قوة العقول:

مداخل تحفيز الاقتصادات النامية عبر "الابتكار التكنولوجي"

23 December 2017


عرض سها إسماعيل - باحثة في العلوم السياسية

اتجه العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين نحو التوسع في استخدام شبكة المعلومات العنكبوتية (الإنترنت) وتطبيقاتها مع التقدم المستمر في البحث العملي، لنشهد طفرات في عالم الابتكار والتكنولوجيا، والتي انعكست على قطاعات الاقتصاد، والصناعة، والصحة، والزراعة، بشكل إيجابي وتقدمي. وقد تناول الباحثون تلك الظاهرة بالرصد والتحليل، فوصفها بعضهم بالثورة الصناعية الرابعة.

وفي هذا السياق، تأتي أهمية تقرير بعنوان: "الابتكار يقود النمو الاقتصادي.. تحول الغد لاقتصاديات الدول النامية من خلال التكنولوجيا والابتكار"، والذي يبحث الأهمية الاستراتيجية للابتكار والتكنولوجيا في تقديم حلول غير تقليدية للتحديات العالمية، لا سيما مع تنامي الطلب على الغذاء والطاقة والمياه، وكيفية تعزيز التحضر العالمي. ويحاول إعادة رسم الصورة الذهنية للدول الغنية باعتبارها لا تحتكر مقدرات الابتكار، وإنما بحاجة إلى قوى العقول من جميع أنحاء العالم من أجل تقديم حلول للتحديات العالمية المشتركة، ومشاركة وتوزيع الأعباء الدولية. 

وهذا التقرير نتاج جهد جماعي من قبل باحثين مرموقين في المجال الأكاديمي، وهم: "دانيال إف روند" مدير مشروع الازدهار والتنمية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، و"إيرول يايبوك" مدير مشروع قيادة الولايات المتحدة للتنمية ومشروع الازدهار والتنمية بالمركز، و"تشالز رايس" الباحث المشارك بمشروع الازدهار والتنمية. وقد تناول ثلاث قضايا مركزية لمساهمة الابتكار والتكنولوجيا في تطوير اقتصاديات الدول النامية، وقدم ثلاث حالات دارسة لتوضيح ذلك.

الاستثمار في التعليم:

أشار التقرير إلى أن الاستثمار الأمثل في التعليم يكمن في عدة محددات، هي: ملء الفجوة المعرفية، وتخفيف حدة الأمية، وتسهيل الوصول إلى مؤسسات وأدوات التعليم التي تتمتع بالجودة والكفاءة. وأضاف أن التعليم الأساسي يُمثِّل القاعدة الرئيسية للتمكين الاقتصادي، وتعزيز الإنتاجية؛ حيث إنه يدفع بقوة للانتقال من مستوى الدخول المنخفضة إلى مستوى الدخول المتوسطة. وتحدث التقرير عن أن تكنولوجيا الإنترنت توفر فرصًا متميزة لتعليم قطاع عريض من المهمشين.

وعن الدول التي استطاعت أن تملأ الفجوات المعرفية الخاصة بالمهارات، وترغب في الانتقال من شرائح أقل في متوسط الدخل إلى شرائح أعلى، فقد أشار التقرير إلى أن ذلك يتطلب إنشاء نظام تعليمي يُنتج عمالًا ذوي مهارات معرفية متخصصة تشارك في الاقتصاد الحديث، حيث يدعم خطط التنمية الاقتصادية، ويلبي احتياجات التصنيع. 

وعن رأس المال البشري أوضح الباحثون أن تنميته تنبع من مدى التواصل بين النظام التعليمي والنظام الصناعي والتجاري، من خلال تبادل المعلومات حول الاحتياجات والمهارات المطلوبة، وتحقيق الاستجابة المناسبة، مما يعزز من مساهمة رأس المال البشري في السياسات التكنولوجية للابتكار والدفع قدمًا بعجلة النمو الاقتصادي. 

وأضاف أن الجهات المانحة (مثل: وكالات التنمية الثنائية والمتعددة، والمنظمات غير الحكومية) تلعب دورًا هامًّا في تقديم خبرة التواصل والربط بين النظام الصناعي والتعليم، والوقوف على تطوير رأس المال البشري للاستجابة لاحتياجات النظام الاقتصادي الحديث.

الارتقاء بالبحث العلمي:

على الرغم من عدم وجود نموذج موحد لتعزيز البحث العلمي وجهود التطوير، فإن التقرير أشار إلى أن هناك مجموعة من السمات والأصول التي تُمكِّن الدول من الارتقاء بمخرجات البحث والتطوير، ومن ثمّ التوجه نحو سياسات الابتكار والتكنولوجيا، وتحفيز النمو الاقتصادي، ويتم ذلك وفق محددات هي: تطوير البنية التحتية والاستثمار فيها، والاهتمام برأس المال البشري والنظام التعليمي، والتواصل بينهم وبين احتياجات الصناعة وسوق العمل، والعمل على تحويل المعرفة إلى فرص تجارية واقتصادية تُشكِّل في محصّلتها استجابة مناسبة لاحتياجات السوق جنبًا إلى جنب مع تنمية رأس المال البشري، والإنفاق على البحث والتطوير والهندسة من خلال تطوير نموذج تجاري مستدام وإدارة فعالة للموارد.

بالإضافة إلى الاستفادة من الخبرات والاقترابات الدولية في مجالات البحث والتطوير، وتحويلها إلى فرص تجارية واقتصادية، حيث يمكن للدول النامية الاستفادة من بعض الدروس في هذا الاتجاه، لا سيما في سياق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

التمكين نحو الابتكار:

اقترحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ثلاث رؤى لإصلاح البيئة المنظمة للابتكار، هي: تنظيم البيئة الاقتصادية لتحسين كفاءة وفعالية السوق، وتنظيم البيئة الاجتماعية لصحة المجتمع، وتنظيم البيئة الإدارية للتحكم في البيروقراطية وقواعد العمل في القطاع العام والخاص. وعلى الرغم من خصوصية مجتمع واقتصاد كل دولة؛ إلا أن هناك مخرجات عامة متفقًا عليها حول تحفيز سياسات الابتكار.

وحثّ التقرير صناع القرار على ضرورة إدراك أهمية تأثير السياسات على التغير التكنولوجي، والمنافسة، وتذليل العقبات، وتنسيق التنظيم الدولي لتشجيع تدفق الأفكار والنشاط الاقتصادي. وأضاف أن تحول الدول إلى مستويات أعلى في التنمية يتطلب مزيدًا من الاستثمارات في الابتكار والتكنولوجيا، وحرية تدفق وحركة كلٍّ من رأس المال البشري والبنية التحتية والتجارة والعمالة في تحسين مستوى الابتكار والإبداع. ويتطلب ذلك من صناع القرار تنظيم وتنسيق صياغة السياسات المحلية والوطنية التي تدعم الابتكار والإبداع، والاستثمار في التعليم العالي، ورفع إنتاجيته من العمالة الماهرة القادرة على المشاركة في سياسات الابتكار والإبداع في المستقبل وبشكل مستدام، مما يسرع من وتيرة النمو الاقتصادي والازدهار، ويمتد ليصل إلى الشرائح الأكثر فقرًا في الدولة.

حالات الدراسة:

تناول الكاتب ثلاث حالات دراسة لتوضيح كيف تحول اقتصاد عدد من الدول النامية من خلال الابتكار، وهي:

أولًا- كينيا: تركزت جهودها في تطوير وإصلاح نظام التعليم الأساسي والثانوي من حيث الجودة، والمساواة، وتغطية خدماته لقطاع عريض من السكان، بالإضافة إلى تنظيم البيئة التجارية، وتطوير البنية التحتية مما يجعلها وجهة المبدعين وأصحاب المشاريع والاستثمارات، فضلًا عن استمرار نموها الحضري، مما قد يجعلها تواجه مزيدًا من التحديات حول الغذاء والطاقة والمياه والصحة، لكن تقدمها المتميز في أنظمة الاتصالات يحفز الابتكار والتصنيع، مما قد يُسهم في تمويل قطاعات الصحة والزراعة.

ثانيًا- ماليزيا: قفزت الدولة اقتصاديًّا بشكل يسترعي الانتباه، فشتان بين حالها عام 1970 حيث ما يقرب من نصف السكان يعيشون على أقل من 1 دولار يوميًّا، وحالها في الآونة الأخيرة، حيث أقل من 4% يعيشون تحت خط الفقر الوطني. وحاليًّا، تسعى كوالامبور إلى تحديث اقتصادها، والانتقال إلى شرائح الدول الأعلى في الدخول، وزيادة الميزة التنافسية له، وتكثيف جهود البحث والتطوير، وإعادة هيكلة مؤسساتها بما يُعزز من مقدراتها التكنولوجية والإبداعية في المستقبل.

ثالثًا- ولاية كجرات في الهند: امتلكت حكومة طموحة تتميز بالكفاءة، استطاعت تحويل الاقتصاد، وإدارة الموارد العامة بشكل فعال، ولا تزال تعاني من فجوات في التنمية البشرية، لا سيما التعليم والفقر، رغم أنها استطاعت خفض معدل الفقر الريفي إلى النصف، إلا أن ذلك بحاجة إلى مزيد من الجهود والوقت للحفاظ على ما تم إنجازه، واستكمال المسيرة.

وتسعى الولاية إلى تشجيع المستثمرين وأصحاب المشاريع على التوجه نحو إنتاج السلع والخدمات ذات الصلة بالتكنولوجيا والابتكار مما يحقق التنمية والنهضة الشاملة، حيث معظم أنشطتها التجارية والاقتصادية عائلية وتقليدية، فضلًا عن تتابع التحديات والحاجة الملحة إلى بحث وتقديم حلول غير تقليدية ترتبط بالتكنولوجيا والابتكار، وتؤدي إلى مزيدٍ من الاندماج في الاقتصاد ذي القيمة المضافة العالية.

وختامًا، قدم التقرير رؤية استراتيجية، تتركز حول المعرفة، وإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية، والربط بين مخرجات النظام التعليمي ومدخلات النظام الصناعي وسوق العمل، وكذلك الاهتمام بالنواحي الإبداعية وتطوير رأس المال البشري، وإعادة هيكلة المؤسسات المنوطة بتيسير الإجراءات والمتطلبات للمشاركة بأعمال ومشروعات ذات مخرجات تتمتع بقاعدة تكنولوجية وحس ابتكاري، بالإضافة إلى تكثيف جهود البحث والتطوير حول الفرص والتكلفة لاتباع سياسات الابتكار، واستخدام التكنولوجيا، والاندماج في اقتصاد المعرفة والقيمة المضافة. وفي ظل التوجه عالميًّا لإتاحة ومشاركة بعض الخبرات التكنولوجية، ينبغي على الدول النامية الاستفادة منها، وتعزيز مقدراتها، من أجل مستقبل مختلف وغير تقليدي.

F. Runde, Erol Yayboke, and Charles Rice, Innovation led Economic Growth: Transforming Tomorrow's Developing Economies Through Technology and Innovation, Center for Strategic and International Studies, September 2017