الدبلوماسية الاقتصادية:

تأثير تصاعد الدور الروسي على مسار الأزمة اللبنانية

15 July 2021


قام وفد استثماري روسي بزيارة لبنان في نهاية يونيو 2021، وعرض مساعدة لبنان من خلال مشاريع نفطية، وأخرى متعلقة بتطوير قطاع الطاقة ومرفأي بيروت وطرابلس. وهنا فإن لبنان الذي يعاني أسوأ أزمة اقتصادية عرفها في تاريخه، والذي يحاول جاهداً منذ عامين الحصول على مساعدات دولية تمكنه من البقاء، يجد نفسه حالياً أمام هذا العرض الروسي المغري لإنقاذه اقتصادياً. 

وعلى الرغم من الترحيب اللبناني بهذه المبادرة الروسية، فإنها تقلق الدوائر الغربية، لاسيما الأمريكية منها والممسكة بالنظام المصرفي في لبنان والتي لا يزال لها تأثير كبير على قطاع المال والأعمال والسياسة فيه، حيث لا يمكن، من وجهة نظرها، فصل هذا العرض الروسي عن رغبة موسكو في توسيع نفوذها في منطقة موجودة فيها عسكرياً وتطل على حوض شرق المتوسط، الذي يدور فيه صراع محتدم حول استثمار حقول الغاز المكتشفة حديثاً فيه.

مؤشرات ملفتة:

يمكن رصد العديد من المؤشرات التي تكشف عن تصاعد الدور الروسي في لبنان خلال الفترة الأخيرة، وتتمثل في الآتي:


1- تعدد المناشدات اللبنانية لروسيا: طلب رئيس الحكومة اللبنانية المكلف، سعد الحريري، خلال زيارته موسكو، في أبريل 2021، من روسيا مساعدة لبنان في بناء محطات للكهرباء، وإعادة إعمار مرفأ بيروت. كما أعرب وزير الخارجية اللبناني السابق ورئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل، في سياق زيارته موسكو، في أبريل الماضي، عن ترحيبه بأي دور تقوم به روسيا في لبنان، لاسيما فيما يتعلق بإعادة اللاجئين السوريين. فيما كشف أمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصر الله (وهو عراب فكرة التوجه شرقاً في لبنان)، يوم 25 يونيو الماضي، عن أن بعض الدول الشرقية أبدت استعدادها لبناء مصافي نفط صغيرة في الزهراني وطرابلس، مما يخفف كلفة المشتقات النفطية.

2- خطوات ملفتة لموسكو: قامت روسيا بالعديد من الخطوات بشأن لبنان، مثل توقيع اتفاق في فبراير 2018 لتسليح الجيش اللبناني بقيمة مليار دولار، والتسويق لمبادرة روسية من أجل إعادة النازحين السوريين من لبنان، وإعلان موسكو استعدادها للعب دور الوسيط بين الشركات اللبنانية والسلطات السورية لتسهيل دورها في إعادة إعمار سوريا، فضلاً عن دخول الشركات الروسية في قطاع النفط والغاز اللبناني من خلال توقيع عقد مع وزارة الطاقة اللبنانية في عام 2018 لإعادة تأهيل خزانات النفط في مرفأ طرابلس، والتنقيب عن النفط في البلوكين 4 و9. 

3- زيارة وفد الأعمال الروسي: قام وفد من الخبراء الروس وعلى رأسهم المدير العام لشركة الهندسة المائية والإنشاءات الروسية، أندريه ميتزجر، بزيارة بيروت في 28 يونيو 2021، والتقى خلالها وزيري الطاقة اللبناني، ريمون غجر، والأشغال العامة والنقل، ميشال نجار، وذلك بحضور السفير الروسي في لبنان، ألكسندر روداكوف. وتم التباحث في تنفيذ مشاريع داعمة للاقتصاد اللبناني مثل إعادة إعمار صوامع القمح في مرفأ بيروت، وإمكانية بناء صوامع جديدة في مرفأ طرابلس، وبناء مصفاتين للنفط في طرابلس والزهراني؛ الأولى تكون إقليمية، والثانية صغيرة نسبياً متوجهة نحو السوق الداخلي اللبناني.

دوافع موسكو:

تمتلك روسيا محفزات عديدة تدفعها إلى التدخل في لبنان، ويبرز أهمها في الآتي:

1- الترويج لدور المنقذ اقتصادياً: ينطلق الجانب الروسي في توضيحه لأهداف زيارة الوفد الاستثماري لبنان في يونيو الماضي، من تبني خطاب مفاده أن الوضع في لبنان يحتاج إلى إنقاذ، وزيارة الوفد الروسي تندرج في هذا الإطار، وهي ليست وليدة الساعة، بل إن التباحث حول هذه المشاريع بدأ منذ ما يقارب السنة، وقد تسارعت وتيرة العمل منذ 4 أشهر عبر طلب البيانات من السلطات اللبنانية لإنجاز الخطط ودراسات الجدوى.

وفي الوقت الذي يهدد فيه الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على اللبنانيين، حسب ما لمح الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، يوم 19 يونيو 2021 أثناء زيارته بيروت، فإن روسيا تعمل على تقديم المبادرات الاقتصادية لإنقاذ لبنان، مع التأكيد على أن مصفاة النفط المحلية التي ستبنيها الشركات الروسية في الزهراني (جنوب)، ستبدأ في تأمين مشتقات النفط للسوق اللبناني بعد 6 أشهر فقط من بداية تنفيذ المشروع، بينما ينتظر اللبنانيون منذ سنوات تحرك صندوق النقد الدولي لإنقاذهم، علماً بأن التأخير في تنفيذ الحلول يفاقم من أزماتهم، حيث تمتد طوابير السيارات أمام محطات الوقود لعدة كيلومترات نتيجة عدم توفر المحروقات إلا بكميات قليلة.

2- إحداث توازن بين الشرق والغرب: تنطلق الدعاية الروسية من أنه لا يمكن إنقاذ لبنان إلا عبر التعاون بين الشرق والغرب، وأنه إذا كانت هناك خطط أخرى غربية أو من أي طرف ثالث لإنقاذ لبنان، فموسكو ترحب بها، حيث سبق أن أعلنت في عدة محطات تأييدها خطة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فيما يتعلق بخروج لبنان من أزمته الاقتصادية. بيد أنه بعد حوالي 10 أشهر، لم تتم ترجمة هذه المبادرة الفرنسية على أرض الواقع، وأصبحت الأوضاع في لبنان تزداد تأزماً مع كثرة التأويلات عن سقوط المبادرة الفرنسية، إلى حد دفع باريس ذاتها إلى الانتقال إلى أسلوب جديد من خلال جعل التعامل مع القيادات اللبنانية قائم على التهديد، وتجلى ذلك في إعلان وزير الخارجية الفرنسي، إيف لودريان، في أبريل الماضي، عن بدء تنفيذ إجراءات تقييدية تتعلق بوصول بعض المسؤولين اللبنانيين المتورطين في الفساد أو تعطيل العملية السياسة، إلى الأراضي الفرنسية.

3- جذب الرأي العام اللبناني: يحاول الخطاب الروسي استمالة الرأي العام اللبناني عبر التركيز على عقلانية الأهداف الاقتصادية لدخول الشركات الروسية إلى لبنان، وحتى إن كان الهدف من وراء ذلك هو تحقيق مكاسب تجارية إلا أنها مكاسب معقولة مقارنة بتلك التي تم تضمنيها في المشاريع المقترحة في الورقة الفرنسية وبرنامج صندوق النقد الدولي الخاص بلبنان التي تريد تقديم نحو 10 مليارات دولار فقط مقابل شراء الأصول العائدة للبنان في قطاعي الاتصالات والكهرباء ومرفأ بيروت، والتي تساوي حوالي 30 مليار دولار، حسب تقديرات موسكو. وهذه الاستمالة للرأي العام اللبناني يتم إدراجها في سياق العمل على تشكيل إجماع لبناني من أجل تأييد مشروع "التوجه شرقاً" والابتعاد عن الغرب.

تأثيرات محتملة:

تتضح التداعيات المحتملة للدور الروسي في لبنان ضمن السياقات التالية:


1- التوصل إلى تفاهمات حول لبنان: تعتبر روسيا أن هيمنتها على سوريا ستسمح لها بتعزيز مصالحها في لبنان، لأن الداخلين اللبناني والسوري مترابطان ببعضهما البعض، خاصة من الناحيتين الأمنية والاقتصادية. لذلك تعتقد موسكو أنه بمرور الوقت سيكون هناك اعتراف أمريكي بدورها في لبنان، وهو ما شجع الأولى على تقديم عرض لإعادة إعمار مرفأ بيروت، لينضم بذلك إلى عروض أخرى تركية وصينية وفرنسية وألمانية.

ويضع البعض توقيت زيارة الوفد الاقتصادي الروسي لبنان والتي جاءت بعد القمة الروسية - الأمريكية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن في يونيو 2021، في إطار التوافق الدولي على التعاون لمنع انهيار لبنان. كما أن تعاظم الدور الروسي في لبنان من الممكن أن يدفع إسرائيل إلى عدم حصر متابعة أوراقها الدبلوماسية والأمنية المتعلقة بالوضع في لبنان في الطرف الأمريكي فقط، حيث إنه من المحتمل أن تلجأ تل أبيب إلى تنويع خياراتها واللجوء إلى موسكو كوسيط لإيصال بعض الرسائل، خاصة أنها قادرة على ضبط سلوك حزب الله، لاسيما بعد أن أظهرت المواجهات العسكرية في قطاع غزة في شهر مايو الماضي أن توسيع جبهات المواجهة أصبح أكثر صعوبة.

2- صدام أمريكي - روسي: قد يؤدي تزايد التجاذبات حول توسع الدور الروسي في لبنان ومحاولات تطويقه، خصوصاً مع تقديم موسكو دورها في لبنان على أنه يأتي على خلفية سد التقصير الغربي تجاه هذه الدولة التي كانت تدور في الفلك الغربي تاريخياً، إلى حصول صدام أمريكي – روسي، خاصة مع إصرار موسكو على تحدي بعض التوجهات الأمريكية في لبنان مثل قيامها باستقبال وفد من كتلة حزب الله النيابية ضمن زيارة رسمية لإضفاء الشرعية على الحزب والترويج له دولياً، في الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على إدراج حزب الله بشقيه السياسي والعسكري ضمن قوائم الإرهاب في العديد من الدول الأخرى. كما يمكن إدراج استقبال وزير الخارجية اللبناني السابق، جبران باسيل، في موسكو، خلال أبريل الماضي، في إطار مسعى الأخيرة لفك عزلته الدولية التي تم فرضها عليه بعد إدراجه ضمن لائحة ماغنيتسكي للعقوبات الأمريكية.

3- زيادة النفوذ الروسي في شرق المتوسط: ستحاول روسيا قدر الإمكان عرقلة وصول غاز شرق المتوسط إلى دول أوروبا، على اعتبار أنه سيؤثر على حجم صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا والذي يؤمن 40% من الاحتياجات الأوروبية. وبالتالي تسعى موسكو إلى التأثير على وجهة الاستفادة من غاز المتوسط عبر تحويله قدر الإمكان إلى الأسواق الآسيوية.

وبالتالي فإن زيادة نفوذ روسيا في لبنان سيسمح لها بمنافسة خطط "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي يتخذ من القاهرة مقراً له ويحاول إيجاد حلول لتسويق غاز شرق المتوسط، كما أنه سيمكنها من الإمساك بورقتين للغاز الطبيعي في دولتين من شرق المتوسط هما لبنان وسوريا، وهذا سيتيح لها فرصة حل الخلاف الحدودي البحري بين لبنان وسوريا والدائر حول التداخل بين البلوكين 1 و2 في الأراضي اللبنانية مع البلوك رقم 1 في الأراضي السورية، فضلاً عن زيادة قدرة موسكو في التأثير على التنافس على الغاز في شرق المتوسط، وموازنة التحالف الفرنسي - اليوناني – القبرصي، وذلك بالتعاون الروسي مع تركيا التي تسعى أيضاً إلى عرقلة مشروع خط أنابيب "إيست ميد" East Med لأنه لا يمر عبر أراضيها.

عوامل معرقلة:

تحيط دوائر الشك بما يمكن وصفه بـ "المحاولات الإنقاذية" لروسيا في لبنان، سواء من ناحية الرغبة أو القدرة. فمن ناحية الرغبة، يتعارض التأكيد الروسي على حق لبنان في التمسك بسيادته البحرية في مسألة نزاعه البحري مع إسرائيل حول ترسيم منطقته الاقتصادية الخالصة، مع نظرة المفكر السياسي الروسي البارز ألسكندر دوغين Alexander Dugin، الذي يعتبر أن "القوة هي معيار السيادة ومن دون شرط القوة ينتفي وجود السيادة، وأن الدول الصغيرة أو الضعيفة ليست إلا مكونات موجودة كي يتم استغلالها لتحقيق مصالح الأقوياء".

أما من ناحية القدرة على الإنقاذ، فهناك عدة عوامل محيطة بالعروض الاقتصادية الروسية في لبنان قد تعرقل تنفيذها على أرض الواقع، منها مثلاً وجود حكومة تصريف أعمال في لبنان غير مكتملة الصلاحيات، وتعثر تشكيل حكومة جديدة قادرة على البت في العروض المُقدمة إليها، وهناك أيضاً تخوفات من العقوبات الأمريكية التي يمكن أن تشمل المتعاونين مع المشاريع الروسية بحجة دخول هذا التعاون ضمن صلاحيات قانون قيصر.

وفي ضوء ذلك، يمكن إدراج محاولات الأطراف اللبنانية طلب المساعدة من روسيا ضمن إطار استدراج الغرب للإفراج عن المساعدات التي وعد بها لبنان. وفي المقابل، فإن روسيا تريد من وراء تقديم هذه العروض للطرف اللبناني الحصول على نصيب من قطاع الطاقة في هذا البلد. 

ختاماً، يتزايد التدخل الروسي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في سوريا وليبيا، ويبدو أن لبنان أصبح يحظى بأهمية في الاستراتيجية الروسية الخاصة بشرق المتوسط. ولكن يبقى التساؤل هل سيستفيد لبنان من دخوله إلى دائرة الاهتمام الخاصة بكبار اللاعبين الدوليين في المنطقة وتنافسهم حوله أم أن هذا التدخل لن يساهم إلا في تنويع وتعدد جهات الوصاية الدولية عليه؟