حماية أردوغان:

الأهداف المستترة وراء تمسك تركيا بصفقة "إس 400"

29 July 2019


عرض: وفاء الريحان - باحثة في العلوم السياسية

تدخل العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا مرحلة جديدة من التوتر مع تسلم الأخيرة شحنات منظومة الدفاع الجوي الروسية (إس 400)، إذ أعلنت إدارة الرئيس "دونالد ترامب" أنها ستفرض عقوبات قاسية على أنقرة لتقاربها العسكري مع خصم ومنافس استراتيجي لواشنطن (روسيا)، منها إنهاء مشاركتها في برنامج الطائرات (إف 35) المتقدمة. 

وفي محاولة للحد من هواجس الأمريكيين من استلام تركيا لمنظومة الدفاع الروسية، أوضح عدد من المسئولين الأتراك أن تلك الصفقة تهدف إلى توفير نظام دفاعي جوي وصاروخي جديد، لتعدد المخاطر الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تؤثر على الأمن القومي تركيا، ويضيفون أنه لا توجد أسباب لأي قلق أمريكي.

وفي هذا الإطار، يحاول "كريم هاس" (الباحث السياسي المتخصص في شئون آسيا وأوراسيا) في دراسة بعنوان "تركيا، وروسيا، وأزمة إس 400 التي تلوح في الأفق" نُشرت بمعهد الشرق الأوسط في العاشر من يوليو الجاري، كشف أسباب قيام أنقرة بحيازة قدرة عسكرية في حجم (إس 400) من خصم تاريخي لها في السابق، واحتمالات مواجهة تركيا مزيدًا من التداعيات الدولية المؤثرة على توجهاتها الجيوسياسية في المستقبل نتيجة ذلك الإجراء.

تقارب وعقوبات 

يوضح الباحث أنه في أعقاب الأزمة التي حدثت بين تركيا وروسيا في نوفمبر 2015، عندما قامت الأولى بإسقاط طائرة مقاتلة للثانية بالقرب من حدودها مع سوريا، حدث تقارب بين البلدين بدءًا من يونيو 2016. ودخلت العلاقات الثنائية بينهما مرحلة جديدة، تصدرت فيها الشئون الإقليمية -خاصة الأزمة السورية- جدول الأعمال. كما أصبحت المشكلات الإقليمية المعقدة (مثل: الإرهاب، والمسألة الكردية، ودولة العراق الهشة، ودور إيران المتنامي في المنطقة، وغيرها..) عوامل هامة في العلاقات متعددة الأبعاد بين أنقرة وموسكو.

وقد برز قطاعا الأمن والدفاع كمجالين رئيسيين للتعاون الثنائي بينهما؛ واتضح ذلك في قدرتهما على إدارة خلافاتهما في القضايا السابقة، وفي قيامهما بالتفاوض حول منظومة الدفاع (إس 400) في خريف عام 2016، والتي تقدر بنحو 5,2 مليار دولار.

وأشار الباحث إلى أنه بمجرد إعلان الاتفاق بين الدولتين على شراء تركيا منظومة (إس ٤٠٠) الروسية، تسارعت ردود الفعل الأمريكية، إذ بدأت الولايات المتحدة في الضغط على حليفها الاستراتيجي في المنطقة، والعضو بحلف شمال الأطنلطي (الناتو) للتراجع عن شراء المنظومة الروسية. وأصرّت واشنطن على تعليق مشاركة الشركات التركية في مشروع الطائرات المقاتلة (إف 35)، وهو ما يُمثّل خسارة بمليارات الدولارات لها. وهددت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أيضًا بمنع مبيعات تلك الطائرات إلى أنقرة، رغم أنه كان من المخطط شراؤها أكثر من 100 طائرة من ذات الطراز خلال السنوات القادمة.

وعلى صعيد آخر، هدّد الكونجرس الأمريكي تركيا بفرض عقوبات اقتصادية إضافية عليها، وفق قانون "مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات" "CAATSA" لعام 2017، وهي الخطوة التي من شأنها أن تلحق الضرر بصناعة الدفاع والقطاع المصرفي التركي.

مَن الرابح؟

يرى الباحث أن إقدام تركيا على شراء منظومة الدفاع (إس 400) يتعارض مع مصالحها الخاصة، وأنه سيرتب ثلاث عواقب رئيسية، من شأنها أن تؤثر على توجهها الجيوسياسي، تتمثل فيما يلي:

أولًا- أن منظومة (إس 400) لا تتوافق مع أنظمة الأسلحة والرادار التابعة لحلف شمال الأطلنطي، والموجودة داخل تركيا. وتلك حقيقة يعترف بها المسئولون الأتراك. ويشير "كريم" إلى أن موسكو رفضت طلب أنقرة بالوصول إلى الرموز الإلكترونية والبيانات الداخلية للمنظومة الدفاعية. مما يعني أن نظام تحديد هوية الأصدقاء أو العدو سيُظهر على الأرجح جميع الطائرات في المجال الجوي التركي كأشياء غير معروفة باستثناء الطائرات التركية الخاصة.

وعلى هذا المنوال، اعتبر "كريم" أن ذلك سيحد من قدرتها على القضاء على التهديدات الخارجية المحتملة، مما يزيد من خطر أن يؤدي التعرف الخاطئ على الطائرات إلى نزاع عسكري. ويضيف أنه مما لا شك فيه، أن منظومة (إس 400) لن تتعامل مع التهديدات المحتملة من روسيا وحلفائها في المنطقة مثل أرمينيا وسوريا وإيران.

ويذهب "كريم" إلى أنه رغم عرض تركيا على الولايات المتحدة إنشاء مجموعة عمل مشتركة لإزالة مخاوفها المتعلقة بالمخاطر المحتملة التي تُمثلها منظومة الدفاع الروسية على الطائرات (إف 35) الأمريكية، فإن ذلك لن يجعل الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" أو أي شخص آخر في مأمن من تدخل عسكري أمريكي محتمل. 

ثانيًا- تعتبر الدراسة أن المنظومة الدفاعية الجديدة لن تُساهم في تطوير صناعة الدفاع التركية، بل إنها قد تتركها في وضع أسوأ، حيث أعلنت روسيا بشكل متكرر أن صفقة (إس 400) لا تنص على نقل التكنولوجيا الحيوية إلى أنقرة، رغم أن تلك المزايا شكّلت كثيرًا من المبررات التركية للتفاوض مع موسكو في البداية. 

ومن ثم يرى الباحث أن انتقادات تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الصاروخي الأمريكي "باتريوت"، وتفضيلها (إس 400) بدلًا منها، لا تستند إلى نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك كما ادعت أنقرة. وهو ما يراه معيارًا مزدوجًا في تقييم العروض الأمريكية والروسية.

ثالثًا- يوضح "كريم" أن المستفيد الأول من الصفقة هي روسيا، التي تعمّدت إتمام الصفقة لإحداث خلاف حاد بين تركيا وحلف شمال الأطلنطي "الناتو"، حيث إن قيام موسكو ببيع صواريخ إلى دولة عضو في حلف "الناتو"، ولاعب رئيسي في شئون الشرق الأوسط، بمثابة فوز كبير للاستراتيجية الروسية، ويُسهم في تعزيز مكانة موسكو الدولية، وسلطاتها في المنطقة التي تعد منطقة نفوذ أمريكية منذ عقود طويلة. 

السيادة الوطنية أم ضرورات الواقع؟

يرى "كريم" أن صفقة (إس 400) ليست مسألة سيادة وطنية كما يدّعي العديد من المسئولين الأتراك. فهي لا تعدو كونها مجرد خيار عملي بدون أي أساس استراتيجي عقلاني.

واعتبر الباحث أن شراء تركيا منظومة (إس 400) يُمهد لسيناريو غير مُستبعد، حيث قد يتحول "الدعم الفني" للجيش الروسي ببطء إلى وجود عسكري دائم على أراضي تركيا. ويضيف أن تزايد اعتماد أنقرة على موسكو سيُعيق مساعيها لتحقيق مصالحها في مناطق متنوعة مثل القوقاز، والقرم، والبحر الأسود، والبلقان، والشرق الأوسط، وشرق البحر المتوسط. 

المصالح الاستراتيجية مقابل الشخصية

حاول "كريم" في دراسته إيجاد تفسير دقيق لسبب تصميم تركيا على الحصول على منظومة (إس 400). وقد أرجع ذلك إلى عدد من العوامل، منها الأزمة الحاكمة التي تعانيها منذ أكثر من نصف عقد، بدءًا من احتجاجات "متنزه غيزي" عام 2013، وانتهاءً بالانتخابات البلدية التي جرت بإسطنبول في يونيو الماضي. بالإضافة إلى الأزمة المالية الضخمة التي تواجهها الحكومة، وتهديدات التنظيمات الإرهابية المتواجدة على أراضي سوريا، والمشكلة الكردية.

لذا يعتبر الباحث أن صفقة (إس 400) شكل من أشكال "الرشوة السياسية"، أو بمثابة دفعة مقدمة لضمان الدعم الروسي إذا واجه "أردوغان" تحديًا لحكمه على غرار ما حدث في فنزويلا أو سوريا، برغم ما قد تؤدي إليه من فرض عقوبات أمريكية، تُسبب مزيدًا من التدهور في الاقتصاد التركي، وتسارع الاحتجاجات في الشارع.

وختامًا، يرى الباحث أن من الصعوبة بمكان أن تنسحب الحكومة التركية من صفقة (إس 400) لعدة أسباب، أولها: أنها لم تحصل على ضمانات من الولايات المتحدة وشركائها الغربيين بضمان بقائها السياسي على المدى الطويل. وثانيها: أنه لا يمكن للقيادة التركية الحالية أن تتنبأ برد فعل روسيا إذا ما انهارت الصفقة. وثالثها: أن الفصائل المختلفة من القوميين والموالين لـ"أردوغان" وغيرهم داخل النخبة الحاكمة في الوقت الحالي لديهم مصالح متباينة من توقيع الصفقة، وبالتالي فإن الإلغاء المحتمل قد يطلق صراعًا داخليًّا على السلطة. 

المصدر:

Kerim Has, “Turkey, Russia, and the Looming S-400 Crisis”, Middle East Institute, July, 2019.