استعادة المجتمعات:

المداخل الخمسة لإصلاح السياسات الرأسمالية في العالم

22 July 2020


عرض: ياسمين أيمن - باحثة في العلوم السياسية

تتباين الآراء حول آثار تطبيق السياسات الرأسمالية عالميًّا، فهناك فريق متألف من أصحاب المشاريع وقادة الشركات يدعم قدرة الرأسمالية على تعظيم الربح، ومن ثمّ التمكن من إيجاد حلول لمشكلات العالم المختلفة، وعلى رأسها المشكلات البيئية. بينما يعلن الفريق الآخر عن رفضه للرأسمالية، التي كانت سببًا في تدمير البيئة، واتساع الفجوة الاقتصادية بين الأفراد، فضلًا عن دورها في زيادة التحيزات العنصرية والجندرية.

وفي هذا السياق، تُناقش "ريبيكا هندرسون" (الأستاذة بجامعة هارفارد، والمستشارة بمجلس إدارة عدد من الشركات العالمية) في كتابها المُعنون "إعادة تشكيل الرأسمالية في عالم مشتعل"، مشكلات الرأسمالية العالمية، والكيفية التي يمكن بها إصلاح النظام الدولي، مشيرة إلى مجموعة من الحالات التي أعادت هندسة أنظمتها الإدارية.

مشكلات الرأسمالية:

كانت الرأسمالية سببًا من أسباب رخاء البشرية في العقود الأخيرة، فهي لم تساهم في تخريب العالم بشكل كلي، لكنها نجحت في إخراج ما يزيد على مليار فرد حول العالم من تحت خط الفقر. كما أنها أنتجت التكنولوجيا التي ساهمت في تسهيل حياة البشر. ولكن المؤلفة ترى أنها -على جانب آخر- ساهمت في تخريب الكوكب، نتيجة للسياسات التي تراعي تحقيق المكاسب المادية على حساب البشر والبيئة.

ترى "هندرسون" أن هناك ثلاث مشكلات رئيسية ناتجة عن الرأسمالية تواجه العالم حاليًّا. تتمثل المشكلة الأولى في التغيرات المناخية، التي تسببت في آثار سلبية كثيرة من بينها زيادة حرائق الغابات في أستراليا وكاليفورنيا. وتوضح المؤلفة أن التغيرات المناخية نتجت من عوامل متعددة من بينها استخدام الوقود الأحفوري نتيجة لرخصه، وزيادة حجم الاستثمارات التي لا تراعي البيئة.

بينما تتمثل المشكلة الثانية للرأسمالية في اتساع حدة اللا مساواة بالثروات، فنحو 50 شخصًا يمتلكون أكثر مما يملكه 4 مليارات شخص على مستوى العالم. وتساهم أنظمة الحكم الأوليجاركية الشعبوية السلطوية في تعزيز سلطة ومنفعة مالكي الثروات على حساب تعزيز قيم المواطنة التي تحقق المساواة لبقية شعوب العالم. 

وللتأكيد على ذلك، توضح "هندرسون" أن المقترحات التشريعية المدعومة من 90٪ من مواطني الولايات المتحدة الأمريكية تكون لديها فرصة نجاح أقل من تلك المدعومة من 10٪ من الأغنياء، وهو ما يؤكد على حجم التأثير الذي يمارسه مالكو الثروات على بقية المواطنين.

وتؤشّر المشكلة الثالثة إلى تراجع دور الحكومة بالتزامن مع تطبيق اقتصاديات السوق الحر، وهو ما يتسبب في تخلي الشركات عن مسؤوليتها في تحقيق الصالح العام، واتجاه مديريها التنفيذيين لإيجاد وسائل للتهرب من الضرائب، والمراوغة من القوانين المفروضة، بصورة تسحب الشرعية السياسية من الحكومة نتيجة لفقدان ثقة المواطنين في قدرتها على حماية حقوقهم. 

وترى "هندرسون" أن هناك مشكلة بالرأسمالية والاشتراكية على حد سواء، فوفقًا لوصفها: "معظم الرأسماليين لا يعرفون كيفية تقسيم الفطيرة الاقتصادية بصورة جيدة، ومعظم الاشتراكيين لا يعرفون كيفية نموها بصورة جيدة"، وهو الأمر الذي يُعد محفزًا للتفكير في منهج اقتصادي جديد يحقق الموازنة بين تحقيق الرخاء، وتعظيم استفادة الأفراد، والحفاظ على البيئة في الوقت ذاته.

كيفية إصلاح الرأسمالية:

ترى "هندرسون" أن الرأسمالية لا يجب أن يقتصر غرضها على كسب المال، وتعظيم أرباح المالكين للمؤسسات؛ ولكنها لا بد أن تعمل كمحرك لتحقيق العدالة الاجتماعية، والحفاظ على البيئة، وتعزيز ديمقراطية المؤسسات بكافة الدول.

ومن هنا، تنطلق "هندرسون" من رؤية مفادها أن الشركات التي يحركها هدف فردي يركز على تعظيم الأرباح على المدى الطويل، تكون مدفوعة كليًّا بالنظام الرأسمالي. ولذلك فإنها ترى أن الشركات بحاجة لتبني هدف أوسع من هدفها الفردي يعالج مشكلات البيئة والمجتمع. 

وتضيف أن تلك الشركات بحاجة لخلق فرص عمل جديدة تتناسب مع احتياجات المجتمع، وتحقق رفاهية الأفراد. ولتحقيق ما سبق؛ تبنت مجموعة من الشركات فكرة إنشاء قيمة مشتركة من خلال اتّباع استراتيجيات تنافسية تعتمد على التأثير الاجتماعي على المدى الطويل.

علاوةً على ما سبق، توضح "هندرسون" أن اتخاذ السياسات المتعلقة بالشركات يجب أن يكون مدفوعًا بالتساؤل حول "قدرة تلك السياسة على حفظ المؤسسات التي جعلتنا أغنياء وأحرارًا، وليس حول قدرة السياسة على تحقيق المنفعة الفردية". وهنا لا بد أن يظهر دور التعاونيات، والنقابات التي تدعم الحقوق وتساهم في بلورة القرارات.

وتدعم "هندرسون" تأسيس الشركات التي لا يكون هدفها زيادة قيمة أسهم المستثمرين، بقدر ما هو تقديم خدمة ما على المدى الطويل، وخلق قيمة لها. وتعزز تلك الشركات من مكانتها عبر زيادة رأس المال، وإجراء تغييرات بالقادة بصورة مستمرة، فيكون هناك مرونة عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالشركة.

وعند تطبيق النموذج السابق من الشركات والذي يعتمد "استراتيجيات الاستثمار المستدامة"؛ لا يتم الوثوق بالمدراء بصورة كاملة، حيث هناك آلية لتقييم قراراتهم، ومحاسبتهم. ويتم ذلك عبر الإبلاغ الدوري عن بيانات الشركة المالية، فضلًا عن البيانات التي تقيس استدامة وأخلاقيات الشركة البيئية والاجتماعية وآليات الحوكمة داخلها، مع وضع قواعد لإبعاد المديرين عن ضغوطات المستثمرين.

وتُشير "هندرسون" إلى ضرورة عقد اتفاقيات مع أصحاب المصالح من الشركات لتبني استراتيجيات تخدم البيئة والمجتمع. وهنا لا بد من تصعيب مغادرة تلك الاتفاقيات، ومعاقبة المتخلفين عن الالتزام بالقواعد، فيظهر دور الحكومات والمنظمات متعددة الجنسيات والصناديق الكبيرة كصندوق النقد الدولي كأفضل مراقبين لتنفيذ الاتفاقيات، وأفضل منفذين للعقوبات.

وتؤكد "هندرسون" على ضرورة تزايد دور الحكومات في الحقبة القادمة، فالحكومات بحاجة لتنظيم الأسواق، وللاهتمام بالمشكلات البيئية عبر فرض ضرائب على الكربون، ومواجهة الشركات التي تخالف المعايير البيئية. وتُضيف "هندرسون" أن هناك ضرورة لوضع إطار لتدخل الحكومة يسمح بإعادة التوازن بين القوى الرأسمالية، ويحقق مصلحة الشركات، فالتعاون سيكون محركه المصلحة العامة، وليس المصلحة الفردية.

فضلًا عما سبق، هناك دافع للتشجيع على حقبة جديدة يميزها التآزر بين الحكومة ورجال الأعمال والأفراد. فالأعمال الخاصة ستكون مكملًا لمؤسسات شاملة تقوم على سياسات تدعم الأفراد والمجتمعات وتحافظ على البيئة. كما أنّ هناك تزايدًا لمبادرات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهو ما يعزز من فكرة تلبية احتياجات المجتمع.

ولتحقيق ما سبق ذكره، ترى المؤلفة أن الشركات بحاجة للتخلي عن نهجها القديم، والعمل على دراسة أساليب جديدة تُرضي جميع الأطراف.

الابتكار المتزايد:

تُشير المؤلفة إلى أن الشركات ترفض فكرة التغيير الجذري، على الرغم من قدرته على إصلاح الشركة وتعويض خسائرها. وتضرب "هندرسون" المثال على ذلك بشركتي كوداك Kodak التي اخترعت التصوير الرقمي، ونوكيا NOKIA التي باعت ملايين الهواتف المحمولة على مستوى العالم؛ إلا أن كلا الشركتين لم تستطيعا مواجهة التطورات العالمية نتيجة تمسكهما بنهجهما التقليدي، فأشهرت الأولى إفلاسها، ولم تستطع الثانية الصمود أمام مبيعات شركة Apple. 

ولتفسير ذلك، تُميز "هندرسون" بين "الابتكار المتزايد" innovation و"الابتكار المعماري" Architectural innovation، فالأول يمكن تحقيقه في الشركات بسهولة، عبر زيادة جودة الخدمات أو رفع قدرات المنتجات، بينما الثاني يتطلب إعادة هيكلة كلية للمنتجات أو للشركات بحيث تتلاءم مع مستجدات العصر.

وبالتطبيق على شركة كوداك، تشير "هندرسون" إلى أنها طبقت "الابتكار المتزايد"، حيث عملت على تطوير قدرات الكاميرات، ولكنها لم تستطع أن تتماشى مع فكرة اختراع هاتف محمول يحتوي على كاميرا، ويحل محل كاميرات التصوير. وفي ضوء الضغوطات اليومية التي تعرضت لها نتيجة تراجع مبيعاتها، كان من الصعب تطبيق "الابتكار المعماري" وإعادة تخيل هيكلي للشركة ومنتجاتها، فكان مصيرها الإفلاس.

تشير "هندرسون" إلى أن تطبيق "الابتكار المعماري"، الذي هو أشبه بتغيير الأنظمة الاجتماعية، هو السبيل لإعادة رسم الرأسمالية، وإصلاح مشكلات العالم. وتضرب المثال على ذلك بعدد من الشركات العالمية التي أعادت هندسة خطوط إنتاجها لتتلاءم مع متطلبات البيئة والمجتمع. فعلى سبيل المثال، انتقلت شركة Walmart لاستخدام الطاقة المتجددة، ولمبادرة "صفر نفايات". وقد تم ذلك بخطوات سريعة عبر تحديد المخاطر المتعلقة بالاستمرار في نهج الإنتاج التقليدي، فاستطاعت الشركات تحقيق أرباح مالية سريعة وضخمة.

نحو رأسمالية مستدامة:

تُجادل "هندرسون" بقدرة العالم على تحقيق رأسمالية عادلة ومستدامة من خلال خمس خطوات، هي على النحو التالي:

1- توجُّه الشركات إلى تبنّي قيم مشتركة تستطيع خدمة المجتمع، وتعظم أرباحها في الوقت ذاته. ويتم ذلك عبر إعادة التفكير في استراتيجيات الشركات التقليدية، وابتكار استراتيجيات تحقق نتائج اجتماعية بيئية إيجابية.

2- التوسّع في تبني نهج شركات "الطريق السريع"، والتي تتوسع في منح المزايا والمرتبات، وتعلي من اهتمامها بموظفيها، وتوفر لهم الاستقلالية والثقة، فتحقق معدلات ربح أعلى من شركات "الطريق المنخفض"، التي تمنح مرتبات أقل للموظفين، وتتعامل معهم على أنهم تروس في آلة، لا يمكن الاهتمام بمشاعرهم أو احتياجاتهم.

وبتطبيق أول خطوتين، تخرج الشركات من نهجها التقليدي، وتعظم أرباحها، مجنبة نفسها سيناريو إفلاس الشركات العالمية الكبرى كشركة كوداك.

3- التركيز على أنظمة التمويل المالية التي تراعي المقاييس البيئية والاجتماعية، وتحقق أرباحًا مستدامة، إضافة إلى إدارة الشركات بصورة أكثر عزلة عن المستثمرين لتجنب الضغط الذي يدفع لاتخاذ قرارات تراعي الأرباح على حساب البيئة والأفراد.

وعلى الرغم من أن تلك الخطوة قد تبدو مستحيلة؛ إلا أن "هندرسون" تشرح إمكانية تحقيقها بين ليلة وضحاها. فالقوة الاستثمارية العالمية مركَّزة في يد مجموعة قليلة من سكان العالم، فنحو 15 فردًا يديرون نصف ثروة العالم، وهو ما يعكس إمكانية تغيير المسار العالمي للاستثمار بسهولة.

4- دعم التعاون بين الشركات، حيث لا يمكن أن تعمل بشكل منفرد لمواجهة تحديات العالم، وهنا يتعاظم دور اتحادات الصناعة لإيجاد الحلول. وتضرب "هندرسون" المثال بشركة Unilever التي وحدت جهود شركات السلع الاستهلاكية الخاصة بإنتاج زيوت النخيل، لمكافحة عملية تجريف الغابات.

وتؤكد "هندرسون" على أن التنظيم الذاتي والتعاون بين الشركات لا يتم بصورة تلقائية، فهو يظهر عندما تكون الفوائد واضحة للجميع، وعند معاقبة المخطئين، كما أنها بحاجة لالتزام المشاركين بها على المدى الطويل.

5- تعظيم دور الحكومات الشاملة الديمقراطية، والتي تعطي الأولوية لرفاهية المواطنين على حساب تحقيق مصالح النخبة. وتضرب "هندرسون" المثال بحكومات دول الدنمارك وألمانيا، التي استطاعت تحقيق مستوى عالٍ من الرفاهية لمواطنيها. وتشير المؤلفة إلى أن ذلك بحاجة لوجود قائد يتمتع برؤية ثاقبة، يستطيع المبادرة وتولي زمام المسؤولية. 

وبالنظر لبعض الحالات التطبيقية التي جاءت بالكتاب، فأحيانًا تتسبب الأزمات، كالانكماش المالي، أو المآسي الشخصية، أو الاحتجاجات الشعبية، في إحداث التغيير. وقد يستغرق التغيير مدة تتراوح ما بين خمس إلى عشر سنوات.

وتضرب "هندرسون" المثال على كيفية معالجة المجتمعات بعد حدوث الأزمات، بإعادة بناء الاقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، فحينما انخفض حجم الإنتاج الصناعي والإنتاج الزراعي إلى حوالي ثلث مستواه لما قبل الحرب، التزم أصحاب الأعمال بالتعاون مع النقابات، وأعيد صياغة أشكال العلاقة بين العمال وأصحاب العمل للحفاظ على التواجد في الأسواق. ولا تزال هذه التقاليد معمولًا بها حتى اليوم في المصانع الألمانية.

تختتم "هندرسون" الكتاب بنصائح للمواطنين تمكنهم من المساهمة في معالجة النظام الرأسمالي العالمي، وتشمل: اكتشاف الأهداف الشخصية، بجانب التعاون مع الأشخاص الذين يشتركون في نفس الأهداف، وخلق قيمة ما للعمل الذي يقوم به الشخص، إضافة إلى تشجيع الانضمام لمنظمات غير حكومية تحافظ على البيئة، وتقوم بأعمال خيرية مما يجبر الشركات وأصحاب الأعمال على تمويل التغييرات المجتمعية، مع الانخراط في أحزاب سياسية والتقرب من السياسيين لإيصال أصوات المواطنين ومتطلباتهم بدرجة أسرع للمسؤولين.

كما تؤكد "هندرسون" أن دعم المؤسسات الديمقراطية، والتمسك بشفافية الحكومات، مع وجود وسائل إعلام حرة؛ هي سبل ضرورية لمواجهة مشكلات الرأسمالية. 

بيانات الكتاب:

Rebecca Henderson, "Reimagining Capitalism in a World on Fire", (New York: Public Affairs, 2020).