مرآة عاكسة:

كيف يفسر الانتشار غير المنظم للأسلحة تفاعلات المنطقة في نهاية 2019؟

19 December 2019


ساهم تمدد الصراعات المسلحة العربية واندلاع الاحتجاجات الشعبية وتعثر تطبيق اتفاقات الوحدة الوطنية وسيطرة الميلشيات المسلحة على أجزاء من أقاليم الدولة الوطنية، في انتشار الأسلحة بمختلف أنواعها، بحيث تحولت، في كثير من الأحيان، إلى سوق رائجة -وليست سوقاً سوداء كما كان الأمر في فترات سابقة- وهو ما يضعف بدرجة أكبر مناعة الاستقرار الإقليمي، نظراً لوجود مسببات أخرى تتعلق بتدخلات الأطراف الإقليمية غير العربية في الشئون الداخلية للدول العربية وتشكل اقتصاديات موازية من جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود الرخوة ورغبة القوى الدولية، سواء الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين أو الدول الأوروبية، في تصدير أسلحتها للمناطق المشتعلة، ويقع الشرق الأوسط في القلب منها.

وبوجه عام، عكس انتشار الأسلحة تفاعلات الإقليم خلال الربع الأخير من عام 2019، على النحو التالي:

محاربة الإرهاب:  

1-استهداف الجيوش النظامية مواقع عسكرية للقوى المناوئة: أعلنت القيادة العامة للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، في 13 ديسمبر الجاري، استهداف مواقع عسكرية في مدينة مصراتة، فضلاً عن تدمير شحنات كبيرة من الأسلحة والذخائر والمدرعات والمعدات العسكرية المتنوعة، قال البيان الصادر عنها أنها "من عدة منافذ تركية بحرية وجوية إلى المنافذ البحرية والجوية التي تسيطر عليها ميلشيات حكومة الوفاق، وهو ما يبدو أنه تنفيذ لالتزام تركيا تقديم دعم عسكري كبير ونوعي لتلك الميلشيات، مقابل شرط توقيعها على اتفاقية الحدود البحرية، التي تنازلت بموجبها حكومة الوفاق عن مصالح الشعب الليبي، ومصالح دول منطقة شرق البحر المتوسط".

فقد تتبع الجيش الوطني الليبي نقل تلك الشحنات من هذه المنافذ إلى مواقع تخزينها المختلفة، بما فيها الكلية الجوية بمدينة مصراتة، التي تم تخزين الطائرات المسيرة بها لاستخدامها ضده، فيما يخزن بعضها الآخر في مخازن شركات تجارية مدنية، ويقع بعضها قرب المناطق السكنية، وهو ما يعكس الدعم التركي الواضح لميلشيات الوفاق. وتم استهداف الشحنات الأخيرة بمواقع تخزينها بنجاح ودقة عالية، ونتج عنها انفجارات متتالية، واحتراق هناجر الطائرات التركية المسيرة.

مخازن الميلشيات:

2- تخصيص الميلشيات المسلحة المواقع المدنية لتخزين الأسلحة: وهو ما ينطبق على ميلشيا المتمردين الحوثيين في اليمن التي تحرص على دعم مخزونها العسكري بما يمكنها من مواجهة قوات الشرعية والتحالف العربي ويعزز من سيطرتها الميدانية، حيث قال المستشار منصور المنصور، المتحدث الرسمي باسم الفريق المشترك لتقييم الحوادث في اليمن، في مؤتمر صحفي في 17 ديسمبر الجاري، أن "معلومات وردت إلى قوات التحالف تفيد بسيطرة ميلشيات الحوثي على مبنى الإدارة العامة للأدلة الجنائية في العاصمة اليمنية صنعاء، لاستخدامه لدعم العمليات العسكرية وكمخزن للأسلحة".

وأضاف المنصور: "رصدنا نشاطات عسكرية في موقع مبنى الإدارة العامة للأدلة الجنائية في العاصمة اليمنية، ومنع المدنيين من دخول المبنى، وبذلك سقطت الحماية القانونية المقررة على المبنى، بسبب سيطرة ميلشيا الحوثي عليه، واستخدامه في الأعمال العسكرية"، إذ يعد تابعاً لقيادي بارز من ميلشيا الحوثي في مديرية الصفراء بمحافظة صعدة. ويستخدم هذا المبنى لعقد الاجتماعات لدعم النشاط العسكري، والمخزن التابع له يستخدم في تخزين العتاد والأسلحة لدعم جبهات القتال. ومن ثم، يصبح استهداف التحالف للمبنى متوافقاً مع القانون الدولي الإنساني.

أسواق الأسلحة:

3- انتشار محلات بيع الأسلحة في بؤر الصراعات المسلحة العربية: فعلى سبيل المثال، تشهد العاصمة اليمنية صنعاء انتشاراً كبيراً لمحلات بيع الأسلحة بمختلف أنواعها، وهو ما تغذيه الثقافة اليمنية المعززة لامتلاك السلاح للدفاع عن النفس والتفاخر الاجتماعي. وفي هذا السياق، تشير العديد من وسائل الإعلام المحلية اليمنية والعربية إلى ازدياد ظاهرة تجارة وبيع السلاح في الأسواق الشعبية والأماكن العامة بعد اقتحام العاصمة وسقوطها بيد ميلشيا المتمردين الحوثيين.

ووفقاً لبعض الشهادات الميدانية، تتركز تجارة الأسلحة، التي تتمثل في قطع الكلاشنكوف والقنابل والمسدسات المتنوعة والذخائر وبقية المستلزمات العسكرية، في مناطق مختلفة من صنعاء، من بينها جولة عمران شمال العاصمة، ومنطقة جحانة شرق العاصمة، وحى شميلة، والحصبة، وحزيز، والسنينة، ومذبح، وشارع خولان والصباحة، وصنعاء القديمة، وبات تجار الأسلحة يتعاملون بصورة عشوائية وغير خاضعة لأى رقابة أمنية أو قانونية، بحيث تحول كثير منهم من العمل في الحرف التقليدية وتجارة المنتجات اليدوية إلى بيع الأسلحة والذخيرة. كما أن انتشار هذه الأسلحة بهذا الشكل يعزز جرائم القتل ويهدد الحياة المدنية.

انقسام المنقسم:

4- تعثر الاتفاق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في الدول المنقسمة: على غرار  ما هو قائم بالنسبة لحالة جنوب السودان، حيث وقع الرئيس سلفاكير ميارديت وزعيم المعارضة رياك مشار اتفاق سلام في عام 2018، تحت ضغط من الولايات المتحدة والأمم المتحدة ودول في المنطقة، لإنهاء الحرب الأهلية التي استمرت خمس سنوات، وخلّفت أكثر من 400 ألف قتيل، فضلاً عن تشريد نحو 4 ملايين من النازحين، واتفقا على تشكيل حكومة وحدة وطنية بحلول 12 نوفمبر عام 2019. غير أن ذلك لم يتحقق ولم يتم حسم القضايا العالقة بين الطرفين.

وفي هذا السياق، أعلن سلفاكير، في 17 ديسمبر 2019، عقب محادثات استمرت ثلاثة أيام مع مشار في العاصمة جوبا أنه تم التوصل إلى اتفاق بشأن تشكيل حكومة وحدة وطنية، بحلول فبراير 2020، مع حل جميع خلافاتهما التي أدت إلى تعثر محادثات السلام. وتجدر الإشارة إلى أن الطرفين يختلفان حول تعيين بعض الحدود وتجميع المقاتلين ودمجهم في جيش موحد، تنفيذاً لبند رئيسي في اتفاق السلام، ويُحمِّل كل منهما الطرف الآخر المسئولية عن عدم تنفيذ اتفاق السلام حتى الآن، خاصة فيما يتعلق بدمج القوات المقاتلة المختلفة.

تعدد الجيوش:

5- تعقد حسم الترتيبات الأمنية في المراحل الانتقالية: وينطبق ذلك على الحالة السودانية بعد سقوط نظام عمر البشير وتقاسم السلطة بين المجلس العسكري والقوى المدنية (وفي القلب منها قوى الحرية والتغيير) في أغسطس الماضي لبدء مرحلة الانتقال السياسي من الثورة إلى الدولة. وفي هذا السياق، قال رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك في ملتقى أهل السودان التفاكري بشأن السلام (نظمته المفوضية القومية للسلام)، المنعقد بالخرطوم في 13 ديسمبر الجاري: "جئنا إلى السلطة قبل 3 أشهر مهتدين بشعار الثورة العظيم (حرية، سلام، وعدالة) ووضعنا 10 أولويات في الفترة الانتقالية، على رأسها السلام، وبدونه لن نحقق التنمية والاستقرار والديمقراطية".

وأكد حمدوك أن "ملف الترتيبات الأمنية مهم لحسم مسألة تعدد الجيوش التي أضرت بالبلاد، ويجب أن نصل إلى مرحلة يكون السلاح في يد الدولة، حتى تستطيع بناء جيش وطني واحد يعبر عن إرادة كل السودانيين، ويتيح فرصاً أكبر لتحقيق الاستقرار والأمن". فعلى الرغم من أهمية المحاور الرئيسية للرؤية الحكومية لعملية السلام، والتي تتمثل في التنمية الاقتصادية ورفع مستوى قطاعات الصحة والتعليم والبنى التحتية، وهو ما عبر عنه حمدوك بالاحتياج لمشروع مارشال لتعمير ما دمرته الحرب في المناطق التي تأثرت بالنزاعات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، إلا أن ملف السلام يحظى بأولوية خاصة.

وطبقاً لرؤية الحكومة الحالية، فإن السلام في المرحلة المقبلة (عام 2020) يجب أن يرتكز على مخاطبة جذور الأزمة ووضع حد لمعاناة السودانيين في معسكرات النازحين واللاجئين، ومعالجة التنمية غير المتوازنة والتهميش والهوية، مع ضرورة حسم ملفات التعويضات وإجراء المصالحات الاجتماعية وجبر الضرر. غير أن التحدي الأكبر يتعلق بدعم مشروع السلام مع الحركات المسلحة، لاسيما أن لديها مخزوناً من الأسلحة يمثل مهدداً رئيسياً لعدم الاستقرار في البلاد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يوجد سقف للمفاوضات بين الحكومة وتلك الحركات للوصول إلى سلام حقيقي ومستدام.

وتجدر الإشارة هنا إلى رفض قوى الحرية والتغيير، في 17 ديسمبر الجاري، طلب تلك الحركات بتأجيل تشكيل المجلس التشريعي وتعيين الولاة المدنيين إلى 20 فبراير المقبل، لإكمال هياكل السلطة الانتقالية في البلاد. ويتوازى مع ذلك تنفيذ قانون تفكيك نظام البشير، وحل حزب المؤتمر الوطني، وجميع الأجسام والواجهات السياسية الموالية للنظام مع الحرص على منع امتلاك أى قوى لأسلحة، بحيث يظل السلاح حصراً بيد الدولة فقط، وإن كان ذلك يحتاج وقتاً.

الهيبة الهشة:

6- استغلال قوى مجتمعية أجواء الفوضى بعد استمرار الاحتجاجات الشعبية: ولعل العراق حالة معبرة عن ذلك، إذ شهدت ساحة الوثبة الواقعة وسط بغداد، في 12 ديسمبر الجاري، حادثة قتل شخص وإحراق منزله وتعليق جثته على أحد أعمدة الكهرباء، بعد مقتل 5 متظاهرين بالرصاص. وفي هذا السياق، ذكر رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي في بيان أن "حادثة الوثبة أكدت رؤيتنا (…) عن وجود مجموعات منظمة تمارس القتل والترويع وتعطيل الدولة تحت غطاء التظاهر"، ثم دعا قوات الأمن إلى حمل السلاح "لحماية ساحة التظاهر وإعادة هيبة الدولة".

كما قال أحمد الصافي، ممثل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، خلال خطبة الجمعة في 13 ديسمبر الجاري، أن "تلك الحوادث، وما تكرر خلال الأيام الماضية، من حوادث الاغتيال والاختطاف، تؤكد مرة أخرى، أهمية ما دعت إليه المرجعية الدينية مراراً من ضرورة أن يخضع السلاح، كل السلاح، لسلطة الدولة". ولعل ذلك يشير بوضوح إلى أن هناك خطراً يتهدد العراق خلال المرحلة المقبلة يتعلق باستمرار وجود العديد من الأسلحة خارج سيطرة الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية. بل إن هناك تقارير إعلامية تسلط الضوء على المسدسات كاتمة الصوت التي استخدمت في اغتيال نشطاء سياسيين في بغداد وكربلاء وميسان.

خلاصة القول، إن إشكاليات انتشار الأسلحة في دول اليمن وليبيا والسودان وجنوب السودان والعراق تمثل مرآة كاشفة لما يحدث في الإقليم ومنها استهداف الجيوش النظامية مواقع عسكرية للقوى المناوئة من الحكومات المدعومة من الميلشيات المسلحة والجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية، وتوظيف الميلشيات المسلحة المواقع المدنية بتحويلها إلى مخازن للأسلحة، وانتشار محلات بيع الأسلحة في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وتعثر الاتفاق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في الدول المنقسمة، وتعقد حسم الترتيبات الأمنية في المراحل الانتقالية، واستغلال قوى مجتمعية أجواء الفوضى بعد استمرار الاحتجاجات الشعبية.