تصعيد جديد:

لماذا قررت إيران تخفيض مستوى التزاماتها النووية؟

13 May 2019


بدأت إيران في محاولة ممارسة ضغوط مضادة على القوى الدولية المعنية باستمرار العمل بالاتفاق النووي الذي توصلت إليه مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015. ورغم أنها لم تخرج من الاتفاق، فإن الإجراءات التي اتخذتها، في 8 مايو 2019، مع حلول الذكرى الأولى للانسحاب الأمريكي من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها، توجه إشارات متواصلة تفيد أن هذا الاحتمال أصبح أكثر ترجيحًا عن ذي قبل، لا سيما مع مهلة الستين يومًا التي منحتها للقوى الدولية من أجل اتخاذ إجراءات جديدة لمواصلة التعاملات المالية والتجارية معها قبل الإقدام على خطوة تصعيدية جديدة بداية من 8 يوليو القادم.

اعتبارات عديدة:

يمكن تفسير إقدام إيران على اتخاذ قرارات بالاحتفاظ بكمية اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% التي تزيد عن 300 كيلو جرام والمياه الثقيلة التي تزيد عن 130 طن وعدم بيعها في الأسواق الدولية وفقًا لما جاء في الاتفاق النووي، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- استنفاد الخيارات: يمكن القول إن طهران لم يعد لديها الكثير لتخسره بعد اتخاذ تلك الإجراءات، باعتبار أن الإجراءات العقابية الأمريكية أوصلت الخسائر التي تعرضت لها إيران إلى ذروتها بالفعل، حيث قلصت إلى حد كبير من العوائد التي كانت تطمح الأخيرة في الحصول عليها من الاتفاق النووي، خاصة ما يتعلق بتخفيض مستوى الصادرات النفطية الإيرانية وعرقلة التعاملات التجارية والمصرفية مع الخارج، فضلاً عن فرض عقوبات على صادرات المعادن وعلى التعاون في بعض المجالات المرتبطة بالبرنامج النووي.

وبعبارة أخرى، فإن إيران تدرك أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذت، والتي يمكن أن تتصاعد حدتها خلال الستين يومًا القادمة، في حالة ما إذا قررت تفعيل المرحلة الثانية منها برفع مستوى التخصيب إلى أكثر من 3.67% وإعادة تشغيل مفاعل "آراك" الذي يعمل بالمياه الثقيلة ويمكنه إنتاج البولوتونيوم، لن تنتج مزيدًا من الضغوط الدولية عليها، باعتبار أن هذه الضغوط قائمة بالفعل بسبب العقوبات الأمريكية، بما يعني أنه في حالة ما إذا قررت الدول الأوروبية، على سبيل المثال، فرض عقوبات جديدة عليها، فإن ذلك لن يزيد من مستوى التأثيرات التي تتعرض لها بالفعل بسبب العقوبات الأمريكية.

2- تراجع تأثير العلاقات السياسية: تراجع رهان إيران بشكل كبير على علاقاتها السياسية مع الدول الأوروبية، والتي تحسنت بشكل ملحوظ في مرحلة ما بعد الوصول للاتفاق النووي، على نحو بدا جليًا في مسارعة تلك الدول إلى إرسال وفود تجارية إلى طهران لتوقيع صفقات اقتصادية جديدة، وفي الزيارات التي قام بها الرئيس حسن روحاني إلى بعض العواصم الأوروبية على غرار روما وباريس وفيينا. إذ بدأت مساحة الخلافات بين الطرفين في الاتساع خلال الشهور الأخيرة، على خلفية الاتهامات التي توجهها الدول الأوروبية لإيران بمحاولة تنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها تستهدف بعض رموز قوى المعارضة الإيرانية في الخارج، حيث اتجه بعضها، مثل فرنسا، إلى تبني إجراءات عقابية في هذا الصدد ضد بعض الوحدات المرتبطة بجهاز الاستخبارات الإيرانية، فضلاً عن بعض الأشخاص الإيرانيين المتورطين في تلك المحاولات.

كما لم تستجب إيران للمطالب الأوروبية الخاصة بإجراء مفاوضات حول برنامجها الصاروخي أو وقف الأنشطة الخاصة بتطويره، أو التدخل من أجل دعم الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات سياسية للأزمات الإقليمية المختلفة.

ويتوازى ذلك بالطبع مع الانتقادات المستمرة التي توجهها إيران إلى الدول الأوروبية بالتقاعس عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي، خاصة ما يتعلق برفع مستوى التعاملات التجارية والمصرفية، وتفعيل ما يسمى بآلية "انستكس" لاحتواء تداعيات العقوبات الأمريكية، حيث كان لافتًا أن إيران استبقت إجراءاتها الأخيرة بتأكيد أن مستوى التزامات الدول الأوروبية في الاتفاق النووي لا يتعدى نسبة 1% حسب ما جاء على لسان وزير الخارجية محمد جواد ظريف في 4 مايو الجاري.

ومن هنا، يمكن تفسير الجدل الذي تصاعد بين إيران والدول الأوروبية بعد الإعلان عن الإجراءات التصعيدية الإيرانية الأخيرة، حيث دعت الأخيرة إلى ضرورة الحفاظ على الاتفاق النووي ومواصلة تنفيذه، وهو ما رد عليه وزير الخارجية جواد ظريف بتأكيد أن على تلك الدول التقيد بالتزاماتها بدلاً من مطالبة إيران بذلك.

3- ضغوط متتالية: تطمح طهران في أن تساهم الإجراءات المضادة التي بدأت في اتخاذها في تقليص هامش المناورة المتاح أمام الدول الأوروبية تحديدًا، خاصة في حالة ما إذا تبعتها إجراءات تصعيدية جديدة قد تنتج ضغوطًا قوية على تلك الدول، تدفعها، وفقًا لتلك الطموحات، سواء إلى رفع مستوى التعاملات التجارية والمالية مع إيران أو إلى التدخل لدى الإدارة الأمريكية من أجل تقليص حدة العقوبات التي فرضتها ضدها. 

وهنا، كان لافتًا أن إيران حرصت على موازاة إجراءاتها التصعيدية الأخيرة بالتلويح بملفات أخرى قد تخدم أهدافها في هذا السياق، على غرار السماح بعبور موجات من اللاجئين من أراضيها إلى الدول الأوروبية والتغاضي عن أنشطة تهريب المخدرات، التي تصل إلى أراضي تلك الدول، حيث تعتبر إيران أحد أكبر الممرات الرئيسية للمخدرات في العالم كما أنها من أكثر الدول المستلهكة لها.

ومن دون شك، فإن طهران تسعى من خلال ذلك إلى تبني السياسة نفسها التي سبق أن اتبعتها تركيا في مواجهة الدول الأوروبية، وهى السياسة التي تقوم على استغلال ملف اللاجئين لابتزاز الدول الأوروبية من أجل انتزاع تنازلات من جانبها في ملفات خلافية أخرى.

واللافت هنا أيضًا أن إيران حاولت استغلال هذا الملف عندما لوحت بأن الإحراءات العقابية الأمريكية سوف تؤدي إلى تقليص حجم العوائد التي تحصل عليها من صادراتها النفطية وبالتالي ستؤثر على التمويل المسموح به لاستضافة اللاجئين الأفغان على أراضيها، وهو ما أشار إليه مساعد وزير الخارجية عباس عراقجي، في 8 مايو الجاري.

ورغم أن وسائل إعلام إيرانية عديدة قريبة من النظام، على غرار صحيفة "كيهان" ووكالة أنباء "تسنيم"، وجهت انتقادات قوية للتصريحات التي أدلى بها عراقجي في هذا الصدد، على نحو يشير إلى أنها حاولت عبرها الإيحاء بأن تلك التصريحات لا تعبر عن السياسة الرسمية للدولة، فإن ذلك لا ينفي أن إيران قد تقدم على اتخاذ خطوات في هذا السياق بالفعل، خلال المرحلة القادمة، خاصة أنها سبق أن حاولت ابتزاز الأفغان المقيمين على أراضيها للضغط على بعضهم من أجل الانضمام للميليشيات الطائفية التي قامت بتكوينها وتدريبها في سوريا للمشاركة في الصراع العسكري إلى جانب النظام السوري، وفي مقدمتها ميليشيا "فاطميون"، حيث كانت تهدد بطردهم في حالة ما إذا رفضوا ذلك.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن مرحلة جديدة من التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية سوف تبدأ، خاصة مع قيام الأخيرة بإرسال حاملة الطائرات "أبراهام لينكولن" وبعض القاذفات من طراز "بي 52" إلى المنطقة، والتي تهدف من خلالها إلى منع إيران من الإقدام على أية خطوة محتملة قد تحاول من خلالها رفع كلفة تلك الإجراءات العقابية التي تتعرض لها، وهو ما يمكن أن يفرض بدوره تداعيات مباشرة على دول الأزمات، لا سيما سوريا والعراق ولبنان واليمن، وهى الدول التي تسعى طهران إلى استغلال نفوذها لدى بعض الميليشيات الإرهابية الموجودة بها في سياق تصعيدها الحالي مع واشنطن.