مسارات محتملة:

الوساطة الجزائرية لتسوية الأزمة الليبية.. الرؤية والتحركات

09 March 2017


تُكثِّف الجزائر من تحركاتها لتسوية الأزمة الليبية، من خلال تواصلها مع أطراف الأزمة خاصة بالمنطقة الشرقية بعدما كانت تُركز تحركاتها في السابق على قوى الغرب في هذا البلد. كما رفعت أيضًا مستوى التنسيق السياسي والأمني مع تونس لتسويتها، حيث أعلنت الدولتان في (6 مارس 2017) عن توصلهما إلى اتفاق للتعاون الأمني بشأن ليبيا، وتعزيز التشاور بينهما فيما يتعلق بتسوية الأزمة هناك.

وتستهدف الجزائر من تحركاتها المكثفة لحلحلة الأزمة الليبية ترجمة رؤيتها لدفع عملية الحل السياسي على أرض الواقع بما يحول دون تجدد الحرب الأهلية وعودة الأزمة إلى مربع الصفر، والتي ستكون لها آثار سلبية على الجزائر، وذلك بعد مرور أكثر من عام على الاتفاق السياسي الليبي المُوَقَّع عليه من قبل أطراف الأزمة الليبية في (17 ديسمبر 2015) بمدينة الصخيرات دون تنفيذ بنوده على أرض الواقع.

أبعاد الرؤية

تنطلق الرؤية الجزائرية لدفع الحل السياسي في ليبيا، وتعديل اتفاق الصخيرات من مجموعة من الثوابت، يتمثل أبرزها في الآتي:

1- مشاركة كافة الأطراف الليبية الفاعلة دون استثناء في عملية الحوار والمسار السياسي الجاري في البلاد، لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتعديل الاتفاق السياسي الليبي.

2- إشراك كوادر النظام الليبي السابق وأنصاره في عملية الحوار السياسي، انطلاقًا من أنهم يتمتعون بقدر من الثقة السياسية والنفوذ لدى المجتمع الليبي؛ بما قد يُسهم في إتمام عملية المصالحة الوطنية.

3- إنشاء مجلس عسكري أعلى يتولى منصب القائد الأعلى للجيش الليبي ويمارس مهامه، ويضم في تشكيلته ثلاثة أطراف هي: أعضاء من المجلس الرئاسي، وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب "عقيلة صالح"؛ وذلك لمعالجة أزمة انقسام القوات المسلحة الليبية، وكمخرج لمعضلة من يتولى قيادة الجيش الليبي التي تُعد إحدى نقاط الخلاف الأساسية بين قوى الشرق الليبي الداعمة لحفتر من جهة، والقوى الإسلامية في الغرب الرافضة لوجوده على رأس الجيش من جهة أخرى.

4- تفعيل دور الهيئات الليبية المنبثقة عن الاتفاق السياسي الليبي ودعم قدراتها، وهو ما يعكس الدعم الجزائري للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق وللمجلس الأعلى للدولة، والمهيمن عليهما من قبل الإسلاميين، واللَّذين يلقيان دعمًا من الغرب الليبي، إحدى مناطق النفوذ الأساسية للجزائر.

5- دعم قدرات الحكومة الليبية الشرعية، في إشارة إلى حكومة الوفاق الوطني؛ لتمكينها من مكافحة الإرهاب ووقف تدفق المهاجرين، ومواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعكس الرفض الجزائري للحكومات الأخرى القائمة، سواء الحكومة المؤقتة بالشرق برئاسة "عبدالله الثني" أو حكومة الإنقاذ السابقة بالغرب الليبي برئاسة "خليفة الغويل".

6- رفض كافة أنواع التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا، انطلاقًا من أنه لن يحل الأزمة بل يزيد من تعقيداتها.

طبيعة التحركات

يُمكن تناول طبيعة التحركات الجزائرية تجاه الأزمة الليبية على مستويين أساسيين هما:

المستوى الأول- مستوى أطراف الأزمة الليبية:

انتهجت الجزائر سياسة جديدة تقوم على بناء علاقات جيدة مع كافة الأطراف الليبية بما في ذلك قوى الشرق الليبي، ومن أبرز التحركات في هذا الصدد استقبالها للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة المشير "خليفة حفتر" في 18 ديسمبر الماضي (2016)، والتي سبقها استقبال "عقيلة صالح" وعدد من نواب البرلمان الليبي في 26 نوفمبر 2016. 

ويُعد ذلك تحولا في الموقف الجزائري من أطراف الأزمة الليبية، حيث يُعتبر استقبال المشير "حفتر" بمثابة اعتراف جزائري بثقل الجيش الوطني في الشرق، وأهمية وجود دور لـه في مستقبل هذا البلد؛ لإيجاد مخرج للأزمة الليبية المتعثرة. وهو ما ينطبق أيضًا على استقبالها رئيس مجلس النواب، وبحث إمكانية تطوير العلاقات البرلمانية بين البلدين.

كما تقوم الجزائر بالتواصل مع عدد من المسئولين الليبيين السابقين في عهد العقيد "معمر القذافي"، والشخصيات الليبية المعروفة بقربها من النظام السابق؛ للنظر في مدى إمكانية قيامهم بدور إيجابي في إتمام عملية المصالحة الليبية-الليبية. وتعتمد الجزائر في ذلك على استضافتها عددًا من كوادر وأنصار "القذافي".

المستوى الثاني- مستوى دول الجوار الليبي:

شارك وزير الشئون المغاربية والاتحاد الإفريقي الجزائري "عبدالقادر مساهل" في اجتماع ثلاثي مع وزيري خارجية مصر وتونس عُقد في تونس استمر لمدة يومين في 19 و20 فبراير الماضي (2017)، وتم خلاله التوصل إلى "إعلان تونس" الذي أكد رفض أي حل عسكري للأزمة الليبية، وأي تدخل خارجي في الشئون الداخلية لليبيا، وإشراك كافة الأطراف في عملية الحوار مهما كانت توجهاتهم أو انتماءاتهم السياسية، والعمل على ضمان وحدة مؤسسات الدولة المنصوص عليها في الاتفاق السياسي بما في ذلك الحفاظ على وحدة الجيش الليبي، والسعي الحثيث إلى تحقيق المصالحة الشاملة في إطار الحوار الليبي-الليبي بمساعدة من الدول الثلاث وبرعاية أممية.

كما رفعت الجزائر من مستوى تنسيقها مع تونس في الأزمة الليبية، خاصة وأن الدولتين تتبنيان وجهة نظر متقاربة تجاه كيفية حل الأزمة، وتقدمان دعمًا لتيارات الإسلام السياسي في ليبيا، حيث أعلنت الدولتان في 6 مارس الجاري (2017) عن توصلهما إلى اتفاق للتعاون الأمني بشأنها، وتعزيز التشاور بين البلدين فيما يتعلق بتسوية الأزمة الليبية.

وتعتمد الجزائر لإحداث اختراق بالأزمة الليبية، على استغلال نفوذ رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية "راشد الغنوشي" لإقناع قوى الإسلام السياسي الليبية بتغيير موقفها من الشخصيات الليبية المحسوبة على النظام السابق، والقبول بمشاركتهم في المرحلة المقبلة باعتبارهم قوة لا يُستهان بها، وتقديم تنازلات فيما يتعلق بالاتفاق السياسي الليبي.

وعلى الرغم من أن "الغنوشي" صرح في فبراير 2017 بأنه تم تكليفه من قبل الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة للتواصل مع الإسلاميين الليبيين، وإقناعهم بلعب دور إيجابي في حل الأزمة الليبية، فإن المفارقة أن أحمد أويحيى -مدير عام ديوان رئاسة الجمهورية الجزائرية- نفى في تصريح له في الشهر نفسه تكليف بلاده للغنوشي بذلك الدور.

دوافع التحرك

تستهدف الجزائر من تحركاتها تجاه الأزمة الليبية تحقيق مجموعة من الأهداف يتمثل أهمها في الآتي:

1- سرعة إيجاد حل سياسي للأزمة الليبية، حيث تتخوف الجزائر من أن استمرار تدهور الأوضاع الأمنية في هذا البلد سيزيد من أعبائها الأمنية، خاصة وأنها تفرض إجراءات عسكرية استثنائية على حدودها مع ليبيا منذ أكثر من خمس سنوات، وهو ما قد يُشكِّل استنزافًا لقوى الأمن والجيش الجزائري الذي يتصدى في الوقت ذاته للتهديدات القادمة من شمال مالي.

2- إقامة علاقات جيدة مع مختلف الأطراف الليبية وتعزيز نفوذها بالشرق الليبي لموازنة النفوذ المصري الداعم للمؤسسات الشرعية كمجلس النواب والجيش الوطني الليبي.

3- محاولة الجزائر تقديم نفسها أمام الداخل الليبي والأطراف الإقليمية والدولية على أنها وسيط محايد في الأزمة الليبية يمكن الاعتماد عليه لدفع عملية الحل السياسي، بعدما كان يُنظر إليها على أنها منحازة للمجلس الرئاسي والقوى السياسية الداعمة له بالغرب الليبي. وهو ما يؤهلها خلال الفترة المقبلة للعب دور الوسيط بين أطراف الأزمة الليبية، واستضافة حوار وطني ليبي-ليبي يمكن أن يُسفر عن دفع الحل السياسي في هذا البلد.

4- ضمان بقاء قوى الإسلام السياسي والقوى المجتمعية بالغرب الليبي التي تُقدم الجزائر الدعم لها وتعتمد عليها كأحد المصادر الأساسية لنفوذها في هذا البلد، وذلك في مواجهة الدعاوى المتصاعدة باستبعاد التيارات الإسلامية من الحكم، وتصنيفها على أنها تيارات متطرفة، وتزيد تلك الدعاوى مع تولي "دونالد ترامب" رئاسة الولايات المتحدة لتبنيه رؤى متشددة تجاه تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، إلى جانب سعي روسيا للعب دور محوري في الأزمة الليبية.

تحديات الوساطة

رغم التحركات الجزائرية المكثفة تجاه كافة أطراف الأزمة الليبية بالفترة الأخيرة في محاولة لدفع الحل السياسي، وإقناعهم برؤيتها لحل الأزمة؛ إلا أن تلك التحركات تواجه بمجموعة من التحديات قد تشكل قيدًا على الدور الجزائري، لعل من أبرزها:

1- وجود عدد من التيارات الإسلامية بالغرب الليبي، وتحديدًا تلك التابعة للمفتي بالعاصمة طرابلس "الصادق الغرياني" غير الخاضعة للنفوذ الجزائري، والتي تُشكل تحديًا لتيارات الإسلام السياسي ولحكومة الوفاق الوطني ومجلس الدولة المدعومين من قبل الجزائر. فقد قامت تلك الجماعات في الثاني عشر من يناير 2017 باقتحام عدد من المقرات الحكومية التابعة لحكومة الوفاق بالعاصمة طرابلس ومقر المجلس الأعلى للدولة، وأعلنت عودة حكومة الإنقاذ الوطني الإسلامية والمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته لممارسة مهامهما من جديد، رافضة الاعتراف بشرعية الاتفاق السياسي الليبي.

2- التحركات المصرية والروسية المكثفة بالشرق الليبي الداعمة للجيش الوطني الليبي في مواجهة فوضى المليشيات المسلحة، والتي تخشى الجزائر من أن تؤثر على موازين القوى حال تعديل اتفاق الصخيرات.

3- نشوب معارك مسلحة في الهلال النفطي، حيث انتزعت سرايا الدفاع في بنغازي (ميليشيا يدعمها المفتي الغرياني مكونة من مجالس شورى إسلامية في بنغازي وأجدابيا) ميناءين نفطيين (السدرة ورأس لانوف) من سيطرة الجيش الوطني الليبي في شهر مارس الجاري، وهو الأمر الذي أدى إلى نشوب معارك مسلحة في المنطقة ستؤثر على جهود الجزائر لتسوية الأزمة الليبية.

ثلاثة مسارات

في إطار تلك التحديات التي تواجه التحركات الجزائرية لتسوية الأزمة الليبية وفقًا لرؤيتها، من المرجح اتجاه الجزائر لاتباع المسارات التالية:

1- استغلال رغبة روسيا في لعب دور محوري لتسوية الأزمة الليبية للتنسيق معها في ليبيا، وتعتمد الجزائر في ذلك على اعتبارها من أقرب حلفاء روسيا بمنطقة المغرب العربي، حيث تتبنى الدولتان مواقف متطابقة تجاه الأزمتين السورية والعراقية، فضلا عن التقارب العسكري الكبير بينهما، فتسليح الجيش الجزائري يعتمد بصفة أساسية على السلاح الروسي.

2- رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني مع تونس في ليبيا لتبني مواقف مشتركة حول كيفية تسوية الأزمة الليبية، ومن ثم خلق جبهة إقليمية داعمة للرؤية الجزائرية لكيفية حل الأزمة الليبية والتي تميل إليها تونس، في مواجهة الجبهة الإقليمية الداعمة لحفتر والرافضة لإشراك تيار الإسلام السياسي في الحكم. 

3- استمرار التنسيق الجزائري مع التيارات الإسلامية الليبية وإقناعها بتقديم تنازلات لحلحلة الأزمة، بما يحقق هدف عدم استبعادهم من مستقبل الحكم، وذلك في ظل تغير موازين القوى الدولية لصالح "حفتر" بعد التقارب الروسي معه، وتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة المعادية للتيار الإسلامي.