تحديات الهيمنة:

مصالح تركيا الاقتصادية والأمنية في أوراسيا

06 July 2016


إعداد: وفاء ريحان

تزايدت أهمية أوراسيا على مدار السنوات الماضية نتيجة عدة عوامل، منها التنامي الكبير في العلاقات الاقتصادية بين دول هذه المنطقة، والمشروعات الكبرى في مجالات البنية التحتية التي تربط بين أجزائها. وتعتبر تركيا، التي تقع في ملتقى الطريق بين أوروبا وآسيا، من الدول المهمة في أوراسيا، وتسعى للاستفادة من الترابط المتزايد بين أجزائها.

وعلى الرغم من الجهود التركية لتوسيع نفوذها في أوراسيا، فإن أنقرة لاتزال تواجه تحديات تتعلق بهيمنة العديد من القوى الدولية، وفي مقدمتها روسيا والصين، على هذه المنطقة. كما أنه على المدى القصير والمتوسط، ستُلقي الأزمات في منطقة الشرق الأوسط بظلالها على السياسة الخارجية التركية، بما يعنى تكريس مزيد من الموارد البشرية والمالية لهذه المنطقة على حساب أوراسيا. وفي ظل هذه الظروف، سيتحتم على تركيا الاستمرار في تطوير مشروعات البنية التحتية، خاصةً في مجالي النقل والطاقة، حتى تستطيع تأمين دورها المستقبلي كشريك فعَّال لكل من الشرق والغرب.

انطلاقاً مما سبق، تأتي الدراسة المُعنونة: "تركيا وإعادة الارتباط بأوراسيا: المصالح الاقتصادية والأمنية الخارجية"، والصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وأعدها "أونال سيفيكوز" unal cevikoz، وهو دبلوماسي تركي سابق، وحالياً مدير مركز سياسات أنقرة.

الدوافع التركية للاهتمام المتزايد بأوراسيا

يرى الكاتب أنه على مدار الخمسة وعشرين عاماً الماضية، طرأ تعديلان مهمان على السياسة الخارجية التركية بشأن أوراسيا؛ الأول جاء نتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، حيث استفادت أنقرة من الصلات اللغوية والثقافية المشتركة في علاقاتها مع الدول الجديدة الناشئة في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، والتي تمثلت في أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان. وتُشكل هذه البلدان ما يسمى "العالم التركي" الذي يمتد من القوقاز إلى وسط آسيا. ولأن تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو قلل من قيمة الموقع الاستراتيجي التركي، استطاعت أنقرة التغلب على ذلك بتوجيه سياستها الخارجية نحو الشرق من خلال لعب دور المُيسر لتكامل الدول المستقلة حديثاً في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي.

أما المراجعة الثانية للسياسة التركية نحو أوراسيا، فكانت نتيجة صعود حزب العدالة والتنمية بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية التركية في عام 2002. وقد استلهمت أنقرة سياستها الخارجية الجديدة من الإطار النظري الذي وضعه أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي"، إذ رأى أوغلو أن نهاية الحرب الباردة جعلت الفرصة سانحة أمام تركيا لتصبح قوة عالمية، بما ينعكس في أجندة توسعية للسياسة الخارجية على أساس أيديولوجية إسلامية. وهذه الرؤية تسمح لتركيا بالهيمنة على المناطق التي تمثل عمقاً لها، مثل الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، بما يخلق مجال جديد للنفوذ التركي.

وحسب الدراسة، كان لهذين التعديلين تداعيات مهمة على السياسة الخارجية التركية تجاه أوراسيا، فالانخراط التركي في أوراسيا مر بثلاث مراحل خلال الفترة من عام 1989 إلى عام 1995، كالتالي:

- المرحلة الأولى من 1989 إلى 1991: عملت تركيا على تجنب الدعم الصريح للحركات القومية الناشئة في الاتحاد السوفييتي، وذلك بهدف الحفاظ على روابطها مع القوقاز وآسيا الوسطى عبر موسكو.

- المرحلة الثانية من 1991 إلى 1993: حاولت أنقرة أن تستفيد من وجود ما سُمي بالعمق التركي، حيث القواسم المشتركة التقليدية واللغوية بينها وبين الدول المستقلة حديثاً، والتي ساهمت في تأسيس علاقات بينها. واعتقدت أنقرة أن هذه البلدان الجديدة ستتأثر بالنظام التركي القائم على قيم الديمقراطية والعلمانية، وبالتالي ستميل إلى تبني النموذج التركي، والابتعاد عن النموذجين الروسي والإيراني. ومن ثم، انطلقت أنقرة نحو بناء ساحة جديدة للنفوذ ولكن من دون خطة عمل محددة.

- المرحلة الثالثة من 1993 إلى 1995: أصبحت روسيا أكثر فاعلية في ملء الفجوة التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وبعد عام 1995 تقبلت تركيا هذه الحقيقة، وبدأت في تنفيذ سياسة خارجية حذرة في المنطقة لتجنب المواجهة مع موسكو.

ويشير الكاتب إلى أن سياسة تركيا في أوراسيا سترتكز على تطوير العلاقات الثنائية مع بلدان هذه المنطقة، إلى جانب التنسيق مع الأطراف المعنية والمتمثلة في روسيا وإيران والهند والصين وباكستان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بحيث تؤخذ سياسات هذه الدول في الاعتبار عند وضع تركيا نهجها الخارجي صوب أوراسيا.

السياسة الأمنية والاقتصادية لتركيا في أوراسيا

وفقاً للدراسة، ترتكز السياسة الخارجية الأمنية والاقتصادية لتركيا على السعي إلى تحقيق التوافق بين انخراطها مع الغرب وبين دول الجوار المباشر لها. فموقع تركيا الجغرافي يساعدها على استغلال الفرص من أجل تحسين وتنويع علاقاتها الاقتصادية، فمن ناحية تُعد جزءاً متكاملاً من أوروبا وعضواً في عدد من المؤسسات الأوروبية مثل مجلس أوروبا ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، كما تتطلع لأن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي. ومن ناحية أخرى، تلعب تركيا دوراً محورياً في أوراسيا من خلال موقعها بين البلقان والبحر الأسود والقوقاز ووسط آسيا والشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط وشمال أفريقيا.

ويستعرض الكاتب جهود التعاون الإقليمي في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية بين تركيا والدول الواقعة في أوراسيا مثل أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وروسيا وإيران والصين. وتوصل إلى أن أوراسيا تكتسب أهمية كبرى في السياسة الخارجية التركية، على الرغم مما تواجهه من تحديات في هذه المنطقة، أولها يتعلق بأن روسيا والصين، وعلى نحو أقل حدة إيران، ستستمر كلاعبين أساسيين في أوراسيا، بالإضافة إلى القوى الأخرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن نجاح تركيا في أوراسيا سيتوقف على قدرتها على مواءمة سياساتها مع الفاعلين الآخرين في هذه المنطقة.

وثاني التحديات ذات صلة بالمشاكل الأمنية والاقتصادية الحالية في دول الجوار التركي، ففي المستقبل المنظور ستأتي معظم التهديدات للأمن التركي من حالة عدم الاستقرار المستمرة في دول الشرق الأوسط، خاصة الحرب في سوريا وأزمة اللاجئين الناتجة عنها. وبالتالي مع الوقت، ستعاني أنقرة مشاكل الحدودية تجعلها أكثر تركيزاً على الأوضاع في الشرق الأوسط، ما يؤثر على الموارد المخصصة لتنفيذ سياساتها في أوراسيا.

نماذج من الانخراط التركي في أوراسيا

تتطرق الدراسة إلى مجموعة من المشروعات التي تُساهم بدور كبير في دفع التكامل التركي مع أوراسيا، وتتمثل في الآتي:

1- منظمة مؤتمر التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا:

تأسست بناءً على طلب من رئيس كازاخستان نور سلطان نزارباييف، حيث دعا الدول الآسيوية، في أكتوبر 1992، إلى أن تنضم معاً لتطوير الآليات المشتركة حول التعاون والأمن. ووصل عدد الدول الأعضاء في هذه المنظمة حالياً إلى 26 دولة، فضلاً عن ثماني دول أخرى في وضع مراقب.

وتُعد تركيا عضواً مؤسساً في هذه المنظمة، وتسعى من خلال وجودها بها إلى تعزيز تدابير بناء الثقة في مجالات مثل التعاون العسكري والاقتصادي، وفي قضايا ذات صلة بالبيئة ومكافحة الإرهاب والإتجار غير المشروع في البشر. وقد تولت أنقرة رئاسة القمة الثالثة للمنظمة والتي انعقدت في الفترة من 7- 9 يونيو 2010 في اسطنبول، وخلال فترة رئاستها عملت على تقوية آلية التعاون بين الأعضاء بما يُعزز الاستقرار وبناء الثقة.

وعلى الرغم من أن المنظمة لا تزال بعيدة عن منافسة المنظمات الأخرى، مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، غير أن تركيا تسعى إلى تقوية دورها بالاستفادة من تجارب التعاون الأخرى عبر الإقليمية، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).

2- منظمة شنغهاي للتعاون:

تأسست في 15 يونيو 2001، والدول الأعضاء بها حالياً هي الصين وروسيا وقيرغيزستان وطاجيكستان وكازاخستان وأوزباكستان، كما أن ثمة خمس دول في وضع مراقب، وثلاثة شركاء حوار منهم تركيا.

وقد تحددت المجالات التي تتوخى أنقرة التعاون فيها مع المنظمة في مجالات مثل الأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، ومنع الإتجار غير المشروع في المخدرات، والتعاون الثقافي والاقتصادي. وخلال فترة تولي أردوغان رئاسة الحكومة التركية، أشار إلى منظمة شنغهاي باعتبارها التوجه الجديد لأنقرة، فمركز النشاط الاقتصادي العالمي يتجه إلى الشرق، حيث آسيا والباسفيك. كما يعتقد المسؤولون الأتراك أن كثيراً من العلاقات الرسمية مع منظمة شنغهاي ستفتح فرص جديدة تعكس الطموح لتنفيذ سياسة خارجية متعددة الأوجه.

3- مشروعات البنية التحتية:

أضفت العلاقات التجارية المتنامية بين أوروبا وآسيا زخماً كبيراً على مشروعات البنية التحتية التي تصل بين وسط آسيا وحوض بحر قزوين والبحر الأسود. ومن هذه المشروعات ممر النقل الرابط بين أوروبا ومنطقة القوقاز وآسيا TRACECA، حيث يشمل هذا الممر تركيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا، ويهدف إلى إقامة علاقات اقتصادية وخطوط للنقل والتجارة بهدف تسهيل الوصول إلى الأسواق وضمان السلامة المرورية.

وثمة مشروع آخر يربط بين تركيا وجورجيا، وهو مشروع سكك حديد "باكو تبليسي كارز" (BTK)، ومن المرجح أن يبدأ تشغيله في عام 2016، وكمرحلة أولية من هذا المشروع قد يحمل مليون راكب و6 ملايين طن من السلع سنوياً. وبحلول عام 2034، ستُقدر سعته بحوالي 3 ملايين راكب و17 مليون طن من السلع في العام. ويُخطط لأن يصبح المشروع جزءاً متكاملاً من طريق الحرير الحديدي للقرن الحادي والعشرين بهدف تمكين المنتجين في شرق آسيا من الاتصال بالأسواق الأوروبية.

4- الطاقة:

على الرغم من أن تركيا ليست مُنتجاً للطاقة، فإن موقعها الجغرافي في مفترق ممرات الطاقة يُتيح لها الفرصة لتُصبح مركز الطاقة في أوراسيا ككل. ومن بين الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن الطلب التركي على الطاقة كان الأسرع نمواً في السنوات العشر الأخيرة، مع توقعات بأن يتضاعف في العقد القادم.

ومن المشروعات المهمة في مجال الطاقة، خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر الأناضول TANAP، الذي صُمم لتقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، ولهذا المشروع دور محوري في السياسة التركية الرامية لجعل تركيا ممراً للطاقة.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "تركيا وإعادة الارتباط بأوراسيا: المصالح الاقتصادية والأمنية الخارجية"، والصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في أبريل 2016.

المصدر:

Unal cevikoz, Turkey in a Reconnecting Eurasia: Foreign Economic and Security Interests, (Washington: Center for Strategic and International Studies, April 2016).