صدمة روما:

ماذا يعني "النصر الجديد" لليمين المتطرف في الانتخابات الإيطالية؟

08 March 2018


تُعد نتائج الانتخابات الإيطالية صدمة جديدة للوحدة الأوروبية، إذ يأتي صعود اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في إيطاليا في خضم تحولات ضاغطة عصفت لفترة طويلة باستقرار الاتحاد الأوروبي، يتمثل أهمها في هيمنة التيارات اليمينية على رئاسة حكومات اليونان والمجر وبولندا، والمشاركة في الحكومات الائتلافية في فنلندا والنرويج والسويد، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتزايد الاتجاهات المعادية للهجرة وحرية الانتقال عبر حدود الدول الأعضاء في الاتحاد. وبحصد اليمين المتطرف مكاسب مهمة في الانتخابات الإيطالية ستتمكن هذه التيارات من تَرَؤُّس أو على أقل تقدير المشاركة في الحكومة الائتلافية في ثالث أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو مما ستترتب عليه تداعيات داخلية وإقليمية ودولية مهمة.

سياقات الانتخابات:

جاءت هذه الانتخابات عقب استقالة رئيس الوزراء "ماتيو رينتسي" قائد يسار الوسط في أعقاب عدم تمكنه من الحصول على الدعم الشعبي في استفتاء عام أُجري على بعض التعديلات الدستورية، وقد عين رئيس الدولة "سيرجيو ماتاريلا" وزير الخارجية "باولو جينتلوني" رئيسًا لحكومة تسيير الأعمال حتى انعقاد انتخابات مبكرة.

وقد تم الاعتماد في هذه الانتخابات على نظام انتخابي جديد مختلط، حيث يُنتخب حوالي ثلث المقاعد في غرفتي البرلمان بالنظام الفردي (الأغلبية النسبية)، بينما الثلثان من خلال التمثيل النسبي، ويحفز هذا النظام على الدخول في تحالفات لتقليل التنافس على المقاعد الفردية، وقد رُوِّج له إعلاميًّا على أنه يحقق قدرًا أكبر من الاستقرار السياسي في إيطاليا التي تُعاني من عدم استقرار الحكومات، بيد أن هذا النظام يقلل من قدرة القوى الرئيسية على الحصول على الأغلبية، حيث يجب إقامة تحالفات بين القوى المتنافسة لتشكيل الائتلاف الحكومي. 

صعود اليمين:

لم تتمكن أي من القوى الثلاث الرئيسية من الحصول على الأغلبية، وتراجعت القوى السياسية التقليدية، سواء من يمين الوسط أو يسار الوسط.

الشكل رقم (1): نتائج الانتخابات العامة الإيطالية لعام 2018 في مجلس النواب والشيوخ

 وقد حصل ائتلاف اليمين على المركز الأول، ويضم هذا الائتلاف: حزب يمين الوسط (Forza Italia) "إلى الأمام إيطاليا" بزعامة رئيس الوزراء الأسبق برلسكوني، و"حزب الرابطة" (رابطة الشمال سابقًا) اليميني المتطرف الذي يقوده "ماتيو سالفيني"، ويتبنى شعار "إيطاليا أولًا"، ولديه توجهات معادية للاتحاد الأوروبي والهجرة، كما يضم حزب "إخوة إيطاليا" وهو قومي محافظ. وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي التي عُقدت قبيل الانتخابات قد أكدت تصدر حزب "إلى الأمام إيطاليا" في الائتلاف اليميني؛ إلا أنه على النقيض من ذلك حصل "حزب الرابطة" على أعلى الأصوات داخل الائتلاف.

وجاء في المرتبة الثانية "حزب حركة 5 نجوم" الشعبوي بنسبة 32.22% ليصبح أكبر حزب مستقل بعيد عن أي ائتلاف من حيث عدد الأصوات، وقد أسس الحزب الممثل الكوميدي "بيبي جريللو" عام 2009، وقد أطلق عليه اسم "5 نجوم" نظرًا لأنه يدافع عن خمس قضايا، وهي: المياه العامة، والنقل المستدام، والتنمية المستدامة، والحق في الوصول للإنترنت، وحماية البيئة.

ويتزعمه حاليًّا "لويجي دي مايو" البالغ من العمر 31 عامًا، ويعد أكثر وسطية من "جريللو" مؤسس الحزب. وبصفة عامة يروج الحزب لنفسه باعتباره بديلًا عن الأحزاب التقليدية، ويتشكك في جدوى الاندماج الأوروبي، بينما جاء "ائتلاف يسار الوسط" الحاكم الذي يتزعمه الحزب الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء السابق "ماتيو رينتسي" في المرتبة الثالثة، حيث حصل على 18.9% فقط من الأصوات.

الشكل رقم (2): مقارنة بين نتائج انتخابات مجلس النواب في عامي 2013 و2018


قضايا ضاغطة:

يُمكن رصد ثلاث قضايا أساسية هيمنت على الحملات الانتخابية لم تكن السياسة الخارجية جزءًا منها، ويمكن القول إن القوى الرئيسية قد قدمت وعودًا من الصعب تحقيقها، وهي:

1- الهجرة: حظيت قضية الهجرة بجدل واسع النطاق خلال هذه الانتخابات، لا سيما مع تزايد تدفقات المهاجرين الضخمة عبر المتوسط إلى إيطاليا، وقد تعرض منهج حكومة يسار الوسط في التعامل مع قضية الهجرة لانتقاد من قبل ائتلاف اليمين وحزب "حركة 5 نجوم"؛ حيث انتقدوهم بأنهم لم يقوموا بإيقاف نهائي لتدفقات المهاجرين zero landing، ولم يتبعوا استراتيجية الإعادة القسرية.

بينما اعتمد ائتلاف اليمين على خطاب سياسي مناهض للهجرة، فوصف بيرلسكوني الهجرة بأنها "قنبلة اجتماعية جاهزة لأن تنفجر"، بينما رفع "حزب الرابطة" شعار "أوقف الغزو"، ووعد الائتلاف بترحيل ٦٠٠ ألف مهاجر غير شرعي، والسيطرة على الحدود. وهو نفس النهج الذي اتبعه حزب "حركة 5 نجوم"، حيث حمّل الاتحاد الأوروبي مسئولية الأزمة، وألقى اللوم على الدول الأوروبية التي ترفض التعاون مع إيطاليا، ودعا الحزب إلى مراجعة اتفاقية "دبلن" التي تنص على وجوب تقديم المهاجرين لطلبات لجوئهم في أول دولة يصلون إليها في الاتحاد الأوروبي، وذلك بتوزيع طالبي اللجوء على الدول الأوروبية، وقد طالب الحزب الديمقراطي أيضًا بإلغاء اتفاقية دبلن، وقطع المعونات عن الدول الرافضة لتحمل العبء، بيد أن "الخمس نجوم" يتبنون خطاباً بين المهاجرين لأسباب اقتصادية واللاجئين السياسيين فبينما يطالبون بطرد الفئة الأولى ، فإنهم يرحبون بالفئة الثانية.

2- الاتحاد الأوروبي: طرح حزبا "العصبة" و"حركة 5 نجوم" فكرة الاستفتاء على الخروج من اليورو، لكنهما تدريجيًّا قاما بالتخلي عنها، ويشترك ائتلاف اليمين وحزب "حركة ٥ نجوم" في رفض السياسات التقشفية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الدول التي تعاني من ارتفاع الدين، وضرورة إعادة مراجعة اتفاقيات الاتحاد الأوروبي بما في ذلك الاتفاق المالي الأوروبي (Fiscal compact) الذي يضع قواعد أكثر صرامة فيما يتعلق بالموازنة، أما ائتلاف يسار الوسط فكان بمثابة المؤيد الوحيد للاتحاد الأوروبي، ولكنه دعا أيضًا إلى التفاوض بشأن الاتفاق المالي الأوروبي.

3- القضايا الاقتصادية: لم يتعافَ الاقتصاد الإيطالي بعد من أزمة منطقة اليورو. وفي هذا الإطار، قامت الأطراف الرئيسية في الانتخابات بطرح وعود تؤدي لزيادة الإنفاق بنسب متفاوتة، يرى البعض صعوبة تحقيقها، ومنها مثلًا طرح ائتلاف اليمين فرض ضريبة ثابتة على الدخل. 

دلالات النتائج:

يمكن رصد العديد من الدلالات للانتخابات الإيطالية، سواء على مستوى الداخل الإيطالي أو الصعيد الأوروبي:

1- الانقسامات الجغرافية: تُظهر نتائج الانتخابات انقسامًا جغرافيًّا واضحًا، فقد حصل حزب "حركة ٥ نجوم" على معظم الأصوات في الجنوب، في ظل أزمة ارتفاع معدلات البطالة في الجنوب، والشعور بالتهميش من روما وبروكسل، لا سيما مع تعهد الحزب بتقديم دخل أساسي لمن هم دون خط الفقر، وهو ما جاء متوافقًا مع توجهات ناخبي المناطق الفقيرة في الجنوب.

بينما حصد "حزب الرابطة" أصوات الشمال ليتخطى حزب "إلى الأمام إيطاليا"، بل ويحصل على مقاعد في معقل الحزب الديمقراطي شمال روما، وساعده على ذلك خطابه المعارض للهجرة والداعي للتعامل بقوة معها، وسعيه للحفاظ على القانون والنظام، مما وجد صدى لدى الدوائر الانتخابية في الشمال.

الشكل رقم (3): نتائج انتخابات مجلس النواب الإيطالي وفق التوزيع الجغرافي

 

2- استمرار التصويت الاحتجاجي: تُرجع بعض الدراسات تزايد التصويت للأحزاب الشعبوية في أوروبا إلى ما يعرف بظاهرة التصويت الاحتجاجي نتيجة الغضب من السياسات الحكومية تجاه الهجرة، والتعامل مع الأزمات الاقتصادية، وعدم الرضاء عن القيادات السياسية نتيجة فسادها أو عدم كفاءتها.

وفي هذا السياق، أكدت استطلاعات الرأي أن قضية الهجرة تأتي في اهتمام 36% من الإيطاليين وفقًا لاستطلاع رأي أُجري في مايو 2017، يضاف إلى عدم الرضاء عن الوضع الاقتصادي خاصة في الجنوب، فحوالي 46٪ من الإيطاليين يعتبرون الأزمة الاقتصادية الخطر الأول وفقًا لاستطلاع للرأي عام 2016. 

3- تراجع تيار الوسط: يعاني التيار الرئيسي الوسطي والذي سيطر على السياسة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من تراجع كبير، حيث تتكبد التيارات الرئيسية في السياسة الأوروبية، سواء يسار الوسط أو يمين الوسط، خسائر في الانتخابات، وقد بدأ ذلك في الدول الصغيرة، ويمتد الآن إلى الدول الأكبر في أوروبا.

تداعيات متوقعة:

يُرجَّح أن تترتب على نتائج الانتخابات في إيطاليا عدة تداعيات على الصعيد الداخلي والإقليمي، ويتمثل أهمها فيما يلي: 

1- حكومة غير مستقرة: ستشهد إيطاليا فترة من عدم الاستقرار السياسي في ظل عدم حصول أي قوى على الأغلبية، وقد يمتد التفاوض حول تشكيل الحكومة لعدة أشهر، ففي أعقاب انتخابات 2013 استمر التفاوض بشأن تشكيل الحكومة لمدة 63 يومًا، ويوجد عدد من الاحتمالات المقبولة نظريًّا لتأمين الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، وإن كانت جميعها في هذه المرحلة لا تبدو سهلة أو مقبولة على الصعيد السياسي، ويجمع كافة هذه الاحتمالات قاسم مشترك هو ضرورة مشاركة "حزب الرابطة" أو حزب "حركة 5 نجوم" في الحكومة، ومن هذه الاحتمالات ما يلي:

أ- تحالف بين "حركة 5 نجوم" الشعبوية وحزب الرابطة اليميني المتطرف: يتفق الحزبان في مواقفهما فيما يتعلق بالعديد من القضايا، بيد أن "ماتيو سالفيني" زعيم "حزب الرابطة" أكد أحقيته في تشكيل الحكومة بعد فوز ائتلاف اليمين بأعلى الأصوات. ففي هذه المرحلة لا يظهر قبوله بأن يصبح الشريك الأصغر في الحكومة. ويُعد هذا السيناريو هو الأسوأ للاتحاد الأوروبي. 

ب- التحالف بين "حركة ٥ نجوم" ويسار الوسط: ويمنع تحقق هذا الاحتمال رفض عناصر من الحزب الديمقراطي الدخول في مثل هذا التحالف، فمثلًا أعلن "رينتسي" صراحة رفضه أي تحالف محتمل مع "حركة ٥ نجوم". 

ج- تحالفات اليمين: فقد يلجأ اليمين واليسار لإجراء تحالف بمشاركة "حزب الرابطة"، أو قد يحدث تحالف بين ائتلاف اليمين وحزب "حركة ٥ نجوم".

2- انتخابات جديدة: وقد يحدث هذا السيناريو في حال وصول الأمر لطريق مسدود واستمرت المفاوضات حول تشكيل الحكومة لمدة طويلة، فقد يختار الرئيس "سيرجيو ماتاريلا" بقاء حكومة يسار الوسط الحالية برئاسة "باولو جينتيلوني" أو تعيين حكومة مؤقتة إلى حين الدعوة لانتخابات جديدة في محاولة للخروج من المأزق، ولكن في الغالب ستأتي بنتائج مشابهة. 

3- العداء للاتحاد الأوروبي: من المتوقع أن يضم التحالف الحكومي بعض الأحزاب المعادية للاتحاد الأوروبي والرافضة للعملة الأوروبية الموحدة اليورو، بيد أن بعض التحليلات تقلل من خطر هذه الأحزاب على الوحدة الأوروبية، حيث لم يدعُ أي منها للخروج من الاتحاد الأوروبي، كما تراجع بعضها عن الدعوة للاستفتاء للخروج من اليورو، ويضيف البعض وجود حالات مماثلة تراجعت حدة انتقادها للاتحاد الأوروبي بمجرد وصولها إلى سدة الحكم، لكن ذلك لا يقلل من كونها تشكل معادلة صعبة داخل الاتحاد الأوروبي في ظل سعيها للحصول على قدر أكبر من الاستقلال في إدارة شئونها المالية، وفي الهجرة والحدود، ورفضها المزيد من الاندماج الأوروبي.

ختامًا، قد يفرض وصول هذه التيارات إلى سدة الحكم في إيطاليا مزيدًا من الضغوط على الاتحاد الأوروبي للتعامل مع قضية الهجرة، ولتعديل القواعد المالية التي تفرض قيودًا على الموازنة. وقد يكون التأثير الأكبر على الخطط الفرنسية-الألمانية التي تدعو لمزيد من الاندماج لإخراج الاتحاد الأوروبي من أزمته.