بين الشعبوية والواقعية:

إدارة عدم اليقين في السياسة الخارجية التركية

03 April 2016


إعداد: باسم راشد

يمثل التنافر بين الشعبوية والواقعية تحدياً في السياسة التركية، بل إنه يصبح إشكالية ضخمة بسبب الانشقاقات العرقية والتي تؤدي الخطابات الشعبوية إلى تفاقمها، ليس فقط في الداخل التركي، بل في محيطها الإقليمي أيضاً.

ما سبق يمثل الفكرة الأساسية التي تطرحها "نورا فيشر أونار" Nora Fisher Onar، وهي باحث زائر في معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة جورج واشنطن، في دراستها الصادرة عن مؤسسة بروكينجز بعنوان: "الفجوة بين الشعبوية والواقعية: إدارة عدم اليقين في السياسة الخارجية التركية؟" والتي تحاول خلالها الإجابة عن تساؤل مفاده: هل تقود الفجوة بين الشعبوية والواقعية إلى نوع من عدم اليقين في سياسة أنقرة؟ وتتطرق إلى جذور هذه المشكلة وتطوراتها وتأثيراتها على السياسات التركية خلال السنوات الماضية، وتقدم طرحاً لكيفية إدارة هذا اللايقين بشكل يحافظ على الالتزامات الدولية لتركيا.

تركيا بين معضلة الشعبوية والمكانة الإقليمية الحرجة

تسيطر السياسات الواقعية على غالبية دول العالم، كونها تحقق المصالح الاستراتيجية للدول وتحافظ على علاقاتها مع الآخرين، بيد أن ظهور أنماط القادة الشعبويين أصبح يهدد هذه السياسات الواقعية ويكلف الدولة كثيراً من الخسائر على مختلف المستويات.

وتبدو أنماط هذه القادة واضحة بقوة في نموذج الرئيس الروسي بوتين، والمرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذين تكلف تصريحاتهم الشعبوية دولهم الدخول في توترات غير مطلوبة مع دول أخرى، مثل وصف ترامب الصين بأنها "عدو"، في حين يؤكد الواقع وجود علاقات قوية بين بكين وواشنطن.

وتشير "فيشر" إلى أن التنافر بين الشعبوية والواقعية لا يفرض فقط تحديات على تركيا وشركائها، بل إنه يصبح إشكالية ضخمة حينما يرتبط الأمر بالسياسات الإقليمية، وذلك بسبب الانشقاقات الاثنية والعرقية والتي تؤدي الخطابات الشعبوية إلى تفاقمها ليس في الداخل التركي فقط، بل كذلك في محيطها الإقليمي.

وبحسب الدراسة، تعود جذور تنامي الشعبوية في السياسة التركية إلى الفترة الأولى من تولي حزب العدالة والتنمية الحكم؛ حيث استهدفت الخطابات الشعبوية وقتها المنافسين المحليين، والذين كان يتم تصويرهم دائماً بأنهم سلطويون وزائفون.

في الوقت نفسه بدأت المحاولات التركية للانضمام للاتحاد الأوروبي وذلك عن طريق استخدام اللغة الديمقراطية لوأد محاولات حزب الكماليين لإسقاط حزب العدالة والتنمية. ومن ثم، يمكن القول إن بداية الألفية شهدت سعياً شعبوياً تركياً نحو القوة في الداخل بالتزامن مع توجه مؤيد للغرب خارجياً بغرض الانضمام للاتحاد الأوروبي.

وفي خلال الفترة من عام 2009 إلى 2012؛ اتخذت السياسة التركية اتجاهاً معادياً للغرب، وذلك نتيجة لأمرين؛ أولهما رفض الاتحاد الأوروبي انضمام أنقرة له، وثانيهما الاستجابة للأزمة الاقتصادية العالمية والتي أدت إلى ظهور قوى اقتصادية مهمة مثل تركيا. وبالتالي، كانت النبرة الشعبوية في الخطابات السياسية التركية متسقة مع الاتجاه الواقعي للسياسة الخارجية لأنقرة في اتجاهها المضاد للغرب في ذلك الوقت.

وبين عامي 2013 و2015، أصبح الخطاب الشعبوي التركي أكثر تشدداً، بسبب الانتخابات الداخلية في البلاد، ورافق ذلك الخطاب الاستقطابي استدعاء الغرب للسياسات القمعية المتزايدة التي تقوم بها الحكومة التركية، في ظل تأييد الغرب المعارضة التركية الداخلية، وهو ما أدى في النهاية إلى تزايد المشكلات الداخلية المتعلقة بالهُوية؛ وعمَّق الخلافات بين الجماعات المتعددة داخل الدولة؛ بين العلمانيين والإسلاميين، والسُنَّة والعلويين، والأتراك والأكراد، وذلك بالتزامن مع محاولات تركيا القيادة الإقليمية والتي تعثرت بسبب تلك الأزمات.

ومن ثم، ظهر التباين بين الخطاب الاستقطابي والمعارض للغرب في الداخل التركي، وبين الحاجة إلى سياسة مؤيدة للغرب واقعياً، بما أدى إلى حالة من عدم اليقين في السياسات التركية. ومع نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، دخلت أنقرة مرحلة جديدة أفرزت تساؤلات من قبيل: هل سيتم التخلي عن هذه السياسات الشعبوية؟ وهل يمكن توحيد الأطراف المتصارعة في الداخل التركي؟ وهل ستسعى تركيا إلى سياسة مؤيدة للغرب لمواجهة التحديات المشتركة في الشرق الأوسط؟

مظاهر التنافر بين الواقعية والشعبوية في السياسة التركية

بدت بعض ملامح التنافر بين الواقعية والشعبوية في السياسة التركية إزاء عدد من الأزمات الداخلية والإقليمية، وتذكر الدراسة أمثلة على ذلك، وهي:

1- العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين: كان الدعم التركي للإخوان المسلمين واضحاً للغاية بعد ما يُسمى "ثورات الربيع العربي"، في إطار رغبة أنقرة في تصدير نموذج حزب العدالة والتنمية إلى دول الإقليم، لكنها لم تأخذ في الاعتبار طبيعة كل مجتمع والاختلافات الموجودة فيه، فضلاً عن تغييب الحسابات الواقعية في هذا الصدد. وكانت النتيجة هي انهيار تجربة جماعة الإخوان في كل من مصر وتونس،  واستمرار تصلب تركيا في الدفاع عن الجماعة على الرغم من الفشل الذي مُنيت به، بما جعل أنقرة تكسب خصوماً إقليميين وتدخل في خلافات مع دول مثل مصر، نتيجة لخطابها الشعبوي غير الواقعي.

2- الأزمة السورية: كانت الحسابات التركية الخاطئة منذ البداية قائمة على أن بشار الأسد سيغادر السلطة في أسرع وقت، وهو ما لم يحدث حتى الآن. وفي هذا الإطار، دعَّمت أنقرة مختلف القوى المعارضة الداخلية في سوريا، خصوصاً السُنَّة. ولكن ظهور تنظيم "داعش" وتغلغله في سوريا والعراق جعل تركيا في موضع اتهام كونها ساهمت في تسهيل عبور الحدود معها من الجانب السوري، ومن ثم أصبحت أمام العالم مسؤولة بشكل أو بآخر عن تنامي عدم الاستقرار في الداخل السوري.

3- المسألة العلوية: يمثل العلويون حوالي 10% من إجمالي عدد سكان تركيا، بما يتراوح بين 8 و20 مليون مواطن. وقد ساهمت موجات النزوح للاجئين إلى تركيا في التأثير على أوضاع العلويين في الداخل التركي سواء من حيث التوازن الديموغرافي أو التوترات الداخلية بين مجتمع متعدد الطوائف. كما يعاني العلويون سياسة تهميشية يتبعها حزب العدالة والتنمية تجاههم، وتفضيل السنة عليهم في المناصب، فضلاً عن الخطاب الشعبوي الذي يتبناه الحزب من ناحية أخرى.

4- المعضلة الكردية: تظهر هذه الإشكالية في ظل محاولات الانفصال المتكررة التي يدعو لها الجناح السياسي للأكراد في تركيا، والذي يمثله حزب الشعوب الديمقراطي، وتطور مطالبهم بالحكم الذاتي في إطار نظام فيدرالي، بما أدى إلى دخولهم في صراعات مسلحة مع الحكومة التركية وتهديد الاستقرار الداخلي. وقد انعكس ذلك الصراع في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تركيا، والتي أفرزت تنوعاً كبيراً في المقاعد داخل البرلمان.

وقد نتج عن تلك الأزمات جميعها تدن في مختلف المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في تركيا، بالإضافة إلى تنامي التحديات الإقليمية، في ظل اتساع الفجوة بين الشعبوية والواقعية في السياسة التركية.

الخروج من المحنة

أشارت الكاتبة إلى عدة نقاط قد تُمكِّن حزب العدالة والتنمية في تركيا من التعاطي مع الأوضاع المضطربة داخلياً وإقليمياً، ولعلَّ أبرزها ما يلي:

1- علاج الأزمة القديمة/ المتجددة والمتعلقة بثنائية العلمانيين والإسلاميين؛ بحيث يتعين على حزب العدالة والتنمية أن يرسل رسالة لجميع المواطنين في تركيا، وليس الإسلاميين فقط، بأن حقوقهم وحرياتهم السياسية محفوظة ويجب احترامها، فضلاً عن ضرورة تمكينهم في بعض المناصب داخل الدولة بما يظهر المجتمع بأنه كيان متناغم ومتجانس.

2- مواجهة الأزمة المتفاقمة بين العلويين والسنة نتيجة الخطابات الشعبوية والتطورات الإقليمية؛ بحيث يمكن للحكومة التركية أن تضع استراتيجية إصلاحية شاملة في العام الحالي للتعامل مع هذه الأزمة، وضمان انتماء تلك الجماعات للمجتمع التركي في ظل الصراعات الإقليمية الطائفية، والتي تهدد الاستقرار الداخلي والإقليمي.

3- العمل على إيجاد حلول للصراع بين الحكومة التركية والأكراد؛ في ظل انهيار عملية السلام بينهما، وتراجع جاذبية الطرح الذي قدمه حزب الشعوب الديمقراطي حول المجتمع المتعدد ثقافياً. وقد أخذ هذا الصراع أبعاداً أكثر عنفاً في ظل المواجهات المسلحة بين الجانبين من ناحية، ودخول الفواعل الإقليمية على طرف الصراع من ناحية أخرى. ومن ثم، باتت هذه الأزمة هي الأصعب أمام الحكومة التركية.

وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن المسألة تجاوزت حدود الدولة والإقليم في ظل ارتباط الطرفين؛ الحكومة التركية والأكراد، بعلاقات خارجية مع الغرب وتحديداً الولايات المتحدة؛ والتي تميل في كثير من الأحوال إلى كفة الأكراد نتيجة لقدرتهم على مواجهة الإرهاب الذي يفرضه تنظيم "داعش" في الشرق الأوسط، فضلاً عن تراجع تأييدها للحكومة التركية بعد تصريحاتها الشعبوية بشأن "داعش" والذي اعتبرته لا يمثل تهديداً أولياً في المنطقة بقدر ما قد يأتي في المرتبة الثانية من التهديدات الإقليمية، وهو ما يؤثر على رؤية الجانبين الأمريكي والتركي للأزمة السورية.

وقد دفع هذا التوتر إلى عودة أنقرة لاتخاذ موقف مؤيد للغرب مرة أخرى بعد التشدد الشعبوي في خطاباتها ضده، فأعلنت دعمها للتحالف الدولي ضد "داعش"، وأكدت تمسكها بتنفيذ التزاماتها داخل حلف الناتو وتفعيل المادة الرابعة من ميثاقه.

كما أن ثمة عاملاً آخر قد دفع تركيا للعودة للغرب، ويتمثل في التدخل الروسي في الأزمة السورية والذي أدت بعض تطوراته إلى تنامي التوترات بين أنقرة وموسكو بشكل حاد خلال الفترة الماضية، بما عزز من الحاجة التركية لاسترجاع العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية بشكل سريع وقوي.

أسباب استمرار الشعبوية التركية

تشير "فيشر" إلى أنه على الرغم من قيام الحكومة التركية ببعض الإصلاحات في الفترة الماضية، فإن ثمة ثلاثة عوامل تُرجح استمرار الشعبوية التركية، وهي:

1- نموذج القيادة التركية: إذ إن نمط الكاريزما "المشاكسة" التي يتبعها أردوغان ليس فقط نابعة من شخصه بقدر ما تعبر عن الثقافة التركية، ومن ثم سيسعى دوماً إلى ملء الفراغ والتحدث من نفسه والسعي لخلق دور محوري داخلياً وإقليمياً، في ظل عدم وجود معارضة قوية أو بدائل للحكم الحالي في تركيا. ومن ثم، من المرجح أن يساهم ذلك في استمرار بعض الخطابات الشعبوية المرتبطة بنمط القائد الحاكم.

2- ­التحول الأيديولوجي: تحولت الأزمة التركية من صراع عرقي - ديني إلى التركيز على خطاب قومي إسلامي، يعادي الغرب في مضمونه، ويمكن أن تتحول هذه الأيديولوجية الاستفزازية إلى مادة حريق في إقليم مضطرب؛ خاصةً في ظل الإيمان بالقدرة على التحكم في المشاعر العرقية والدينية، بما سيؤدي إلى استمرار النبرة الشعبوية في الخطاب السياسي.

3- الامتداد الإقليمي: خاصةً أن موقع ومكانة تركيا في إقليم الشرق الأوسط حساسان للغاية؛ حيث إنها دولة تتنوع فيها العرقيات، وترتبط بحدود مع دول مضطربة مثل سوريا والعراق، والتي ينمو فيها نشاط الجماعات الإرهابية. ولعلَّ ذلك قد يساهم في استمرار السياسات الشعبوية من واقع سعي تركيا للقيادة الإقليمية الحالية.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "الفجوة بين الواقعية والشعبوية: إدارة عدم اليقين في السياسة التركية"، والصادرة عن مؤسسة بروكينجز في فبراير 2016.

المصدر:

Nora Fisher Onar, "The Populism/Realism Gap: Managing Uncertainty in Turkey’s Politics and Foreign Policy", (Washington: Brookings Institution, February 2016).