Rightsizing:

حدود توظيف "كلينتون" للقوة الذكية في الشرق الأوسط

01 November 2016


انطلقت السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس الأمريكي "باراك أوباما" تجاه منطقة الشرق الأوسط من قناعة بأن تخفيض الاستثمار السياسي والعسكري الأمريكي في المنطقة في صالح الأمن القومي الأمريكي، خاصةً بعد أن أُجهدت الخزانة الأمريكية بتكاليف الحرب الأمريكية على العراق (مارس 2003) بجانب تكلفة الحرب على الإرهاب في ظل الأزمة الاقتصادية الأمريكية منذ منتصف عام 2008.

وقد أطلق مارك لينش (أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن) على استراتيجية "أوباما" لإعادة النظر في الوجود الأمريكي بالمنطقة مصطلح "Rightsizing"، والذي يعني التعامل مع المنطقة في ضوء حجمها الطبيعي، وليس تضخيم أهميتها. وقد تلخصت تلك الاستراتيجية في ثلاث نقاط، هي: ممارسة ضبط النفس دبلوماسيًّا، والرجوع خطوة إلى الوراء، وتولي حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مسئولية أكبر في الدفاع عن أمنهم. ولم يتردد الرئيس "أوباما" في وضع هذه الاستراتيجية كأولوية عند اتخاذ قرارات السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، وقاوم كل الجهود التي دفعت في الاتجاه المعاكس.

ومع فوز المرشحة "هيلاري كلينتون" ببطاقة الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأمريكية، والتوقعات التي تشير إلى أنها الأوفر حظًّا للفوز في الثامن من نوفمبر الجاري، ومشاركتها في صنع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة خلال "إدارة أوباما" الأولى من خلال منصبها كوزيرة للخارجية الأمريكية (2009-2013) - يثور تساؤل رئيسي مفاده: إلى أي مدى ستتغير السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة "كلينتون" عن السياسة الخارجية لإدارة "أوباما" تجاه منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وأن المنطقة شهدت تطورات عدة خلال الفترة الرئاسية الثانية للرئيس "أوباما"؟.

"كلينتون" صقور أم حمائم؟

يحفل سجل المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" بالشواهد التي استحقت بسببها لقب صقر عسكري Military Hawk. فقد صوتت كعضو في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك لصالح الحرب في العراق، ودفعت كوزيرة للخارجية باتجاه التدخل الأمريكي في ليبيا، وضغطت على الرئيس "أوباما" للقيام بتحرك عسكري ضد "بشار الأسد" في سوريا. 

وفي المقابل، كانت هناك شواهد أخرى تشير إلى أنها من الحمائم. فقد وقّعت "كلينتون" كوزيرة للخارجية على الانسحاب من العراق في عام 2011، وفتحت الباب لمفاوضات مع حركة "طالبان"، وبدأت المرحلة السرية من المفاوضات مع إيران، وتوسطت لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في عام 2012. 

وما يفسر دعم "هيلاري" استخدام القوة الصلبة في بعض الملفات، والقوة الناعمة في ملفات أخرى؛ إيمانها بأن القوة الذكية هي الأداة الأفضل لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، والحفاظ على المصلحة والأمن القومي الأمريكي. ولذا، فإن استراتيجيتها للسياسة الخارجية الأمريكية ستكون أقرب إلى الوسط centrist والبرجماتية، ويتضح ذلك من تصريحاتها خلال حملتها الانتخابية. ولكن هذا لا يعني أنها ستتخذ أي خطوة في الشرق الأوسط تصب في صالح إيران، الأمر الذي يميزها عن "أوباما"، ويُعيدها حسب الصورة الكلية إلى خانة الصقور، وأول هذه الخطوات إعادة بناء الثقة مع إسرائيل.

إعادة الثقة مع إسرائيل:

تعتقد "كلينتون" بوجود فرصة لفتح صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية بعد ثماني سنوات من الاضطراب، بحسب عدد من كبار مساعديها الذين تحدثوا لصحيفة "جيروساليم بوست" مؤخرًا، وقالوا إنها ستسعى إلى تشكيل بيئة مُحفّزة لإسرائيل لاتّباع القيادة الأمريكية مجددًا، الأمر الذي لخصه مارتن إنديك (مدير برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز) بأنه إعادة بناء الثقة وتصحيح مواطن الخطأ في سياسة الرئيس "أوباما".

وعلى الجانب الآخر، رأى مسئولون مقربون من إدارة "أوباما" أن سياسته تجاه إسرائيل كانت صائبة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية عانت فشلًا في القيادة، وكان ما تفعله الإدارة الأمريكية لا يتعدى الدفع باتجاه الحفاظ على أمن وديمقراطية إسرائيل. وعلى الرغم من اتفاق "كلينتون" مع رؤية "أوباما" حول ضرورة حل الدولتين، إلا أنها ترفض سياساته للوصول إلى هذا الحل.

وتُعد إسرائيل مسألةً حساسة لدى داعمي "كلينتون"، فقد كتب مدير حملتها روبي موك في أحد إيميلاته المنشورة مؤخرًا من قبل موقع "ويكيليكس" أن المتبرعين يسألونه دائمًا عمّا إذا كانت مرشحته قد أدلت بتصريح واضح بشأن إسرائيل حتى الآن أم لا.

وفي هذا السياق، أظهرت إيميلات سُرّبت مؤخرًا من البريد الإلكتروني لجون بوديستا، رئيس حملتها الانتخابية، أن عددًا من داعميها الكبار دفعوها إلى تبني مواقف سياسية مؤيدة لإسرائيل في الشرق الأوسط. فقد تعهدت "كلينتون" في رسالة إلى حاييم سابان، أحد كبار رجال الأعمال الأمريكيين من أصل يهودي، والذي تبرع بسبعة ملايين دولار لحملتها، نشرها "ويكيليكس" أيضًا، بأن تجعل مواجهة "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات BDS" المناهضة لإسرائيل على سلم أولوياتها إذا انتُخبت رئيسة للولايات المتحدة.

التدخل غير الحاسم في سوريا:

على الرغم من ترجيح تبنِّي "كلينتون" سياسة تدخلية في الملف السوري في الوقت الذي عزف فيه "أوباما" عن التدخل الحاسم في الملف، وتركه للقوى الإقليمية والدولية، بسبب مواقفها الصقورية في السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة عملها السياسي، إلا أنه لا يُتوقع أن تقود تغييرًا جوهريًّا في السياسة الأمريكية تجاه سوريا.

وفي هذا السياق، يعتقد السفير الأمريكي السابق لدى دمشق "روبرت فورد" والزميل الأقدم في معهد الشرق الأوسط، أنه لا ينبغي توقع أي تغير سريع وكبير في السياسة الأمريكية تجاه سوريا بغض النظر عن كون الرئيس الجديد "هيلاري كلينتون" أو "دونالد ترامب"، مشيرًا إلى أن هناك ميلًا واضحًا لدى "كلينتون" إلى كسب مزيد من النفوذ في سوريا بهدف إجراء مفاوضات سياسية حقيقية، ولكن القوات الروسية العاملة على أرض سوريا هي حقيقةٌ لا يمكن تجاهلها، لذا ستسعى ببرجماتيتها إلى بناء مزيد من النفوذ الأمريكي دون مواجهة القوات الروسية في سوريا. فضلا عن محاولاتها تعزيز المصداقية والنفوذ الأمريكي في سوريا والمنطقة، ولكن ذلك سيستغرق وقتًا.

ولا يختلف رأي "فريدريك هوف"، مسئول الملف السوري السابق في وزارة الخارجية أثناء تولي "كلينتون" وزارة الخارجية والذي يشغل حاليًّا مدير مركز رفيق الحريري التابع للمجلس الأطلنطي، إذ أعرب عن اعتقاده بأنها ربما تبدأ كرئيسة للولايات المتحدة بالنظر الجدي في خطوات عسكرية محدودة للحد من القتل الجماعي الذي تمارسه قوات "الأسد"، لكن هناك محددات قد تحول دون ذلك، فموسكو وطهران تُدركان هذا التوجه لكلينتون، ولذا تسعيان إلى تحقيق نصر عسكري للأسد الآن، خاصةً بعد تأكدهما من أن أوباما سيظل على موقفه بعدم التدخل في الملف السوري مهما فعل حليفهما بشار الأسد.

في المحصلة النهائية، سيؤدي انتخاب كلينتون إلى مزيد من التدخل في سوريا. ويرى آرون لاند، الزميل المتخصص في سوريا من معهد كارنيجي للشرق الأوسط، أن هناك غموضًا في بعض بنود السياسة التي تعلنها "كلينتون" تجاه سوريا، مثل تفاصيل حظر الطيران التي لن تكون مضطرة للخوض فيها حتى انتهاء السباق الانتخابي. ولكن مع صعود عشرات المستشارين إلى مناصب عليا في إدارة كلينتون، ومحاولة كلٍّ منهم جر القرار الخارجي تجاه سوريا إلى رؤيته، وسط تحركات الأسد وبوتين لتشكيل الوضع على الأرض، يُرجح لاند ألا يكون فوز كلينتون في الثامن من نوفمبر إلا بداية لحوار أمريكي جديد حول سوريا.

إعادة التحالف مع دول الخليج:

تلقى الرئيس "أوباما" كثيرًا من الانتقادات الضمنية والمباشرة في فترة رئاسته الثانية بالتحديد، بسبب ميله نحو إيران على حساب الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة بالمنطقة وأهمهم دول الخليج العربي. ويُرجّح أن تتبع "كلينتون" نهجًا يُعيد التوازن في المنطقة بين الكتلتين، أو يرجح الكفة لصالح دول الخليج، وذلك بناءً على الأفكار التي تدور في فلك حملتها الانتخابية والقيادة الديمقراطية. 

فقد طالب السفير الإماراتي بواشنطن، يوسف العتيبة، بمزيد من التعاون بين الولايات المتحدة ودول الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، منوهًا إلى أن العلاقات الأمريكية-الخليجية تعاني الآن من فقدان الثقة التي تحتاج لإعادة بناء، وذلك أثناء حديثه في ندوة لمركز التقدم الأمريكي.

ومن الجدير بالذكر أن المركز دعا مؤخرًا في ندوة بعنوان "تقوية شراكات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" إلى انتهاج سياسة إقليمية أقرب إلى محور السعودية ودول الخليج العربي منها إلى محور إيران.

وأثناء تلك الندوة، دعا مايك موريل، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق والمستشار السابق للرئيس بيل كلينتون للسياسة الخارجية، إلى ردود أمريكية على السلوك "المؤذي" لإيران في المنطقة؛ لطمأنة حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين على جديتها، مثل تصعيد العقوبات الاقتصادية على إيران، واعتراض السفن الإيرانية المُبحرة باتجاه اليمن وتفتيشها، فإذا وُجد فيها سلاح للحوثيين تُعاد إلى الميناء الذي انطلقت منه.

ويرى العتيبة أن على الولايات المتحدة أن تؤكد مجددًا التزامها لحلفائها الأساسيين -وهم السعودية ومصر والإمارات والأردن- بحماية أمنهم واستقرار المنطقة، إلا أن هذا يظل تحديًا خاصة بعد أن كشف أحد الإيميلات المسربة لكلينتون انزعاجها من السياسة الخارجية للسعودية، واتهامها لها بتمويل مجموعات راديكالية في المنطقة.

ستسعى كلينتون لإعادة بناء العلاقات مع حلفاء أمريكا المقربين في المنطقة، الذين تكاد إدارة أوباما تستعديهم جميعًا، وفي الوقت نفسه ستواصل كلينتون إعادة بناء العلاقات مع إيران، ولكن هذه المرة ليس فقط لمصلحة الولايات المتحدة ولكن لتهدئة مخاوف حلفائها مثل دول الخليج وإسرائيل.

وخلاصة القول، إن السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة "كلينتون" لن تختلف كثيرًا عن إدارة الرئيس الأمريكي "باراك أوباما"، إذ إنها سوف تستمر على نفس المنطلقات الفكرية التي انطلقت منها في سياساتها الخارجية، ولكنها ستكون مختلفة في الأدوات والتكتيكات لتتميز إدارتها عن إدارة الرئيس "أوباما" ولا ينظر لها على أنها فترة رئاسية ثانية لمنافسها السابق على بطاقة الحزب في عام 2008. وهو ما يعني أننا خلال إدارة "هيلاري" لن نشهد تغيرًا جذريًّا في السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة وأنها كانت مشارِكة في صنع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة خلال إدارة "أوباما" الأولى.