تمددات موسكو:

ارتباطات القاعدة الروسية في "سواكن" بالتنافس الشرق أوسطي

01 December 2020


عندما أصدر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" مرسومًا يفوض وزارة الدفاع الروسية بالتوقيع على اتفاق مع السودان لإنشاء قاعدة عسكرية روسية دائمة، أو "محطة إمداد بحرية" في ميناء بورتسودان؛ بدا الأمر وكأنه مفاجأة للعديد من الكتاب والمراقبين، ولكن في الواقع يدور النقاش حول هذه القاعدة منذ ثلاثة أعوام تقريبًا، وبالتحديد أثناء زيارة الرئيس المخلوع "عمر البشير" لموسكو في نوفمبر عام 2017 ودعوته العلنية لإنشاء قاعدة روسية في السودان. وعلى الرغم من تغير المشهد الجيوستراتيجي بعد الإطاحة بنظام "البشير" العام الماضي؛ فإن الكثير من مبررات الدعوة للقدوم الروسي إلى البحر الأحمر في ذلك الوقت لا تزال تحمل مصداقية، وتساعدنا على فهم طبيعة التحالفات الدولية الناشئة في المنطقة. 

وفقًا لنص الاتفاقية فإن فترة سريانها الأساسية هي 25 عامًا، مع إمكانية تمديدها لعقد آخر، بموافقة الطرفين. وسوف تضم القاعدة البحرية الروسية حوالي 300 فرد عسكري ومدني، كما أنها لا تخضع للولاية القضائية السودانية. وسوف تكون القاعدة قادرة على استيعاب نحو أربع سفن حربية، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية. لن تدفع روسيا أي إيجار للسلطات السودانية، لكنها وافقت -على ما يبدو- على شحن بعض الإمدادات العسكرية والأسلحة إلى السودان مجانًا بموجب اتفاق إضافي منفصل. وتتحمل موسكو تكاليف أعمال البناء لإنشاء القاعدة، بما في ذلك أماكن المعيشة والمستودعات ومرافق الصيانة البحرية والأرصفة. علاوةً على ذلك، ستوفر روسيا دفاعات مضادة للطائرات لتغطية كل من قاعدتها والأصول البحرية السودانية القريبة في بورتسودان. ولا يذكر مشروع الاتفاق أي قاعدة جوية روسية في السودان بالإضافة إلى محطة الإمداد البحرية المعلنة، لكن يبدو أنه سوف يتم السماح للطائرات الروسية باستخدام المجال الجوي السوداني. وقد يُسمح لموسكو بالاستفادة من المطار الدولي جنوب بورتسودان. وبحسب مسودة الاتفاقية يمكن زيادة عدد العسكريين الروس في السودان مستقبلًا.

دوافع بناء القاعدة الروسية:

يمكن الحديث عن ثلاثة اعتبارات رئيسية على النحو التالي:

1- إن إنشاء أول قاعدة روسية في السودان خصوصًا، وإفريقيا بشكل عام، يمثل مفتاح روسيا لإفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. وربما ينطوي ذلك على العودة إلى عالم الشؤون الإفريقية بعد التراجع السريع الذي شهدته العلاقات الروسية الإفريقية في أعقاب الحرب الباردة. إذ تسعى روسيا جاهدة إلى توسيع نفوذها بعد أزمة أحداث "الربيع العربي" في شمال إفريقيا والتوجه جنوبًا على طول البحر الأحمر. ويعني ذلك في نهاية المطاف التركيز على منطقة شرق إفريقيا، ولا سيما إثيوبيا، والاحتفاظ بوجود دائم على طول طريق الحرير الجديد الممتد من بورتسودان إلى العاصمة التشادية نجامينا. ولنتذكر أنه خلال فترة الحرب الباردة، كان الأسطول الروسي متواجدًا في جنوب اليمن، عند مدخل البحر الأحمر. علاوة على ذلك، تم نشر القوات الروسية تحت ستار المستشارين العسكريين في إثيوبيا أثناء فترة حكم "منغستو هيلامريام". وعندما وضعت الحرب الباردة أوزارها بسقوط الاتحاد السوفيتي انسحبت روسيا من المنطقة. واليوم تعود موسكو لتؤسس موطئ قدم عسكري لها في منطقة تعتبرها ذات أهمية استراتيجية بالغة في الصراع على النفوذ القادم في كل من البحر الأحمر والمحيط الهندي. 

2- تعكس الطبيعة البحرية للقاعدة الروسية في السودان الجوانب الأخرى المرتبطة بالدور الروسي في إعادة هندسة النظام الدولي. فمن الجليّ أن الفكر الاستراتيجي الروسي يتعلق بتوسيع النفوذ خارج القارة الإفريقية ليشمل ممرات الشحن البحري في البحر الأحمر، والتي تربط آسيا وأوروبا وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي. وتحتفظ الولايات المتحدة بقاعدة مهمة من الناحية الاستراتيجية في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي. كما تجول حاملات الطائرات الأمريكية الضاربة عبر قناة السويس وعبر البحر الأحمر جيئة وذهابًا من القواعد على الساحل الشرقي للولايات المتحدة إلى منطقة الخليج والعودة مرة أخرى. في بعض الأحيان، تطلق السفن الأمريكية صواريخ كروز وهجمات جوية ضد أهداف مختارة في الشرق الأوسط انطلاقًا من البحر الأحمر. وعلى أية حال سوف تكون القاعدة الجديدة في السودان امتدادًا مهمًّا للقواعد البحرية والجوية الروسية الموجودة في سوريا والتي تم توسيعها وتطويرها بعد وقت قصير من تدخل روسيا في الحرب الأهلية السورية لتضم عشرات السفن الحربية، وتوفر الصيانة والإمدادات جنبًا إلى جنب مع الدعم الجوي. يعكس ذلك –ولو بشكل غير مباشر- محاولات إعادة التوازن في النظام الدولي، ولا سيما في حالة التنسيق الروسي الصيني.

3- تكتسب القاعدة الروسية بُعدًا استراتيجيًّا مهمًّا آخر، نظرًا لارتباطها بالمحيط الهندي. لقد أضحت منطقة شمال غرب المحيط الهندي مركز ثقل رئيسيًّا لإنتاج الهيدروكربونات في القرن العشرين، حيث يتم تصدير النفط إلى أمريكا وأوروبا عبر هذه المنطقة. ولا شك أن أي عدم استقرار في المنطقة يترتب عليه ارتفاع الأسعار ويؤثر على الاقتصاد العالمي. لقد تأخرت البحرية الروسية في القدوم إلى المحيط الهندي، وكانت جميع القواعد مشغولة بالفعل من قبل الدول الأوروبية. فشلت كافة المحاولات الروسية السابقة للحصول على معقل لها في إفريقيا. وقد استطاع الاتحاد السوفيتي الحصول على وجود عسكري في كل من الصومال وإثيوبيا، ومع ذلك لم يتطور المحيط الهندي -على عكس المحيطين الأطلسي والهادئ- إلى جبهة للحرب الباردة. فقد شاركت السفن الحربية السوفيتية والأمريكية في المهمة نفسها لضمان حرية الملاحة ومحاربة قراصنة البحر. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي تراجعت القدرات البحرية لموسكو، وقد استمرت هذه الفترة ما يقرب من عقدين من الزمن، وهو ما كان كافيًا لجعل عودة الأسطول الروسي للمياه الزرقاء في أعالي البحار مهمة صعبة.

وطبقًا للخبراء العسكريين فإن القيمة الاستراتيجية لقاعدة بورتسودان في وقت السلم تكمن في كونها ورشة عائمة، وقاطرة إنقاذ تتألف من 3-4 سفن حربية صغيرة. ومع ذلك، فإن القوة الرئيسية للقاعدة سوف تتألف من أجهزة الاستخبارات والقوات الخاصة، حيث تحتاج المنطقة في الغالب إلى مهمات خاصة وليس عسكرية. وفي حالة ضرورة الخيار العسكري، يمكن إرسال سفن حربية كبيرة، بما في ذلك غواصات وطرادات نووية. ومع ذلك يظل السؤال الرئيسي متعلقًا بخطط موسكو المستقبلية: هل يتم اعتبار بورتسودان المعقل الجنوبي للوجود الروسي في إفريقيا والشرق الأوسط؟ أم إنها ستكون الخطوة الأولى نحو عودة روسية كاملة إلى المحيط الهندي؟.

إعادة هندسة الدور الروسي: 

إن القضية الأكثر صلة بالموضوع المتعلق بدوافع ودلالات قاعدة سواكن الروسية ترتبط بمحاولة روسيا إحداث "توازن استراتيجي" في مجال علاقاتها بالمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. ارتبط هذا التفكير الروسي بالعقوبات الغربية عليها خلال السنوات الماضية. كانت التوقعات تتحدث عن "التوجه الروسي شرقًا" للتخفيف من حدة الحرب الاقتصادية التي تقودها الدول الغربية، ولكن الأمر في نهاية المطاف دفع بروسيا للتوجه جنوبًا صوب المجتمعات الإسلامية من أجل تحسين استراتيجيتها القارية الوسطية لتقف بين طريقين: الشرق (الذي تمثله الصين)، والغرب (الذي يمثله الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة). لقد أظهرت الظروف الجيوستراتيجية الراهنة المرتبطة بصراع شرق المتوسط، وحرب ناغورنو كاراباخ، وجود زواج غير مقدس بين روسيا وتركيا من خلال محاولتهما التحكم في ديناميات "الشرق الأوسط الكبير".

ومع توقع ممارسة مزيد من الضغوط عليهما في ظل إدارة الرئيس الأمريكي القادم "جو بايدن" فإن ذلك قد يدفعهما إلى بناء تحالف براجماتي غير رسمي. وربما تكون النتيجة في مثل هذا المسار إعادة ضبط الدور الروسي للقيام بتحقيق التوازن الاستراتيجي بين أطراف المعادلة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط. ونظرًا لعلاقة السودان في مرحلة ما بعد "البشير" المتميزة بدول الخليج العربية فإن ذلك يعكس دلالة أخرى هي إمكانية وجود علاقات تعاون وثيقة بين روسيا ودول الخليج، وهو ما يسهم في تحييد المتغير التركي في ثلاثية العلاقات الروسية الخليجية التركية. وإذا ما نجحت روسيا في التوصل إلى تسوية سياسية في روسيا، فإنها سوف تعزز من رؤيتها الاستراتيجية في فضاء العالم الإسلامي.

عودة موسكو إلى المعترك الدولي:

ينبغي أن نضع مسألة إقامة القاعدة الروسية في السودان ضمن السياق الأكبر لمحاولة روسيا استعادة نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا. ففي أكتوبر 2019، استضافت الحكومة الروسية أول قمة روسية إفريقية في سوتشي، حضرها أكثر من 54 رئيس دولة إفريقية. وكان على رأس بنود أجندة العمل الرئيسية تعزيز التعاون العسكري. وطبقًا لخطاب الرئيس "بوتين" في القمة فإن هناك "عسكريين من 20 دولة إفريقية يدرسون في مؤسسات التعليم العالي التابعة لوزارة الدفاع الروسية". ويهدف التعاون العسكري والفني الروسي الإفريقي إلى تعزيز القدرات القتالية للقوات المسلحة الإفريقية. روسيا لديها اتفاقيات تعاون فني عسكري مع أكثر من 30 دولة إفريقية. وعليه، ينبغي فهم مبادرة موسكو الخاصة بالسودان على أنها جزء من أجندة أكبر للحكومة الروسية لإعادة تأكيد سلطتها في منطقة الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا باعتبارها قوة موازنة لحلف الناتو والولايات المتحدة

. ومن المرجح أن قاعدة سواكن الجديدة سوف تسهل على البحرية الروسية العمل في المحيط الهندي من خلال قدرتها على الطيران في أطقم بديلة لسفنها بعيدة المدى، كما أنها سوف تعزز من وجود روسيا في إفريقيا وتحصنه بأنظمة صواريخ أرض-جو متطورة، مما يسمح لها بإنشاء منطقة حظر طيران لأميال حولها. ولعل الدلالة الكبرى لقاعدة روسيا في السودان تكمن في أنها سوف تفرض على الآخرين السماع للصوت الروسي في القضايا الدولية.