سياقات مُحفِّزة:

كيف يستفيد "أثرياء الحرب" من الصراعات المسلحة العربية؟

08 July 2020


يسعى أثرياء الحرب إلى استغلال الصراعات المسلحة في سوريا واليمن وليبيا، بأشكال مختلفة، حيث تسهم البيئة القاعدية في إنتاج نخبة مالية جديدة، تتمثل في رجال الأعمال الجدد الذين يحظون بعضوية المجالس النيابية، وقادة الميلشيات المسلحة، والعصابات الإجرامية، وكوادر التنظيمات الإرهابية، والمضاربين في سوق الصرف، وأصحاب التوكيلات التجارية، ومحتكري السلع الغذائية، ومهربي المشتقات النفطية والسلع الغذائية والأدوية المستوردة، الذين يقومون ببيعها بأسعار مضاعفة، بخلاف تجارة الأسلحة والآثار والبشر، والتي تشكل "اقتصاديات ظل".

أنماط متعددة:

على الرغم من أن الصراعات المسلحة الجارية في المنطقة العربية أدت إلى خسائر لا لأول لها من آخر، سواء على صعيد الحجر أو البشر، حيث تنهار بورصات وتتفكك شركات وتغلق مصانع وتزداد البطالة، إلا أن هناك فئات مجتمعية وجماعات مصالح مستفيدة من تلك الصراعات، وتحارب بشتى السبل من أجل استمرار اشتعالها وتمددها، فيما يطلق عليهم "أغنياء أو أثرياء الحرب"، وهم ليسوا نوعاً واحداً، بل أنماط متعددة، حيث تزامنت الصراعات الداخلية مع اقتصادات متهالكة وانتعاش الأسواق الموازية (التهريب). ويمكن القول إن أثرياء الحرب يستفيدون من الصراعات المسلحة في المنطقة العربية، على نحو ما توضحه النقاط التالية:   

1- تجديد القاعدة الاجتماعية الداعمة للنظم المتآكلة الشرعية: تكشف قرارات اختيار قادة حزب البعث الحاكم في سوريا عن زيادة دور رجال الأعمال الجدد في انتخابات مجلس الشعب (الذي يضم 250 عضواً، من بينهم 65 مستقلاً، وأغلبهم من التجار ورجال الأعمال) المقررة في 19 يوليو الجاري، بعد تأجيلها مرتين، على خلفية الإجراءات الاحترازية لمواجهة تداعيات كوفيد-19، على نحو يعكس أهمية المال السياسي لاسيما في حال متابعة القوائم، حيث يظهر رجال أعمال نافذون مثل محمد حمشو وسامر الدبس وهشام مسوتي وحسان عزقول في دمشق، وحسام قاطرجي في حلب. 

وهنا، يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن نظام الأسد يحاول تجديد قاعدته الاجتماعية التي انكمشت نسبياً خلال السنوات الأولى من الصراع. فقد طرأ تغيير على الفئات التي كان يتم تمثيلها داخل مجلس الشعب قبل الحرب وتضمنت أعضاءاً ناشطين في حزب البعث، أو التنظيمات الشعبية والنقابية المرتبطة به، والأعيان والقيادات القبلية، ورجال الدين، ورجال الأعمال، فضلاً عن ظهور فئات اجتماعية جديدة مثل قادة الميلشيات وأسر قتلى الجيش. فالسمة المشتركة بين الوافدين الجدد على عضوية البرلمان تتمثل في أنهم شاركوا في جهود الحرب إلى جانب النظام السوري.

واللافت للنظر أن تنامي دور المال السياسي يمكن تفسيره في ضوء محددين رئيسيين: أولهما، دفع أموال من قبل الراغبين في الترشح على قوائم تحظى بأفضلية بالداخل السوري. وثانيهما، تغير نسبي في تركيبة رجال الأعمال الداعمين للنظام بعد الإجراءات التي اتخذت ضد رامي مخلوف ابن خال الأسد، وتهميش المحسوبين عليه. وبخلاف رجال الأعمال السابق الحديث عنهم، توسع نفوذ رجل الأعمال خضر علي طاهر، الذي فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليه في فبراير الماضي بتهمة استغلال الحرب من خلال القيام بعمليات تهريب.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن طاهر أحد رجال الأعمال الجدد البارزين في قطاعات متعددة من الاقتصاد السوري، بما في ذلك الأمن الخاص وتجارة الهواتف المحمولة وإدارة الفنادق والخدمات الإعلانية والتحويلات المالية المحلية. وفي إبريل الماضي، وافقت وزارة التجارة الداخلية السورية على إنشاء وتشكيل شركة النجم الذهبي التجارية المملوكة بنسبة 99 في المئة لخضر. وما زاد من تنويع أنشطته التجارية عمله في مجال استيراد وتصدير معدات الصالات الرياضية إضافة إلى الأجهزة الإلكترونية. 

2- تعزيز هيمنة الميلشيات المسلحة على السلطة: على نحو ما هو بارز في شمال اليمن، خلال السنوات الست الماضية، حيث تسيطر ميلشيا المتمردين الحوثيين على المحافظات، لاسيما مع أفول الاقتصاد الرسمي وظهور الاقتصاد الخفي القائم على التهريب. فقد عمل المهربون لصالح تجار محليين، عبر المعرفة بمسالك التهريب، والتي تتفرع عبر أكثر من خط، وفقاً للوجهة النهائية لكل مهرب، بعيداً عن رسوم الجمارك والضرائب، بل تمت استمالة بعض العناصر بالمال الوفير، ليحظون بتسهيلات وحماية بحيث صنعت حرب اليمن أثرياء في فترات زمنية قصيرة للغاية.

وتعد ميلشيا الحوثي المستفيد الأكبر من عمليات التهريب هذه، وبصفة خاصة للأسلحة والذخائر لاسيما على خطوط التهريب الواقعة في نطاق المناطق المحررة، فضلاً عن تحول التهريب لخيار اضطراري بالنسبة للمواد الضرورية للسكان وخاصة الأغذية والأدوية. هذا بخلاف المبالغ المالية التي يتم تحصيلها من قاطني المناطق والمتاجر التي تدخل في نطاق سيطرتهم. وفي هذا السياق، تحول الحوثيون إلى أمراء حرب بعد أن كان الكثيرون من قادتهم وكوادرهم فقراء، وهو ما يسهم في تعزيز استيلائهم على السلطة.

3- إدخال المواد الغذائية إلى المناطق المحاصرة: وهو ما تشير إليه الحالة السورية بعد تحولات 2011، حيث تحقق ثراء بعض المواطنين مع ظهور المناطق المحاصرة من قبل قوات نظام الأسد، إذ يستغلون علاقاتهم ببعض التجار ورجال الأمن عند مداخل المدن وبين المحافظات لإدخال السلع وبيعها للموزعين بأسعار باهظة. وقد نجح النظام في إنشاء شبكة من تجار الحروب في مناطق المعارضة السورية وجعل إدخال المواد الغذائية يتم عن طريقهم حصرياً مقابل إتاوات محددة. 

ولم يقتصر الوضع على تهريب المواد الغذائية، بل شمل تجارة العملة الأجنبية بين المحافظات السورية، وبين سوريا والخارج، لاسيما في ظل تراجع قيمة العملة الوطنية (الليرة)، ويحدث ذلك بدعم من بعض العناصر الأمنية. فضلاً عن العمل في استخراج جوازات السفر للمطلوبين، بغرض إخراجهم من البلاد، وتأمين تأجيل الخدمة العسكرية، أو حتى شراء وثائق تخرج "مزيفة" من الجامعات السورية.

4- تأمين التعاملات التجارية مع التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة: صار نظام الأسد يبحث عن سماسرة لتغطية احتياجاته من النفط والغاز والقطن والقمح، لأنه لا يمكنه التعامل بشكل مباشر مع "داعش" أو "قسد" أو مناطق المعارضة. وفي هذا السياق، برز اسم رجل الأعمال السوري حسام قاطرجي خلال السنوات الخمس الماضية، في أعقاب تأسيسه مع أخويه محمد براء قاطرجي ومحمد آغا قاطرجي، شركة "آرفادا البترولية" في العاصمة دمشق، والذين كان لهم تعاملات سرية مع تنظيم "داعش" خلال فترة تصاعد نشاطه وتحديداً بين عامى 2014 و2017. 

وكان حسام قاطرجي يشتري عبر تجار تابعين له القمح من المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم "داعش" في الرقة سابقاً، وينقلها إلى دمشق مقابل إعطاء حصة من القمح للتنظيم تصل إلى 20 في المئة في بعض التقديرات. وامتد ذلك إلى شراء النفط من الحقول التي كانت تحت سيطرته سابقاً ونقلها إلى مناطق النظام عبر شاحنات. كما كان لحسام قاطرجي دور في اقتسام النظام السوري عائدات إنتاج الحقول مع الميلشيات الكردية في المناطق الشمالية عبر صفقات بحيث يتم نقلها إلى مناطق سيطرة النظام.

5- دعم اقتصاديات التجارة غير الشرعية: تنامت ظاهرة الإتجار بالمخدرات في مناطق سيطرة النظام السوري نظراً لتنامي نفوذ الميلشيات الإيرانية في سوريا، فضلاً عن ميلشيات حزب الله اللبناني. وتعتمد تلك الميلشيات على هذه النوعية من التجارة من خلال تهريب المخدرات عبر لبنان والعراق إلى الداخل السوري. ولم يكن ذلك غريباً بعد ظهور فئة جديدة أطلق عليها "المعفشين"، وهؤلاء هم ضباط جيش أو مخابرات أو زعماء ميلشيا موالية لنظام الأسد عملت على سرقة كل ما يتوافر من مساكن ومزارع ومحال بحجة الاستيلاء عليها لمكافحة الإرهاب.

ولم تكن الحالة الليبية بعد انهيار نظام معمر القذافي بعيدة عن ذلك بعد أعمال السطو والنهب المنظم التي قامت بها الميلشيات المسلحة والعصابات الإجرامية للمصارف العامة وسيارات نقل الأموال والمؤسسات المالية، فضلاً عن التهريب على الحدود الرخوة مع تونس، وخاصة عمليات بيع النفط والأسلحة، إذ يأتون بشكل رئيسي من مصراتة وطرابلس لقربهما الجغرافي من تونس. وفي هذا الإطار، أشار تقرير صادر عن "العربية نت"، في 20 مايو الماضي، إلى أن أثرياء ليبيا الجدد أو أمراء الحرب كونوا ثرواتهم عن طريق تجارة السلاح أو السطو على البنوك، وقاموا بتهريب مليارات الدولارات إلى مصارف خارج دولتهم من بينها المصارف التونسية.     

6- الالتفاف على العقوبات الغربية: يشير اتجاه في الكتابات إلى أن سامر فوز يعتبر أحد أبرز رجال الأعمال السوريين في مناطق سيطرة النظام الذين دخلوا قائمة أثرياء الحرب السورية، حيث وسّع علاقاته لتشمل لبنان بحيث يمتلك بنكاً (الاعتماد اللبناني)، ويستخدم لبنان معبراً لتمرير النفط الإيراني إلى سوريا، حيث يتعرض الاقتصادان السوري والإيراني لعقوبات أمريكية وأوروبية. 

ولهذا، تم فرض عقوبات أمريكية على سامر فوز وأفراد أسرته، الذين تربطهم صلات وثيقة بالرئيس بشار الأسد، والذين تقول واشنطن أنهم جنوا الملايين من خلال تطوير عقارات على أراضٍ تم الاستيلاء عليها ممن فروا من الحرب.  

خلاصة القول، إن ثمة نخبة مالية جديدة تتشكل في كل من سوريا واليمن وليبيا، وقد بنت ثرواتها من طاحونة العنف التي لا تهدأ، وصارت لهم مصالح في استمرار الحرب في تلك الدول، في حين قام بعض الأغنياء القدامى بالمغادرة ونقلوا أصول أعمالهم إلى الخارج، على نحو أفاد النظم المتصدعة لكسب أكبر قدر ممكن من الحاضنة الشعبية، ودعم بقاء الميلشيات المتطلعة للسلطة، وهو ما يزيد من حالة إفقار تلك الدول، ويبقي على وضعها في المراتب الأخيرة في مؤشر مدركات الفساد، خلال الأعوام الماضية، مع الصومال وجنوب السودان.