حراك ديموغرافي:

لماذا تزايدت ظاهرة "ترييف المدن" في المنطقة العربية؟

21 February 2019


تتمثل أحد ملامح التفاعلات التي شهدتها المنطقة العربية خلال الأعوام الماضية في كثافة انتقال السكان من مناطق إلى غيرها، وبصفة خاصة من الأرياف إلى المدن، وخاصة الرئيسية منها، على نحو حوَّل تلك المدن إلى تجمعات سكانية مكتظة أفقدتها عددًا كبيرًا من الخصائص الحضرية المميزة لها، فيما يطلق عليه في الأدبيات "الترييف الحضري" أو "ترهل المدن"، وهو ما يمكن تفسيره استنادًا إلى جملة من العوامل، منها ازدياد تهميش المناطق الطرفية، وتركز فرص العمل في المدن الكبرى، وسيطرة الميلشيات المسلحة على السلطة السياسية، وتأسيس القواعد الخلفية للجماعات والتنظيمات الإرهابية، ودعم بقاء النظم السياسية في مواجهة القوى المناوئة.

هجرة قروية:

لم تكن ظاهرة الترييف Ruralization في المدن العربية حديثة العهد بل تعود إلى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين حينما حدثت زيادة سكانية متسارعة ترتبت عليها حركة نزوح من الريف إلى المدن في دول عربية عدة، وفي الوقت ذاته لم تكن هذه المدن مهيأة لاستقبال هؤلاء النازحين سواء أكان ذلك مرتبطًا بتوفير مناطق سكنية أو أنشطة عملية أو خدمات عامة، وهو ما انعكس بشكل مباشر على الحياة الحضرية في تلك المدن، فيما يطلق عليه في الأدبيات "عوامل الطرد القسرية في مواجهة عوامل الجذب الكامنة".

غير أن الأبعاد السياسية كانت محددًا حاكمًا في بعض الفترات لدفع فئات بعينها للنزوح من الريف إلى الحضر. فقد أدت الممارسات العنيفة التي انتهجتها الحكومات العراقية في عهد نظام صدام حسين إلى إجبار قطاعات واسعة من الأكراد، لا سيما بعد الحرب العراقية- الإيرانية، على التهجير والانتقال إلى مراكز حضارية أخرى مثل مدينة السليمانية. كما عمل النظام العراقي الأسبق على ترييف معظم المدن بعد نقله مئات الآلاف من الأرياف إلى المدن، خاصة الأميين وأنصاف المتعلمين الذين تم تجنيدهم في الجيش والمخابرات والشرطة، عبر توطينهم في مراكز المدن بتسهيلات كبيرة لحماية أمنه.

كما كانت إحدى الظواهر اللافتة في سوريا خلال عهد حافظ الأسد انتقال أهل الريف إلى المدن، على نحو برز جليًا في حمص ودمشق نظرًا لتركز الكلية الحربية في حمص وقيادة الفرق العسكرية والدوائر الحكومية في دمشق، بما يساهم في دعم أمن النظام، لدرجة أنه تم استحداث أحياء داخل المدن وعلى تخومها، وهو ما استمر في حكم الأسد الإبن، إذ أقيمت ما عرف بـ"مخيمات البؤس" خلال الفترة (2006-2009)، والتي كان من أبرز أسبابها موجة الجفاف التي ضربت البلاد فضلاً عن سياسات أخرى مرتبطة بسلوكيات النظام. كما تصنف العديد من المدن السورية على أنها أرياف كبيرة، ويغلب النمط الريفي على حياة سكانها. وقد حملت التحولات التي شهدتها المنطقة العربية بعد عام 2011 أبعادًا عاكسة لظاهرة ترييف المدن، ومنها سوريا، حيث كان الريف المحرك الأساسي للثورة في درعا ودوما وبانياس وإدلب وأغلب ريف دمشق وريف حلب لمواجهة نظام بشار الأسد.

مظاهر مختلفة:

هناك جملة من المؤشرات العاكسة لظاهرة ترييف المدينة العربية، في حالات مختلفة، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تزايد الإسكان العشوائي وغير المخطط: خاصة في المدن العربية الكبرى، حيث يبادر المهاجرون الجدد إلى إنشاء مساكن بعيدة عن قوانين البناء التي تفرضها الأجهزة المحلية أو المؤسسات البلدية، وتفتقر للحد الأدنى من الخدمات العامة والبنى التحتية (من شبكة طرق وتوزيع المياه والكهرباء والصرف الصحي)، ويطلق عليها في تلك المدن تسميات مختلفة منها "المناطق العشوائية" و"العشش" و"مدن الصفيح" و"أحزمة الفقر"، على نحو ما هو قائم في دول عربية عدة منها المغرب والعراق.

2- انتشار النشاط التجاري غير المنظم: تؤدي الزيادة السكانية السريعة، لا سيما في ظل تفاوت واضح بين أعداد السكان وفرص العمل المتاحة في المدينة، إلى ارتفاع نسب الفقر ومعدلات البطالة، وهو ما يقود قطاعًا من العاطلين عن العمل إلى ممارسة أنشطة تجارية غير رسمية (اقتصاد الظل)، لا تخضع لرقابة الدولة، ولا توفر مظلة حماية اجتماعية للعاملين بها، على نحو تشير إليه تجارة الرصيف والباعة الجائلين بواسطة السيارات المتنقلة في كثير من المدن العربية بل وفي قلب العاصمة في بعض الأحيان.

3- ظهور تجمعات قروية وروابط عشائرية: حيث تأخذ شكل الأحياء المنعزلة داخل المدن العربية والتي يتحدد قاطنوها بناءً على الانتماء إلى عائلات وعشائر محددة، وهو ما يشير إلى محافظتهم على العلاقات السابقة على قدومهم للمدينة من ناحية وضعف الاندماج في محيطهم الاجتماعي الحضري الجديد من ناحية أخرى.

4- المحافظة على ممارسة الأنشطة الفلاحية: ولعل أبرز تلك الأنشطة يتمثل في إنشاء زرائب المواشي داخل الأحياء السكنية، وتكوين حظائر لتربية الدواجن على أسطح البيوت، بما يحوِّل المدن العربية إلى مجتمعات ريفية قروية بكل عاداتها وسلوكياتها، وما ينطوي عليه من تأثيرات بيئية وصحية، فضلاً عن المساس بالقيمة الجمالية لبعض المدن العربية ذات الطبيعة التاريخية والتراثية.

5- غياب الساحات والمرافق العامة: إذ يلاحظ أن الاكتظاظ السكاني الناتج عن هجرة مراكز لتجمع السكان القادمين من الريف إلى مراكز في الحضر يؤدي إلى اختفاء أو تراجع المساحات التي يمكن تخصيصها لتكون مرافق عامة، وخاصة الحدائق والملاعب، وهو ما يغير شكل الحياة الاجتماعية والثقافية ويؤثر على الرفاهية السكانية، وقد يمثل ضغطًا على المرافق الخدمية في المدن المستقبلة، على نحو ما عانت منه دمشق بعد أحداث 2011.

عوامل متعددة:

يمكن تفسير تنامي ظاهرة "ترييف" المدن العربية الكبرى عبر حزمة من العوامل، تتمثل في:

1- ازدياد تهميش المناطق الطرفية: دعت بعض قوى الاحتجاج في السودان إلى ضرورة تنمية بعض مناطق الأطراف، على نحو يفسر تعهد الرئيس عمر البشير، في خطاب أمام تجمع في ولاية شمال كردفان في 3 فبراير الجاري، بالعمل على تطوير المناطق الريفية في مختلف أنحاء السودان عبر توفير مياه شرب نظيفة وفتح مستشفى جديد في المنطقة. وقد جاء هذا الخطاب في أعقاب تدشين طريق سريع طوله 340 كيلومترًا يربط شمال كردفان بأم درمان. وفي هذا السياق، قال الرئيس البشير: "بناء طريق كهذا ليس أمرًا سهلاً في ظل ظروف السودان، ومع هذا الطريق سنأتي بشبكة كهرباء لإنشاء بنية تحتية للتنمية".

2- تركز فرص العمل في المدن الكبرى: تشير بعض الأدبيات إلى أن حركة النزوح من الأرياف إلى المدن ترجع إلى أن القرى لا تتوافر بها فرص عمل أو مشروعات، باستثناءات محدودة، مقارنة بما توفره المدن. بعبارة أخرى، يعد التباين بين الريف والحضر أحد المحددات الرئيسية للهجرة والتي تعمل على توسع المدن نظرًا لتركز الخدمات في المراكز الحضرية وتحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي ينعكس على ارتفاع معدلات نمو السكان في المدن وتناقص السكان في الريف.

3- سيطرة الميلشيات المسلحة على السلطة السياسية: وهو ما يبدو جليًا في حالة اليمن، منذ استيلاء المتمردين الحوثيين على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، حيث أدت ممارساتهم إلى لجوء أعداد كبيرة من اليمنيين إلى دول أخرى، في الوقت الذي كان قطاع عريض من اليمنيين يفضل الإقامة في عواصم المدن الحضرية. وقد أضاف هذا النزوح الإجباري أعباءً كبيرة على المناطق الريفية، وخاصة تلك القريبة من عواصم المدن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحوثيين حوّلوا المدن إلى أرياف مصغرة، واتخذوا بعض القرى الريفية ممرات لأسلحتهم التي يستقدمونها من المناطق الشمالية في البلاد لخوض المواجهات المسلحة في المناطق الجنوبية.

4- تموضع القواعد الخلفية للجماعات والتنظيمات الإرهابية: تشير تحركات شبكات الإرهاب في المغرب إلى اختيارها المناطق المتاخمة للمدن، سواء في مراكش أو فاس أو طنجة، بهدف تنشيط عملياتها وتهديد حياة المواطنين الآمنين، وهو ما تكشف عنه بلاغات تفكيك الخلايا الإرهابية خلال السنوات الأخيرة، حيث يتضح أن عمليات الاستقطاب بدأت داخل تلك المناطق التي تعد بعيدة نسبيًا عن رقابة الأجهزة الأمنية من ناحية، وفي الوقت نفسه ترتبط جغرافيًا بالمدن القريبة.

5- دعم بقاء النظم السياسية في مواجهة القوى المناوئة: على نحو ينطبق على النظام السوري الذي أجرى تغييرات في بنية المدن الصناعية والتجارية الرئيسية، بتشجيع سياسة "ترييف المدن". فقد نشأت في العاصمة وبعض المدن أحياء جديدة من سكان محسوبين على الطائفة العلوية مثل "حى المزة" و"حى تشرين" في دمشق، وحى "الزهراء" في حمص، ومساكن "هنانو" في حلب، والتي تحولت إلى الدفاع عن بقاء النظام في تلك المدن.

جهود مناوئة:

نظرًا لتلك المظاهر والأسباب، تبذل حكومات عربية عديدة جهودًا حثيثة لمواجهة "ترييف المدن"، حيث أطلقت الحكومة المغربية عدة استراتيجيات تستهدف مختلف القطاعات الإنتاجية كالصناعة (مخطط التسريع الصناعي 2014-2018) والفلاحة (مخطط المغرب الأخضر 2008-2020) بما أدى إلى تحسين القيمة المضافة للقطاع الفلاحي وتقليص حركة النزوح من الريف إلى المدن.

هجرة معاكسة:

خلاصة القول، لقد تسارعت عملية تضخم المدن العربية، ليس نتيجة الزيادة الطبيعية في معدلات نمو سكان المدن فحسب، بل بسبب الهجرات من المدن الداخلية إلى مراكز المحافظات، ومن المحافظات الصغيرة إلى المحافظات الكبيرة، ومن المناطق الأقل نموًا إلى المناطق الجاذبة تنمويًا، وهو ما ساهم بدوره في نمو مناطق عشوائية وأحياء مخالفة للتخطيط العمراني المنظم، والتي اكتسبت شكلاً طرفيًا ثم تحولت بمرور الزمن إلى قلب المدن الكبرى، على نحو يستدعي التفكير في كيفية "مدننة الريف"، بحيث تتيح التنمية الريفية الفرصة للسكان للعودة إلى مناطقهم الأصلية.