الإدارة الأمريكية "استراتيجية التأني" Wait & See، للحكم على تشكيل وأداء حكومة طالبان، وهل ستفي بالمعايير الأمريكية سواء المتعلقة بتشكيل حكومة شاملة Inclusive Government تضم تمثيلاً عادلاً لعرقيات وطوائف الشعب الأفغاني كافة أم لا؟ وأيضاً الأداء الفعلي لهذه الحكومة، بمعني هل ستكون لديها خطة عمل واضحة National Plan تضم خطوات فعلية حقيقة للتعامل مع قضايا السياسات العامة من تعليم واقتصاد وانتخابات وغيرها بعيداً عن رؤى دينية متشددة؟ وحتى في حالة عدم الاعتراف بطالبان، ستظل الإدارة الأمريكية على اتصال دبلوماسي مع الحركة، وذلك من خلال وسطاء دوليين سواء قطر أو باكستان.

وما يدعم تحقق هذا السيناريو أنه من غير المرجح أن تُلبي حكومة طالبان الجديدة تلك المعايير الأمريكية، كما أن إدارة بايدن قد تنظر إلى أزمة أفغانستان كلها باعتبارها مسألة ثانوية على أجندة الأمن القومي الأمريكي، بالإضافة إلى أن نقل مقر السفارة الأمريكية في أفغانستان إلى الدوحة بدلاً من كابول قد يستمر لفترة طويلة ويشبه السيناريو الذي حدث عندما تم إغلاق السفارة الأمريكية في كابول في الفترة من يناير 1989 وحتى عام 2001؛ وذلك لاعتبارات أمنية.

2- سيناريو الاعتراف بطالبان: وفقاً لهذا السيناريو، ستتبنى الإدارة الأمريكية استراتيجية "إعطاء طالبان فرصة" Give Them Chance. وسيذهب الرأي المرجح لهذا السيناريو إلى أن الاعتراف بطالبان، حتى لو بعد شهور، قد يكون حافزاً للحركة لتبني مواقف وسياسات أكثر اعتدالاً، علاوة على أن تلبية الحركة للمعايير الأمريكية المرتبطة بشكل السياسات التي يجب أن تتبناها قد يستغرق وقتاً طويلاً. وسيدخل ضمن تقييم هذا السيناريو الجانب المتعلق بالعامل الصيني، وضرورة أن يكون هناك مميزات أمريكية في التعامل مع طالبان American Leverage، تجعل لواشنطن وزناً في التأثير على الحركة أكثر من بكين.

وبعيداً عن المحددات الحاكمة للتقييم الأمريكي الذي قد يرجح هذا السيناريو، فإن عملية اتخاذ قرار الاعتراف بحركة طالبان ستخضع لمشاورات مكثفة بين البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الأمريكيين، وسيتم تقديم مذكرة سياسية بشأن التقييم النهائي للرئيس بايدن، الذي يقع عليه وحده مسؤولية اتخاذ قرار الاعتراف بطالبان من عدمه، دون الحاجة للرجوع إلى الكونجرس. لكن الرئيس الأمريكي سيحتاج إلى الرجوع إلى الكونجرس في حال اعتماد سفير لتمثيل الولايات المتحدة لدى أفغانستان، كما أن الكونجرس يمكنه إصدار تشريع يحدد شكل ونمط العلاقة مع حكومة طالبان المقبلة.

وفي ظل افتراض تبني إدارة بايدن قراراً بالاعتراف بحركة طالبان، وهو أمر غير مرجح على الأقل في المدى القريب أو المتوسط، سيترتب على هذا القرار مجموعة من الآثار القانونية؛ أهمها تمثيل طالبان الدبلوماسي ووجود سفارة لها في واشنطن، وأيضاً حجم السفارة الأمريكية في كابول والجوانب التي سيتم الاتفاق عليها بين الجانبين، بما في ذلك التنسيق الأمني والاستخباراتي.


الخلاصة، شهدت العلاقة بين واشنطن وحركة طالبان خلال السنوات الأخيرة خاصة في الفترة من عام 2018 وحتى عام 2021، درجة من التنسيق والتعاون، فرضتها الاعتبارات المتعلقة بالمصالح الأمريكية. وأفضى هذا التنسيق إلى توقيع الجانبين اتفاقاً في فبراير 2020 خلال إدارة الرئيس السابق ترامب، فضلاً عن التنسيق والتعاون الأمني والاستخباراتي بين الجانبين في تسهيل عمليات إخلاء الأمريكيين وغيرهم من قوات التحالف الدولي والمتعاونين معهم بعد سيطرة طالبان على العاصمة كابول في 15 أغسطس 2021. وبالرغم من هذا التنسيق والتعاون، فإنه من غير المرجح أن تعترف واشنطن رسمياً بطالبان قريباً.