المواجهة "القَبْلِية":

المقاربة الذكية في مكافحة "كورونا"

25 March 2020


على الرغم من أن معظم الدول حاولت اتخاذ عددٍ من الإجراءات الاستثنائية والصارمة وغير المسبوقة في محاولة منها لاحتواء انتشار فيروس كورونا المستجد أو كوفيد-19، مثل: إغلاق الحدود، وفرض حظر التجوال، ووقف الدراسة، ومنع التجمعات؛ إلا أنه يُخشى أن تكون هذه التدابير وحدها غير كافية لمواجهة انتشار الفيروس. وتظهر أهمية الحاجة إلى اتخاذ عدد من الإجراءات غير التقليدية والذكية التي تُمكّن الدول من حصر نطاق انتشار المرض، والرصد المسبق لحالات الإصابة المحتملة، وإيجاد طريقة عملية للتأكد من التزام جميع الأفراد بالحجر الصحي المنزلي.

ولذا يُحاول هذا المقال إلقاء الضوء على بعض التجارب الدولية التي استخدمت أدوات غير تقليدية، إلى جانب الإجراءات التقليدية، في محاولة منها للكشف المبكر عن المرض، وتحقيق مفهوم المواجهة القَبْلية من خلال رصد الحالات المحتمل إصابتها، وتحقيق المراقبة الشاملة لجميع الأفراد للتأكد من التزامهم بالتعليمات. ومن أمثلة ذلك استخدام البيانات الضخمة في الكشف المبكر عن الحالات مثلما هو الحال في تايوان، أو استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والمراقبة الشاملة مثلما الحال في الصين، أو حتى استخدام برامج التجسس والاختراق كما هو الحال في إسرائيل.

عدم فعالية الأساليب التقليدية:

إنّ الطرق الحالية التي تتبعها الدول في محاولة اكتشاف الفيروس تتميز بقدرٍ محدودٍ من الفاعلية، يضمن تأخير عملية انتشار الفيروس أكبر وقت ممكن وليس بداية العد التنازلي للحالات المصابة في مواجهة الحالات التي شُفيت، والدليل أن معدل انتشار الحالات المصابة لا يزال في تصاعد عالميًّا، ولم يبدأ منحنى الإصابة في التراجع أو التسطيح بعد، ويرجع ذلك لعدة أسباب رئيسية هي:

1-أن محاولات المواجهة "بَعْدِية" وليست "قبلية"، أي إن محاولة مواجهة المرض تعتمد على اكتشاف المصاب بعد إصابته بالفعل وبداية انتقال العدوى إلى غيره من الأفراد، فهي تحدث بعد وقوع المشكلة وليس قبلها، أي كنوع من أنواع رد الفعل، ومن هنا تظهر الحاجة إلى حلول غير تقليدية تركز على "القبلية" في مواجهة المرض، أي اكتشاف الأفراد المرجح أن يصابوا بالمرض قبل أن يصابوا به وليس بعد أن تتحقق الإصابة.

2- لا تضمن محاولات المواجهة الكشف عن جميع الأفراد المصابين،  نظرًا لصعوبة تحقيق الفحص الشامل لكافة المواطنين بالطرق التقليدية، مع استمرار التحركات البشرية، حتى وإن كانت محدودة، وهو ما يجعل عملية الحصر الشامل مستحيلة وتتطلب إعادتها باستمرار وهو أمر مستحيل؛ تلجأ الدول إلى استهداف أفراد محددين، أو عينة عشوائية منهم، للكشف عنهم، سواء من خلال الكشف العشوائي عبر كاشفات درجات الحرارة والتي تكون مضللة إلى حد كبير، وذلك لأن الأفراد يمكن أن يكونوا حاملين الفيروس دون أن تظهر عليهم أي علامات خلال فترة الحضانة، أو من خلال إجراء تحليل PCR الذي يتميز بالدقة في تحديد الحالات المصابة، إلا أن كلا الحالتين تتضمن تحديد شخص معين والسعي لإجراء تحليل لهذا الشخص للتأكد من سلامته، ولا تضمن الكشف على جميع الأفراد، مع وجود صعوبات كبيرة في الكشف عن جميع الأفراد بالطرق التقليدية، وهو ما يعني استمرار الفيروس في الانتشار.

3- عدم التزام الأفراد بتعليمات السلطات، وهو أخطر ما في المشكلة، إذ لن تتحقق المواجهة القبلية في مواجهة المرض بالطرق التقليدية إلا من خلال التزام جميع الأفراد بتعليمات السلطات المختصة، وعدم نزول الأفراد من منازلهم إلا للضرورة، وهو أمر صعب الحدوث ويجب التعامل معه بمزيد من الواقعية، فالحشود البشرية تتحرك بقناعات شخصية مدفوعة بغريزة البقاء دون أي اعتبار للخطر الحقيقي أو لتعليمات السلطات، سواء لاكتساب العيش أو لتخزين المؤن أو عدم إدراك لحقيقة الموقف، وهو ما دفع بعض الدول لفرض حظر التجوال ونشر قواتها المسلحة لضمان عدم نزول الأفراد من منازلهم. فعدم التزام الأفراد بعدم مغادرة منازلهم سوف يكون العائق الأكبر أمام الدول لمواجهة هذا المرض، وهو ما يتطلب البحث عن طرق غير تقليدية تضمن مراقبة كل فرد على حدة للتأكد من التزامه بالتعليمات ومعاقبته في حال اختراقها.

ومن هنا فإن الطرق التقليدية قد تحد من انتشار المرض لكن لن تمنع ذلك، وقد تؤخر عملية اكتشاف حالات مصابة جديدة لكنها لن تمنع وقوع إصابات جديدة، وذلك لأن محاولات الكشف عن الفيروس بعدية ومحدودة، كما أن الأفراد لا يلتزمون بالتعليمات، ومن هنا كان من الضرورة البحث عن طرق أخرى غير تقليدية، لا يمكن القول إنها وحدها كفيلة بالحد من انتشار الفيروس، ولكن يجب أن تحدث بالتزامن مع الطرق الأخرى التقليدية، فكلاهما ضروري ولا غنى عنهما.

آليات غير تقليدية للاكتشاف المبكر:

حاولت بعض الدول استخدام طرق غير تقليدية للحد من انتشار المرض، مثل: الاعتماد على البيانات الضخمة، ونظم الذكاء الاصطناعي، وأدوات القرصنة والتجسس على المواطنين. ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:

1- استخدام البيانات العملاقة في تايوان: تُعتبر تايوان من أكثر الدول التي كان من المرجّح أن تكون مصابة بفيروس كورونا، حيث صنّفها تقرير صادر عن جامعة جونز هوبكنز الأمريكية بأنها سوف تحتل المرتبة الثانية عالميًّا من حيث عدد الإصابات ، وذلك اعتمادًا على درجة ارتباط تايوان بالصين، حيث أخذ المؤشر في الاعتبار حركة الأفراد في تايوان من وإلى الصين، ونسبة حركة الطيران بينهما، حيث لا تبعد تايوان عن الصين إلا 130 كلم، ويتجاوز عدد سكانها 23 مليون نسمة، عدد كبير منهم يعمل بصورة مباشرة في الصين، أو لديه ارتباطات بالصين، وهو ما يضع تايوان في مقدمة الدول المعرضة للإصابة. ومع ذلك فقد فاجأت تايوان الجميع، إذ لم يتجاوز عدد الإصابات فيها حتى وقت إعداد هذا التحليل 216 حالة فقط، ولم يحدث بها سوى حالتي وفاة، وترتيبها عالميًّا هو الـ65 من حيث عدد الإصابات.

ويرجع ذلك بصورة أساسية، حسبما وصف Journal of the American Medical Association، إلى استخدام تايوان المبكر للبيانات العملاقة والتكنولوجيات الحديثة في مواجهة المرض، حيث بدأت السلطات فور اكتشاف حالات الإصابة في الصين، في ربط قواعد البيانات الصحية مع قواعد البيانات الخاصة بكلٍّ من الجمارك والهجرة، لتشكل بذلك قاعدة بيانات ضخمة وآنية، يتم تحديث البيانات فيها بصورة آنية وتلقائية، ويوضح فيها التاريخ المرضي وتاريخ التنقلات الخاص بجميع الأفراد بالدولة دون استثناء، كما أنها سمحت للمستشفيات والصيدليات والعيادات الصحية بالدخول إلى قواعد البيانات، وبذلك تمكنت من حصر جميع الأفراد الذين تنطبق عليهم احتمالية الإصابة منذ بداية ظهور المرض في مدينة ووهان الصينية وسرعة التعامل معهم ووضعهم في الحجر الصحي.

كما قامت الحكومة التايوانية بحجر جميع الأفراد المشكوك في إصابتهم، وتزويدهم بهواتف ذكية من قبل الحكومة، مزودة بخاصية تتبع المكالمات والأماكن، وذلك لمراقبة تحركات الأفراد المشكوك في إصابتهم، ومراقبة مكالماتهم التليفونية، حتى إذا رفض أحد الأفراد التعاون مع الحكومة وإعطاء بيانات صحيحة حول الأماكن والأفراد الذين خالطهم، فيمكنها معرفة ذلك بصورة غير مباشرة، بغض النظر عن قانونية وأخلاقية الأسلوب المتبع، فالدولة أصبحت تتعامل بمفهوم القبضة الحديدية للحد من انتشار المرض.

تزامن مع ذلك القيام بالعديد من الإجراءات التقليدية، مثل: تقييد عملية التحرك عبر الحدود البحرية والجوية، وفرض حجر صحي على الحالات المشكوك فيها، وتخصيص ميزانية لمواجهة الوباء. لكن ما ميز التجربة التايوانية هو القدرة على الكشف القبلي والمبكر للحالات التي يمكن أن تكون معرّضة للإصابة باستخدام قواعد البيانات الخاصة بالجمارك والهجرة والصحة، والتواصل معهم ووضعهم في الحجر الصحي ومراقبتهم أثناء الحجر.

2- نظم الذكاء الاصطناعي في الصين: كان قطاع التكنولوجيا بصورة عامة إلى جانب القطاع الصحي بالطبع هما أدوات المواجهة الرئيسية التي اعتمدت عليها الصين في مواجهة كورونا، وقد نجحت إلى حد كبير في احتواء المرض، وبدأت في تحقيق معدلات شفاء أكبر من معدلات إصابة، حيث اعتمدت على نظم الذكاء الاصطناعي منذ البداية في عمليات التشخيص والعلاج والمراقبة وتقديم النصائح وفرض النظام، معتمدة في ذلك على البرمجيات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي والروبوتات والدرونز.

فقدّمت شركة Infervision نظمًا للذكاء الاصطناعي مخصصة لتشخيص المرضى عن بعد ومراقبة حالاتهم بصورة دورية، كما قامت شركة علي بابا ALI Baba ببناء نظام ذكاء اصطناعي قادر على تشخيص المرض بدقة 96% حسبما ذكرت الشركة وفي غضون ثوانٍ معدودة.

وبفضل نظم المراقبة الشاملة التي تستخدمها الصين ونظم التعرف على الوجوه باستخدام الذكاء الاصطناعي، فقد استطاعت الحكومة متابعة الحالة الصحية لجميع الأفراد عن بعد، وسهولة تحقيق المراقبة الشاملة لجميع الأفراد، سواء كانوا مصابين أم لا، فضلًا عن مراقبة الحالات المرضية وتأكيد التزامها بتعليمات الحجر الصحي، حيث يمكن بسهولة معرفة عدم التزامهم بالحجر من خلال نظم التعرف على الوجوه.

كما استخدمت الصين أيضًا نظم البلوك تشين في تسريع عملية متابعة الاحتياجات واللوجستيات اللازمة من معدات طبية وأدوات لمتابعة المرضى، استخدمت الربوتات في تقديم العلاج وعمليات التعقيم والدرونز في تقديم الإرشادات الطبية ومتابعة عملية فرض النظام في الشوارع وتأكيد التزام جميع الأفراد بالتعليمات الحكومية.

3- نظم التجسس والمراقبة الشاملة في إسرائيل: بدأت إسرائيل في استخدام تقنيات متقدمة للمراقبة الشاملة للأفراد عبر الهواتف الذكية، لتحقيق المرضى المحتملين للتعرض للإصابة بفيروس كورونا من خلال تكنولوجيا المراقبة الشاملة عبر الهاتفMobile Phone Surveillance Technology، وذلك في إطار استراتيجية المكافحة القبلية للمرض، حيث يتم تتبع ومراقبة جميع الأفراد من خلال هواتفهم، وفي حالة اقتراب أحد الأفراد من شخص أو مكان به إصابة، يتم إرسال تحذير له من قبل السلطات يخبره بأنه بالقرب من منطقة بها إصابة، ويطلب منه إجراء حجر منزلي ذاتي لمدة 14 يومًا حتى يتم التأكد من سلامته، مع القيام بمراقبة هؤلاء الأفراد عن بعد من خلال هواتفهم للتأكد من التزامهم بالحجر الصحي.

ليس هذا فحسب، بل يقوم هذا النظام أيضًا باختراق هواتف الأفراد المصابين بالفيروس من أجل القيام بعملية تتبع عكسي للأماكن والأفراد الذين خالطوهم خلال الفترات السابقة، للتواصل أيضًا معهم ووضعهم في حالة حجر صحي. ولا يزال هناك خلاف داخل إسرائيل حول قانونية عمليات المراقبة والتجسس، حيث أثارت حفيظة القانونيين وكذلك السياسيين خشية تعرضهم للتجسس والقرصنة من الحكومة الإسرائيلية بداعي الكشف عن كورونا، ولم يتم حسم الأمر حتى وقت إعداد هذا التحليل.

وبذلك فقد استطاعت هذه الدول تطبيق مفهوم المراقبة القبلية والشاملة أيضًا، وذلك بالاعتماد على أدوات تكنولوجية غير تقليدية، مع اتباع الإجراءات التقليدية الروتينية أيضًا، بهدف التعامل الاستباقي مع الحالات المعرضة للإصابة وسرعة اكتشافها وتحديد نطاق تحركاتها واتصالاتها للتعامل مع جميع الحالات المشتبه فيها، وذلك بالاعتماد على نظم المراقبة الشاملة، سواء عبر الهاتف كما هو الحال في إسرائيل أو نظم التعرف على الوجوه كما هو الحال في الصين، أو من خلال البيانات الضخمة كما هو الحال في تايوان، وهو ما مكّنها -بدرجات متفاوتة- من السيطرة على حالات الإصابة.

لكن تبقى الأدوات غير التقليدية حكرًا على الدول التي استطاعت بالفعل إتمام عملية التحول الرقمي الذكي منذ سنوات، وامتلكت البنية التحتية الرقمية ونظم الذكاء الاصطناعي ونظم تحليل البيانات الضخمة التي تُمكّنها من إدارة أزمات غير تقليدية مثل انتشار حالات انتشار الأمراض والأوبئة، أما الدول النامية والفقيرة التي لا تمتلك هذه الأدوات فليس أمامها سبيل سوى تأخير عملية انتشار المرض أكبر فترة ممكنة حتى يتم اكتشاف مصل مضاد للفيروس.