جبهة جديدة:

دوافع الضربات الإسرائيلية على الحدود العراقية - السورية

20 January 2021


شنّت إسرائيل عدة ضربات جوية على مواقع بالقرب من الحدود السورية- العراقية خلال الأسبوعين الأخيرين. ووفقاً لتقارير سورية وإسرائيلية متقاربة، فإن تلك الضربات وُجِّهت لمواقع رصدت فيها عمليات تخرين لأسلحة فى محيط مدينة البوكمال السورية المتاخمة للحدود العراقية، بالتزامن مع عقد اجتماعات لقيادات من الحرس الثورى الإيراني وفصائل عراقية مسلحة موالية لإيران، حيث يرجح أن الأخيرة تسعى لتوسيع بنيتها العسكرية في تلك المنطقة لتفادي الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مواقعها بالقرب من العاصمة دمشق، بحيث تستعيض عن ذلك بقدرات عسكرية لاسيما صاروخية طويلة المدى. ووفقاً لتلك التقارير، فإنه لا يمكن الفصل بين كثافة الضربات الإسرائيلية في نطاق دائرة واسعة من البوكمال إلى الحدود العراقية عن تزايد قدرة المليشيات الموالية لإيران على التمويه في عمليات نقل شحنات الأسلحة إلى مواقع عديدة، حيث تم نقلها عبر العراق في شاحنات (برّادات) ومركبات عسكرية تحمل العلم السوري. 

دلالات عديدة: 

يعكس هذا السياق دلالات عديدة ترتبط بمسارات المواجهة بين إسرائيل من ناحية وإيران وحلفائها من ناحية أخرى، يتمثل أبرزها في: 

1- تموضع عسكري واسع شرق سوريا: لاسيما في منطقة البوكمال باعتبارها الأقرب إلى العمق العراقي، وبالتالي يسهل من الناحية اللوجستية نقل الأسلحة من التمركزات والنقاط اللوجستية العراقية، بحيث تصبح نقطة تمركز للتوزيع والإمداد، بما يشكل تحدياً بالنسبة لإسرائيل، خاصة وأن قِصَر المسافة من الحدود العراقية يحقق ميزة تقليص الفترة الزمنية التي يستغرقها نقل شحنات الأسلحة إلى العمق السوري من ساعات، بحيث كان من السهل على إسرائيل رصدها وتتبعها، إلى جزء من الساعة على نحو يضعف من قدرة إسرائيل في هذا الصدد. ومن المرجح أن تلك الشحنات يتم تخزينها في مواقع داخل العمق العراقي مثل منطقة حصيبة (20 كلم)، وبالتالي لن تزيد رحلة الشحنة عن 30 إلى 40 كلم. كما أن هناك العديد من المليشيات العراقية التي تسيطر على الحدود المشتركة تحت قيادة الحرس الثوري. وتشير محاور الحركة على خريطة تلك المنطقة، إلى أن بناء قاعدة واسعة في منطقة البوكمال سيمنح إيران القدرة على التحرك في ثلاث محاور باتجاه العراق والعمقين السوري واللبناني أيضاً.

2- متغير في معادلة الاشتباك: كانت هذه المنطقة ساحة لعمليات أساسية خلال الحرب على تنظيم "داعش"، وكانت قاعدة "التنف" هى القاعدة المركزية التي تتصدى لتحركات التنظيم على الحدود العراقية الطويلة التي تمتد إلى 600 كلم مع سوريا، إلا أن مهمة هذه القاعدة تراجعت بشكل نسبي بعد انهيار التنظيم، كما أنها كانت محل استهداف من جانب قوات الجيش السوري، فيما كانت إيران تسلك طرقاً التفافية حول القاعدة للعبور إلى داخل سوريا، إضافة إلى فصائل "الحشد الشعبي" التي تسيطر على الطريق الدولي. إلا أن إيران استهدفت تمركزات في المنطقة في مطلع عام 2018 بعد عملية لتنظيم "داعش" في الأحواز، حيث شن الجيش الإيراني هجمات صاروخية كانت لافتة لكل من إسرائيل والولايات المتحدة. وفي أعقاب تلك العمليات، بدأت إيران تطور من مسرح العمليات في تلك المنطقة مع بناء قاعدة "الإمام علي"، والتي تشير تقارير للجيش الأمريكي إلى أنها رصدت عمليات واسعة لبناء خنادق ومخازن تحت الأرض لتكديس الأسلحة فيها، ومنها صواريخ إيرانية يصل مداها إلى 750 كلم مثل صواريخ "ذو الفقار" و"قيام" (800 كلم). وبالتالي يمكن القول إن الهجمات الأخيرة ستنقل المواجهات بين إيران وإسرائيل إلى الجبهة الشرقية الإسرائيلية، فيما توفر القاعدة الأمريكية معلومات استخبارية حول طبيعة الوجود العسكري الإيراني في تلك المنطقة وفقاً لمعهد ستراتفور، وهو ما يتماشى مع تقديرات عاموس يادلين قائد سلاح الجو الإسرائيلي الذي أشار فيها إلى أن حجم الغارات الأخيرة يكشف استهداف أعلى مستوى من التموضع الإيراني في تلك المنطقة. 

3- ترتيبات انتشار جديدة: من المتصور أن الترتيبات التي تقوم بها واشنطن تركزت حول توسيع انتشار مليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الأقرب اليها في تلك الساحة، وبالتالي من المرجح أن الاستراتيجية الإيرانية تعمل على عدم تمدد "قسد" باتجاه محور الجنوب في المنطقة الشرقية مع الحدود العراقية، ومحاصرة قاعدة "التنف" الأمريكية، وبإمكانها نشر مليشيات على هذه الخطوط لعزل تلك المناطق، التي تأوي العديد من تلك المليشيات بالفعل حالياً مثل المليشيات التابعة لـ"حزب الله" اللبناني و"لواء فاطميون" الأفغاني و"لواء زينبيون" و"كتيبة 313" و"لواء باقر"، وبالتنسيق المشترك مع الجيش السوري، كما يمكنها بسهولة استقدام مليشيات للدعم من داخل الحدود العراقية. وبالطبع، فإن كل تمدد إضافي في منطقة دير الزور، التي تضم تلك المدن، يأتي على حساب مناطق انتشار الفصائل العشائرية العربية وقوات "قسد" التي باتت محصورة حالياً بين قوات تركية في الشمال والمليشيات الإيرانية في الجنوب.

متغيران رئيسيان:

يمكن القول إن مستقبل التموضع الإيراني يعتمد على متغيرين رئيسيين هما: 

1- دور الحكومة العراقية في عملية ضبط الحدود: فخلال العام الماضي، وسّعت الحكومة العراقية من أدوات الرقابة باستخدام التقنية الجوالة مثل بالونات الرصد، بالإضافة إلى نشر الكاميرات الحرارية لمراقبة الحدود. لكن من المرجح أنها تواجه تحديات في السيطرة على المليشيات التابعة لـ"الحشد الشعبي" التي تنسق مع إيران في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، فإن إحدى عمليات شحن الأسلحة التي قامت بها مليشيا "أبو الفضل العباس" عبر محور "القائم" الحدودي تمت دون اعتراض من جانبها. كذلك، فإن مشاركة قيادات من الفصائل المسلحة في الاجتماع الأخير الذي رصده الجانب الأمريكي بين قيادات الحرس الثوري والجيش السوري والفصائل العراقية، تمت من خلال عملية تأمين تحركات الدخول والعودة من جانب تلك الفصائل عبر الحدود. وبالتالي فإن التوسع في عامل التقنية لمراقبة حدود مشتركة طويلة لا يشكل قيمة عملية في ظل عدم السيطرة الحكومية على تلك المواقع. 

2- الموقف الأمريكي في ظل إدارة بايدن: على الرغم من إشارة وزارة الخارجية السورية، في بيانها رداً على تلك الضربات، إلى أن هناك إمدادات عسكرية أمريكية وصلت تلك المنطقة، لكن اللافت للانتباه هو انحصار الانخراط الأمريكي في العمليات الميدانية على الأرض على تلك الجبهة، ما يوفر هامش حركة للمليشيات الموالية لإيران، حتى وإن كانت القوات الأمريكية قادرة على رصد طبيعة التحولات التي تقوم بها إيران في تلك المنطقة، وإمداد الإسرائيليين بها. لكن العديد من التقديرات الأمريكية كشفت أن إسرائيل كانت تحظى بدعم كبير في ظل إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، في حين أن إدارة الرئيس الجديد جو بايدن قد لا توفر المستوى نفسه من الدعم، وبالتالي ستحتاج لفترة لتقييم هذا الموقف، خاصة وأنها تواجه معضلة في هذا السياق، حيث أن تنامي النفوذ الإيراني على حساب "قوات سوريا الديمقراطية" يشكل تحدياً لحلفاء واشنطن المحليين في تلك الساحة.

لكن على جانب آخر، فإن الوجود الإيراني يحول دون تجدد حضور تنظيم "داعش"، إلا أنه يشكل معضلة لإسرائيل في ظل توسع البنية العسكرية الإيرانية في المنطقة، مما سيخل بطبيعة التوازن التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقه في معادلة الاشتباك الخاصة بسوريا، ومن ثم فعلى الأرجح لن تعارض الإدارة الجديدة استمرار تلك الضربات، بهدف إضعاف إيران فقط وليس بهدف إبعادها عن المنطقة، الأمر الذي لا يتعارض مع الاستراتيجية الإسرائيلية. 

انعكاسات جانبية:

في مرحلة ما بعد "داعش" في شرق الفرات، توزعت نقاط السيطرة بين مواقع للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وانتشار أوسع لـ"قوات سوريا الديمقراطية" على مساحة تعادل حالياً ما يقارب 26% من الأراضي السورية، مع سيطرة المليشيات الإيرانية وقوات النظام على مفاصل الحركة والممرات. وفي حال نجاح إيران في السيطرة على تلك المواقع فبمقدورها توسيع مساحة سيطرة النظام، الذي قد يجد بيئة حاضنة للتقارب مع عشائر شرق الفرات في ظل توتر العلاقة بينها وبين "قسد"، وهى نقطة التقاء مصلحة مشتركة بين إيران وتركيا والنظام السوري. 

ومن المتصور أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على شرق سوريا تستهدف تقويض تنامي البنية العسكرية الإيرانية في تلك المنطقة، لكن إسرائيل، في الغالب، لن يكون بإمكانها إزاحة هذا الوجود الإيراني وفقاً لطبيعة قوة هذا المحور وعمقه المشترك بين سوريا والعراق، وبالتالي ستظل معادلة الصراع بين الطرفين محكومة بمتغير التوازنات العسكرية، وفي ظل مساعي ايران الحالية سيقود هذا السياق إلى نقل جبهة المواجهة من العمق في محيط دمشق إلى الشرق مع الحدود العراقية، الأمر الذي سيخفف نسبياً من الضغط على النظام من جهة ويمنحه فرصة لإبعاد المواجهة عن خطوط دفاعه الرئيسية، وربما يوفر له فرصة أكبر تعبد له الطريق إلى شرق الفرات في المستقبل.