دوامة الفوضى:

انعكاسات الجيوش الموازية على الاستقرار في الشرق الأوسط

25 September 2016


لم تعد الجيوش الوطنية المحتكر الشرعي الوحيد للقوة العسكرية في بعض دول الإقليم، إذ شهدت السنوات الست الماضية تعاظم تأثير العناصر المسلحة غير النظامية إلى درجة إطلاق الأدبيات عليها "الجيوش الموازية"، والتي تتمثل في بقايا أو كتل رئيسية من الجيوش النظامية والميلشيات المسلحة والكتائب المناطقية والجماعات الطائفية والأجنحة العسكرية والتشكيلات الشعبية والفيالق الثورية والتنظيمات العشائرية والمنظمات الإرهابية، فيما يشبه مجازًا "جيوش قطاع خاص" بالشرق الأوسط.

وقد استطاعت تلك الجيوش الموازية السيطرة على مساحات جغرافية في مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة بدول مركزية، وباتت تمتلك موارد اقتصادية، وتستحوذ على قدرات تسليحية، وتدير علاقات خارجية مع دول وفاعلين عنيفين من غير الدول؛ إذ تستغل انهيار الدول وفراغ السلطة وضعف الحكومات ورخاوة الحدود وتصاعد تأثير اقتصاديات الصراعات الداخلية، في خلق نمط "حروب استنزاف صغيرة" في مواقع متعددة، على نحو يضمن بقاءها وتمددها، وهو ما يُسهم في استمرار دوامة الفوضى وتعثر الاستقرار بالإقليم.

جيوش جوالة:

اللافت للنظر أن دولًا عديدةً بالشرق الأوسط شهدت ميلاد أو تزايد تأثير جيوش مصغرة أو قوات مسلحة صغيرة أو جماعات متمردة، تتسلح بأسلحة خفيفة وثقيلة، ولها قواعد للتدريب، وتتبنى استراتيجيات دفاعية وهجومية في مسارح عمليات مختلفة، وتمزج بين الوسائل التقليدية والحديثة، بما يجعلها قوة مناوئة للجيوش النظامية، مثل جيش حفتر وقوات السراج في ليبيا، والألوية التابعة لصالح وميلشيا الحوثيين في اليمن، و"الجيش الحر" في سوريا، و"حزب الله" في لبنان، وقوات "الحشد الشعبي" و"البشمركة" في العراق، و"الحرس الثوري" في إيران، والميلشيات التابعة لرياك مشار في مواجهة قوات سلفا كير في جنوب السودان، وجماعة "بوكو حرام" في نيجيريا، وحركة "شباب المجاهدين" في الصومال.

وقد أشار تقرير للكونجرس، في يونيو 2016، إلى أن تنظيم "داعش" قد كوّن على الأقل ستة جيوش فعالة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، ونيجيريا، وأفغانستان، مع الأخذ في الاعتبار تقلص حجم سيطرة "داعش" على مناطق نفوذه الرئيسية في الدول الثلاث الأُوَل بسبب العمليات العسكرية التي تشنها قوات التحالف الدولي وبعض الأطراف الأخرى، على غرار الفلوجة في العراق، وتدمر في سوريا، وسرت في ليبيا. وأدت هذه الجيوش إلى خلق جبهات مفتوحة فرضت تداعيات سلبية خطيرة على بقية الأطراف.

غير أن تلك الجيوش الموازية لم تكن وليدة سنوات ما بعد الحراك الثوري، بل كانت صنيعة قادة الدول في بعض الأحيان، إذ لجأ الرئيس الليبي السابق معمر القذافي إلى تشكيل الجيش الليبي بواسطة الميلشيات الثورية المتنوعة وقوات حماية النظام وخاصة "الكتائب الأمنية" التابعة للقذافي، عبر التجنيد المكثف لأبناء القبائل والمناطق الموالية للقذافي، لا سيما بعد فشل الجيش في خوض مواجهات عسكرية ضد الجيش التشادي في الثمانينيات وظهور التوجهات الإسلامية بين صفوف قياداته، الأمر الذي أسهم في انشطار الجيش.

قوات هجين:

وقد استمرت ملامح هذا التشظي بعد ثورة فبراير 2011؛ حيث برزت الهياكل العسكرية الموازية القائمة على ائتلاف الميلشيات الثورية المختلفة، والوحدات المتبقية من الجيش النظامي، فضلا عن كتائب عسكرية من مناطق جغرافية محددة، وهو ما عبر عنه الباحث يزيد صايغ بـ"القوات المسلحة الهجينة داخل الدولة الهجينة". فعقب انهيار نظام القذافي، شهدت البلاد انقسامًا سياسيًّا تمخض عنه حكومتان وبرلمانان وجيشان متنافسان في طرابلس غربًا ومدينتي طبرق والبيضاء شرقًا، ولا تزال تلك المعضلة باقية.

ولم يكن الجيش اليمني بعيدًا كثيرًا عن الحالة الليبية، لا سيما فيما يخص تعاظم الانتماءات المناطقية والقبلية في أسس التجنيد والترقي داخله، على نحو يعيق عملية إعادة هيكلة الجيش خلال المراحل الانتقالية المتعددة. كما أوكلت الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاحتلال الأمريكي في عام 2003 قضايا الدفاع الوطني وحماية النظام لمجموعة من الميلشيات الطائفية. وقد أوضح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في تصريحات صحفية مختلفة أنَّ "قوات الحشد الشعبي تُعد جزءًا من الدولة التي تدفع رواتب أعضائها وتنسق عسكريًّا مع قادتها". كما ذكر مستشار الأمن القومي العراقي فالح الفياض في تصريحات صحفية، في 19 أغسطس 2016، "أن وجود الحشد الشعبي إلى جانب الجيش العراقي جناحا أمن واستقرار في العراق".

وقد فرض تمدد الجيوش الموازية في بعض دول الإقليم تداعيات عديدة على أمنها واستقرارها وتنميتها، بما تشمله من أرض وسكان وموارد، وهو ما يتضح في النقاط التالية:

الاختراق الموازي:

1- الاستنزاف المتواصل لهيبة الدولة: تصاعد دور الجيوش الموازية مع تصدع الدولة الوطنية المركزية في المنطقة العربية، إذ أدى الحراك الثوري إلى انهيار دول وليس مجرد سقوط نظم، وهو ما تشير إليه الأوضاع في سوريا والعراق واليمن وليبيا، إلى درجة أن هناك اتجاهًا في الأدبيات يشير إلى "ربيع الميلشيات" في المنطقة، لا سيما مع وصول ميلشيا مسلحة إلى السلطة مثل جماعة الحوثيين في اليمن. فقد نازعت تلك الجيوش مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية في القيام بأدوارها التقليدية، بعد أن كانت تمثل المعارضة المسلحة المرفوضة مجتمعيًّا في غالبية دول الإقليم، وصارت أداة سياسية يتم الضغط بها على استقرار الدول، خاصةً مع وجود حواضن شعبية لها في حال عدم إيجاد مصادر سلطة أو مواضع نفوذ لها ضمن صيغ التفاهمات مع القوى السياسية المتنازعة والأجنحة العسكرية المتصارعة.

2- تعميق الفوضى في المجتمعات المنقسمة داخليًّا: وهو ما يمثل نتيجة مباشرة لضعف بنية الدولة واختراق القوى الاجتماعية لها بما يؤدي إلى اتساع ظاهرة الولاء إلى ما دون الدولة، إذ تعد الأخيرة مجرد غطاء لولاءات في حالات عربية عدة، وأبرزها لبنان، التي تشبه الدولة بها -على حد تعبير الدكتور مأمون فندي- "صاج السيارة، في إشارة إلى قطعة الصفيح التي تصنع الغطاء الخارجي"، وهي على عكس السيارة التي تعمل بمحرك واحد، حيث أن لبنان دولة تعمل بمحركات طائفية متمثلة في طوائف السنة والشيعة والدروز والمسيحيين، والتي تضعف محرك الدولة، وتسهم في تصارع "الشرعيات المحلية". وقد يسهم ذلك أيضًا في تصاعد نشاط الجماعات المسلحة الجهادية المعبرة عن الفضاء السني في مقابل الجماعات المسلحة المعبرة عن الفضاء الشيعي من العراق إلى لبنان.

الجهاد المذهبي:

3- توسيع قاعدة الجماعات المؤيدة داخل وعبر حدود الدول: يؤدي الصعود السياسي لجيش موازٍ في دولة ما إلى ازدياد الدافعية له للمزيد من الانتشار، على غرار ما يقوم به تنظيم "داعش" و"حزب الله" الذي عملت قيادته على بناء جيش يسمى "سرايا المقاومة"، التي وصفها وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق بـ"سرايا الفتنة والاحتلال" لتكون الجيش الخفي للحزب في لبنان ولتتحول إلى هيكلية عسكرية جديدة للحزب قادرة على دعمه بالمقاتلين. وتكمن أهمية هذه الميلشيات في أنها عابرة للطوائف، لأنها تحوي في صفوفها مختلف الطوائف اللبنانية، وإن كان العدد الأكبر من الطائفة الشيعية.

ويتوازى مع ذلك ما كشف عنه "الحرس الثوري" الإيراني، في 18 أغسطس 2016، على لسان أحد قادته في سوريا، عن مخطط لإنشاء ما سمي "جيش التحرير الشيعي" تحت إشراف قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني للقتال في ثلاث جبهات هي سوريا والعراق واليمن، ولا يقتصر الجيش في تجنيده على العناصر الإيرانية، بل يضم ميلشيات تدعمها طهران في الشرق الأوسط مثل ميلشيات "زينبيون" من المقاتلين الباكستانيين و"حيدريون" من الشيعة العراقيين و"فاطميون" من المقاتلين الأفغان.

أثر المكانة:

4- ازدياد حدة الصراعات الداخلية العربية المسلحة بعد تصاعد التنافس بين الجيوش الموازية: بدأ يسود في بعض الكتابات ما يعرف بأثر "التنافس الجهادي" بين الفواعل المسلحة، سواء بين جيوش نظامية وجيوش شبه نظامية، أو بين جيوش نظامية وميلشيات مسلحة، أو بين ميلشيات مسلحة وميلشيات مسلحة، أو بين جيوش نظامية وتنظيمات إرهابية، أو بين كتائب مسلحة مناطقية وكتائب في مناطق أخرى، والتي تقع المواجهات فيما بينها في مسارح عمليات مختلفة، وقد تندلع تلك المواجهات في مناطق ذات تجمعات مدنية، وتستخدم فيها الجيوش الموازية تكتيكات حروب العصابات، وتمتلك أنظمة تسليح عسكرية مشابهة لما تمتلكه الجيوش النظامية، وهو ما يؤدي إلى تزايد حدتها، وتنامي الخسائر البشرية والمادية الناتجة عنها.

وفي هذا السياق، يمكن توقع حرب ليبية- ليبية حادة بعد تصعيد المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، ودعوته مؤخرًا لوزارة الدفاع ورئاسة الأركان بحكومة الوفاق الوطني المقيمة في طرابلس والتي يقودها فايز السراج لنبذ الخلافات ومواجهة ما اعتُبر "الانقلاب العسكري" لقوات خليفة حفتر بعد العمليات العسكرية في منطقة "الهلال النفطي" التي تضم أربعة موانئ نفطية (الزويتينة، والبريقة، ورأس لانوف، والسدرة)، وتقع بين مدينتي بنغازي وسرت، وتحوي حقولا نفطية يمثل إنتاجها نحو 60 في المائة من صادرات ليبيا النفطية إلى الخارج، على نحو يشير إلى ازدياد الاقتتال بين الجيوش الموازية على الموارد الاقتصادية.

5- انتعاش السوق السوداء للأسلحة الصغيرة والمتوسطة: قد تكون الجيوش الموازية السبب أو النتيجة لانتشار هذا النمط من الأسلحة. فقد أدت الثورات التي شهدتها بعض دول الإقليم، والتي تحول بعضها إلى صراعات داخلية ممتدة، فضلا عن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان (2001) والعراق (2003) إلى تفكيك عدد من الجيوش النظامية، واستيلاء شبكات أو جماعات مصالح اقتصادية على أسلحة الجيوش، والتي تقوم بالاتجار بها في السوق السوداء التي تشهد انتعاشة، إذ صارت تلك الشبكات مصدرًا لتجارة الأسلحة بخلاف الأنماط الأخرى غير المشروعة. وهذه الأسلحة تعد بمثابة مخزون رئيسي للتنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة، لا سيما في ظل تصاعد الطلب عليها من جماعات مناظرة لها في دول الجوار.

تجاوز السيادة:

6- المساس باستقلالية القرار الخارجي في ظل هشاشة النظم الحاكمة: وهو ما تعبر عنه حالة "حزب الله" في لبنان، إذ تتماهى القرارات الصادرة عن وزارة الخارجية اللبنانية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية مع التوجهات الإيرانية أكثر من تلبية المصالح الوطنية اللبنانية، وهو ما يشير إلى دعم القوى الإقليمية -مثل إيران- تأسيس علاقات سياسية وتمويل وتسليح الفاعلين العنيفين غير الرسميين. على الجانب الآخر، دفع "حزب الله" بكثير من كوادره وعناصره العسكرية إلى سوريا لحماية نظام الأسد في سوريا، وتنفيذ مشروع طهران في الإقليم.

7- تمهيد المجال لمزيد من التدخلات الدولية والإقليمية في الشئون الداخلية: لم تعد السيادة الوطنية تحظى بأهمية وقدسية خاصة، حيث باتت بعض القوى الإقليمية والدولية تدعم أحد الجيوش الموازية داخل هذه الدولة أو تلك على نحو ساهم في تحويل مسارات الصراعات المسلحة في الإقليم من النطاقات الداخلية إلى الأبعاد الإقليمية الممتدة، لا سيما أن الاتجاه إلى تسوية غالبيتها -إن لم تكن كلها- مرهون بتوازنات إقليمية وتفاهمات دولية.

خلاصة القول، تمثل الجيوش الموازية واحدة من الحقائق الرئيسية في الإقليم، لدرجة دفعت بعض شبكات مراكز الأبحاث إلى إنشاء مراصد إنذار مبكر خاصة بالجيوش الموازية العابرة لحدود دول الإقليم، وأصبح على مؤسسات الدول القائمة التعامل مع تلك الجيوش بجدية شديدة، لأنها قد توجه تهديدات ضدها، أو تُنفذ تفجيرًا بداخلها، أو تتماس مع حدودها على أقل تقدير. غير أن بعض الدول قد تواجه معضلة رئيسية تتمثل في بناء جيوش وطنية جديدة بعد كبح الفوضى الإقليمية الحالية.