استعادة النفوذ:

دوافع الوساطة الفرنسية في الأزمة اللبنانية

28 November 2017


في أعقاب الاستقالة المفاجِئة لرئيس الوزراء اللبناني "سعد الحريري"، في الرابع من نوفمبر الجاري،  لعبت فرنسا دورًا محوريًّا في حلّ الأزمة الناتجة عن تلك الاستقالة التي أثارت الكثير من التساؤلات والاعتراضات التي وصلت إلى حدِّ توقّع قيام حرب إقليمية وشيكة. فلم تألُ باريس جهدًا في حلها، بداية من البيانات الرسمية التي تؤكد ضرورة استقرار لبنان، مرورًا بزيارة الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، في التاسع من الشهر الجاري، للقاء ولي العهد "محمد بن سلمان"، ثم توجُّه وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" إلى الرياض، لبحث الوضع مع ولي العهد. وقد تكلل التدخل الفرنسي بزيارة "الحريري" وأفراد من عائلته باريس في الثامن عشر من نوفمبر الجاري. وفي أعقاب تلك الزيارة عاد "الحريري" إلى لبنان، وتراجع عن الاستقالة.

أسباب الوساطة:

يرجع التدخل الفرنسي لحل أزمة استقالة رئيس الوزراء اللبناني "سعد الحريري"، إلى عدة أسباب من أهمها:

1- استعادة فرنسا دورها الرائد في المنطقة بلعب دور الوساطة ارتكازًا على علاقاتها الوثيقة بالطوائف الثلاث الأساسية في لبنان (السنة، والشيعة، والموارنة)، إلى جانب العلاقات المتميزة مع المملكة العربية السعودية بصفة خاصة ودول مجلس التعاون الخليجي بصورة عامة.

وفي هذا السياق، يذكر "دوني بوشار" (الخبير في قضايا منطقة الشرق الأوسط بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية)، أن دور باريس سيكون الأكثر قبولًا في الفترة الحالية، والأقل إثارة للمشاكل، في وقت تثير فيه السياسة الأمريكية المخاوف، مع ضمور بريطاني بسبب "بريكست"، وتنحي ألمانيا جانبًا -إلى حدٍّ ما- بسبب سياستها الداخلية.

2- أن "الحريري" يحمل الجنسية الفرنسية، وله اتصالات واسعة بالأوساط السياسية الفرنسية ورجال الأعمال. 

3- ترحيب الداخل الفرنسي بالدور الفرنسي في الأزمة اللبنانية، حيث شكّل سببًا إضافيًّا دفع "ماكرون" للعب دور الوساطة، خاصة تأييد "مارين لوبان" زعيمة اليمين المتطرف، الذي يأتي في خضم المعتقدات التقليدية لحزب الجبهة الوطنية بضرورة حماية مصالح الأقليات في لبنان خاصة المسيحيين، واضطلاع باريس بدور رئيسي في تهدئة الاحتراب الطائفي. فوفقًا للوبان فإن الحفاظ على استقرار لبنان أمر ضروري للحفاظ على الأقليات هناك، بالإضافة إلى تدعيم دولة يغلب فيها الإسلام الوسطي في منطقة تتصاعد فيها سطوة الحركات الراديكالية التكفيرية.

4- أن العلاقات الجيدة بين فرنسا من جهة، والمملكة العربية السعودية ولبنان من جهة أخرى، لم تشكل عائقًا أمام "ماكرون" ووزير خارجيته "جان إيف لودريان" من إقامة اتصالات موسعة مع إيران من أجل احتواء الأزمة. وبذلك شكّل غياب المعارضة الإقليمية الحقيقية للدور الفرنسي سببًا مشجعًا لقيام باريس بدور الوساطة على الرغم من استغراب "علي أكبر ولايتي" (مستشار المرشد الأعلى الإيراني للشئون الدولية) للدور الفرنسي الموسّع في الأزمة.

آليات الوساطة:

قامت فرنسا باتباع العديد من الأساليب والإجراءات من أجل لعب دور الوسيط بالطريقة المثلى، ومنها:

1- إعلان "ماكرون" أنه سيستقبل "الحريري" باعتباره رئيس وزراء لبنان، وليس كمنفيٍّ أو كهارب، لعدم إثارة حفيظة بعض الدول مثل روسيا والصين. وفي سياق متصل، أعلن "كريستوف كاستنار" (المتحدث باسم الحكومة الفرنسية) أن "ماكرون" يشجع "الحريري" على اتخاذ أي قرارات يراها مناسبة لكن وهو في وطنه لبنان. وتهدف تلك الآلية إلى استبعاد أي شبهة عن باريس من شأنها اتهام قادتها بالتدخل في شئون الدول.

2- إسناد رسم خطة التحرك لمسئولين رفيعي المستوى متخصصين في الشئون اللبنانية، وهي من الآليات الهامة التي استعانت بها باريس قبل وأثناء اتخاذ خطوات جدية في الأزمة. وتلك الآلية منتشرة في الدول الديمقراطية بصفة عامة؛ حيث لا ينحصر اتخاذ القرار في شخص الرئيس وإن كان هو السلطة العليا لاستصدار القرارات النهائية.

وفي هذا السياق، استعان "ماكرون" برئيس إدارة الأمن الخارجي "برنارد إيمييه"، وهو سفير سابق ببيروت في استصدار البيانات ووضع استراتيجيات التعامل مع الأزمة. كما استقى معلومات مفصلة عن القوى الأساسية الفاعلة في الأزمة بمشاوراته مع "أورليان لوشوفالييه"، الرجل الثاني في التسلسل الهرمي للدبلوماسية الفرنسية ومدير المعهد الفرنسي بلبنان من 2010 إلى 2013. كما أرسل الرئيس الفرنسي "شوفالييه" إلى بيروت بداية شهر نوفمبر من أجل تقريب وجهات النظر بين الطوائف المختلفة في لبنان بهدف تخفيف حدة الاحتقان فيما بينها. 

وقد تميزت الآليات الفرنسية لإدارة الأزمة بدرجة كبيرة من الاحترافية، والتي تُوِّجَت بعودة "الحريري" إلى لبنان، وإعادة النظر في موضوع الاستقالة.

نتائج الوساطة:

أدت الوساطة الفرنسية -كما أشرنا- إلى تخفيف حدة الأزمة عن طريق عودة "سعد الحريري" إلى لبنان، وإجرائه مباحثات مع الرئيس اللبناني "ميشال عون" حول مستقبل نظام الحكم والمشكلات في لبنان. كما أدت أيضًا إلى إضافة مزيدٍ من الشرعية للرئيس الفرنسي الجديد بعد ترحيب "مارين لوبان" بالخطوات التي اتخذها "ماكرون"؛ حيث قالت زعيمة حزب الجبهة الوطنية: "أعتقد أن "ماكرون" أصاب. فدور الوساطة الذي تلعبه فرنسا في تلك القضية هو بالضبط ما يجب على باريس أن تفعله في هذا النوع من المسائل".

وعلى المستوى الإقليمي، رحبت المملكة العربية السعودية على لسان وزير خارجتها "عادل الجبير"، بعودة "الحريري" للبنان، حيث أثنى على الجهود الفرنسية في هذا الإطار. وفي السياق ذاته، أكد الرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي" تقديره لجهود الإليزيه، واصفًا أسلوب إدارة الأزمة بالإدارة الناعمة لأزمة محتقنة.

وتتمثل أهم نتائج الوساطة الفرنسية لحل أزمة استقالة "سعد الحريري" في عدم التصعيد الإيراني، وقبول طهران تلك الوساطة على الرغم من أن الخاسر الأكبر من تلك الأزمة هو "حزب الله" اللبناني. فحزب الله يكاد يجد نفسه في مأزق بعد تأكد المجتمع الدولي من شروعه في استبعاد "الحريري"، سواء سياسيًّا أو تصفيته جسديًّا، كما وجد نفسه متهمًا مسبقًا بأي قلاقل قد تُصيب بلاد الأرز.

في الختام، إن توصيف المشكلة الحقيقية للبنان تاريخية، ولا يمكن إرجاعها إلى أزمة استقالة "الحريري" الأخيرة؛ حيث إنها ذات طابع سوسيولوجي عميق، وليست فقط مشكلة سياسية يتم حلها داخل أروقة الحكومات والمجالس النيابية.