• Login

تقليص الزخم:

كيف أثر انتشار "كورونا" على الحراك الشعبي في المنطقة العربية؟

01 April 2020


لم تعد تأثيرات تمدد فيروس "كورونا" قاصرة على النواحي الصحية والأوضاع الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية، بل صارت وثيقة الصلة بالأبعاد السياسية، وخاصة في الدول العربية التي تشهد حراكاً شعبياً ممتداً، على نحو ما تعبر عنه حالات الجزائر ولبنان والعراق، حيث تم تعليق التظاهرات والمسيرات والفعاليات في ساحات الاحتجاج الرئيسية لاسيما بعد فرض حظر التجوال، وتضييق الخناق على رموز الحراك، وفي ظل وجود خلافات في الرؤى داخل القوى الداعمة له بين الاستمرار والإيقاف، وتبلور قوى مجتمعية مناوئة له، وتأجيل النقاش حول التعديلات السياسية والدستورية المطروحة من جانب بعض تلك القوى.

أنماط مختلفة:

شهدت عدة دول عربية حراكاً شعبياً على مدى زمني يتراوح بين عام وخمسة أشهر، للاحتجاج على أوضاع سياسية وأزمات اقتصادية وحالات معيشية، على نحو أدى إلى إسقاط نظم سياسية وإقالة حكومات قائمة وإرباك علاقات مؤسسية وتدخلات أطراف إقليمية، الأمر الذي ساهم في تعقد مواجهة المشكلات التي تعاني منها دول مثل الجزائر ولبنان والعراق، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، لاسيما مع بدء انتشار فيروس "كورونا" والتداعيات الناجمة عنه. 

ووفقاً للإحصاءات الدولية المتوافرة حتى أول إبريل الجاري، بلغ عدد المصابين بفيروس "كورونا" في العراق 694 شخص ووصل عدد الوفيات إلى 50 حالة، وبلغ عدد المصابين في الجزائر 716 شخص وعدد الوفيات 44 حالة، ووصل عدد المصابين في لبنان إلى 463 شخص وعدد الوفيات إلى 12 حالة. ولم يتوقف ذلك على الوضع الصحي، بل إن انتشار فيروس "كورونا" ألحق أضراراً سياسية بالقوى المحتجة، في الحالات العربية الثلاث، على النحو التالي:

تسكين الاحتجاج: 

1- تعليق التظاهرات في ساحات الاحتجاج: أعلن عدد كبير من المتظاهرين المشاركين في الحراك العراقي المستمر منذ أول أكتوبر 2019 تعليق وجودهم في ساحات الاحتجاج الرئيسية في بغداد والمحافظات الأخرى والعودة إلى منازلهم نتيجة التخوف من تفشي فيروس "كورونا"، واشترط عدد منهم العودة من جديد بتعثر القوى السياسية والحكومة العراقية في تحقيق مطالب الحركات الاحتجاجية. كما أن أزمة "كورونا" قد تكون فرصة لحركات الاحتجاج لمراجعة أخطاء المرحلة السابقة ومعالجتها والانتظار لمرحلة ما بعد تشكيل حكومة جديدة.

فعلى سبيل المثال، أصدر اتحاد الطلبة في محافظة ذي قار بياناً، في 21 مارس الماضي، علّق بموجبه وجوده في ساحة الحبوبي وسط مدينة الناصرية التي تعد أحد معاقل الحركة الاحتجاجية الرئيسية، بعد ساحة بغداد، حيث قال البيان: "نظراً للظروف الراهنة التي يمر بها بلدنا ومحافظتنا العزيزة ذي قار بسبب تفشي فيروس كورونا، واستجابة منا لتوجيهات وإرشادات وزارة الصحة وخلية الأزمة، لذا قرر اتحاد خيم طلبة ذي قار المتكون من 30 خيمة تعليق وجوده في ساحة الحبوبي، مؤقتاً، لحين انتهاء الأزمة الراهنة، ومنع أى تجمعات أو نشاطات طلابية في الساحة".   

وازداد هذا التوجه بشكل خاص بعد فرض حظر التجوال، فقد حذرت وزارة الصحة والبيئة العراقية، في 19 مارس الماضي، من مخاطر تفشي فيروس "كورونا" في البلاد في حال لم يتم الالتزام بالحظر الشامل الذي فرضته السلطات، مؤخراً، في بغداد وبعض المحافظات لمواجهة تداعيات الفيروس، لاسيما بعد استمرار التجمعات الشعبية وزيارات المراقد الدينية وسير الدراجات النارية في الطرقات العامة، لدرجة أن وزير الصحة جعفر علاوي حذر من احتمال أن "يفتك الفيروس بالشعب لأن ما يحدث من عدم تطبيق لحظر التجوال في بغداد خاصة لم يحدث في أى بلد آخر". 

ملاحقة النشطاء:

2- تضييق الخناق على رموز الحراك: استغلت الأجهزة الأمنية في الجزائر انتشار "كورونا" لملاحقة نشاط الحراك الشعبي الممتد منذ 22 فبراير 2019، وخاصة من جانب طلبة الجامعات والنشطاء، ولم تتراجع حدته بدرجة كبيرة على الرغم من انتخاب رئيس جديد للبلاد في ديسمبر الماضي. وفي هذا السياق، تعرض وزير العدل بلقاسم زغماتي لانتقادات شديدة، في 29 مارس الماضي، من جانب الاتحاد الوطني لمنظمات المحامين (يمثل حوالي 50 ألف محام) لاسيما أن الحكومة لم تلتزم بما سبق أن أعلنته بشأن وقف التدابير السالبة للحرية في ظل الظروف الصحية الحرجة التي تمر بها البلاد. 

ويعني ذلك التوقف عن إيداع النشطاء السجون التي صارت أحد الأماكن لنقل العدوى بين الأفراد، ليس في الجزائر فحسب وإنما في كل دول العالم. غير أن ما حدث هو العكس، حيث تم استدعاء العشرات من المتظاهرين لأقسام ومراكز الشرطة لاستجوابهم، وإحالتهم على النيابة وقضاة التحقيق، وسجن العديد منهم، وفقاً لما أدلى به العديد من المحامين لوسائل الإعلام الجزائرية، وذلك رغم الهدنة التي أعلن عنها رموز قوى الحراك الشعبي، حفاظاً على الصحة العامة. 

تباين الأجنحة:

3- وجود خلافات في الرؤى بين أنصار الحراك: ظهر خلاف حاد بين قوى الاحتجاج في عدة حالات عربية، وخاصة في الجزائر، ما بين اتجاه يدعو للتمسك بمواصلة الحراك، مهما كانت الظروف المحيطة، دون الاستماع لتحذير السلطات من خطر عدوى الفيروس، خاصة وأن تعبئة المتظاهرين من جديد في حال توقف الاحتجاجات ستكون صعبة، واتجاه آخر يطلق عليه "عقلاء الحراك" يناشد النشطاء تعليق الاحتجاج لأن المصلحة العامة تقتضي ذلك. وبلغ هذا الخلاف مداه لدرجة تبادل عناصر من الطرفين الاتهامات في بعض الأحيان على منصات التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر".

فقد حاول المحتجون مواصلة حراكهم في البدايات الأولى لانتشار فيروس "كورونا"، حيث رفع عدد من الجزائريين، في "حراك الجمعة 56" في 13 مارس الماضي، شعار: "قولوا لهم جيبو كورونا وزيدوا الطاعون.. ندوا الحرية يكون واش يكون"، وهو ما يعني أن وباء "كورونا" لن يخيف أو يرهب نشطاء الحراك الشعبي. كما رددوا شعاراً آخر هو: "لن نتوقف عن الاحتجاج حتى يرحل النظام عنا نهائياً". غير أن ملمح الانقسام برز بعد ذلك، حيث غاب حراك الجزائر لأول مرة منذ 13 شهراً في جمعتى 20 و27 مارس الماضي.

وامتد ذلك إلى الحالة الاحتجاجية العراقية منذ تسجيل أول إصابة بفيروس "كورونا" في فبراير الماضي، إذ تصاعد الجدل بين أنصار الحراك حول قضية استمرار التظاهرات أو إيقافها لحين السيطرة على الفيروس، حيث بات واضحاً منذ ذلك الحين انقسام جماعات الحراك بين من يطالب بوقف الاحتجاجات، ومن يطالب باستمرارها مهما كانت التكلفة، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يطلق عليه "روح تشرين" ستظل قائمة في أذهان القطاع الواسع من العراقيين، وستعاود الانطلاق ذات يوم لتحقيق أهدافها. 

مناوئة الحراك: 

4- تبلور قوى مجتمعية مناوئة للحراك: ساهم انتشار مرض "كورونا" في تزايد سخط قوى مجتمعية من المشاركين في الحراك، من نواحٍ عديدة أبرزها احتمالية نقل الوباء بشكل أوسع نظراً لعدم الالتزام بالتباعد الاجتماعي، وهو ما أدركه قطاع من المحتجين في العراق. فقد طالب بيان طلبة ذي قار الحكومة المركزية بزيادة عدد مواد الحصة التموينية للعوائل المتعففة التي ليس لديها القدرة على توفير القوت اليومي، في ظل وجود حظر تجوال، وإعطاء مبلغ مالي يرفق مع الحصة التموينية لكل فرد، إلى جانب إعفاء المواطنين من أجور الكهرباء والماء. 

كما عزز انتشار "كورونا" من دور الدولة ومؤسساتها في التصدي لكل ما يؤدي إلى تهديد الأمن الصحي للمواطن، لأن الهاجس المجتمعي المرتبط بالبقاء يتجاوز أى مطلب آخر، وهو ما بدا جلياً في إعلان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في 17 مارس الجاري، عن منع كل المظاهرات "مهما كان"، على نحو التقطه "الحراكيون" بالمبادرة بوقف الاحتجاج، قبل أن تطلب السلطة ذلك، أو تمنعهم باستعمال القوة. وحرص هؤلاء على إصدار رسائل أو بيانات أو تعليقات مفادها أن تعليق الحراك ليس استسلاماً بل يعكس روح المسئولية لتفادي خطر الانتشار السريع لـ"كورونا".

وبالنسبة للبنان، أدى تصاعد خطر تفشي فيروس "كورونا" إلى إضعاف زخم الحراك الشعبي المشتعل منذ 17 أكتوبر الماضي في مواجهة حكومة حسّان دياب، لاسيما أن الخوف من انتشار العدوى أوقف الإدارات العامة والمؤسسات الخاصة وعطل سير العملية التعليمية وعمق الأزمة الاقتصادية، بل إن بعض الكتابات بدأت تطرح سيناريو كارثياً يتعلق بإفلاس الدولة نتيجة مرورها بأزمتين متلازمتين وهما الحالة الاقتصادية والاجتماعية وتداعيات مواجهة "كورونا"، على نحو يفرض على الكثيرين اختيار "العمل عن بعد" مقارنة بمواصلة الاحتجاج.

أولويات مؤجلة:

5- تأجيل النقاش حول التعديلات السياسية والدستورية المطروحة: والتي كانت تطالب بها بعض قوى الحراك الشعبي، وهو ما ينطبق على الحالة الجزائرية. فقد تم الإعلان عن تأجيل مناقشة التعديلات الدستورية التي ترتبط بتعزيز حقوق الإنسان، وتشديد آليات مكافحة الفساد، وتكريس الفصل بين السلطات، وتعزيز سلطة القضاء، وتحديد هيئة الانتخابات العليا في الدستور، إلا أن اللجنة المكلفة بتعديل الدستور أعلنت عن تأخر جهوزيتها.  

سكون ظرفي:

خلاصة القول، إن ثمة سكوناً بعد حراك شعبي ممتد في الجزائر ولبنان والعراق، في مرحلة ما بعد اكتشاف إصابات ووفيات فيروس "كورونا"، وهو ما انعكس في ضعف تعبئة المتظاهرين وتراجع أولوية مطالبهم، بل برز جدل حاد في إطار فضاءات النقاش الجماعي بالمنصات الرقمية، حول جدوى استمرار الحراك الشعبي في حال تهديده الصحة العامة للمواطنين، بشكل يضع أعباءً إضافية على كاهل الحكومات التي باتت أمام خيارين: إما مواجهة "كورونا" أو الاستجابة لمطالب الحراك الشعبي، الأمر الذي يرجح خفوت دعوات الاحتجاج خلال الشهور التسعة المتبقية من عام 2020، فلا صوت يعلو فوق تهديد "كورونا". فمواجهة الأوبئة تتطلب توحيد المجتمعات أو على الأقل تأجيل الخلافات إلى ما بعد التصدي لها.