تتجه دول منطقة الشرق الأوسط إلى تعزيز ترابطها البحري بمختلف مناطق العالم عبر خطوط وقنوات ملاحية جديدة إما مع دول الجوار أو مع دول في مناطق بعيدة، وبما يحقق لها مزايا اقتصادية عديدة، يتمثل أهمها في انسياب حركة التجارة مع دول العالم والاستفادة من بعض المكاسب الاقتصادية للمراكز اللوجستية البحرية التي تقيمها باستغلال حركة الترانزيت ونقل التجارة من وإلى المنطقة. لكن ثمة صعوبات عديدة ربما تعرقل تنفيذ هذه الخطط، ترتبط بنقص التمويل وتصاعد حدة التهديدات الأمنية واتساع نطاق التوترات السياسية التي تشهدها المنطقة.
محاور إقليمية:
ترتبط منطقة الشرق الأوسط بخطوط ملاحية واسعة مع مختلف دول العالم عبر ما مجموعه 136 من الموانئ البحرية والتي تبلغ طاقتها الاستيعابية الإجمالية لتداول الحاويات نحو 44.8 مليون حاوية، وتبذل عدة دول بالمنطقة جهودًا حثيثة من أجل زيادة ترابطها البحري، مثل إيران، التي سعت، بعد رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها في أوائل يناير 2016، إلى استعادة علاقاتها التجارية مع دول العالم، حيث يتيح موقعها الاستراتيجي وتمركزها بين عدة مناطق مثل المنطقة العربية ودول وسط آسيا والقوقاز، تعزيز تجارتها مع دول هذه المناطق.
وفي هذا السياق، شرعت طهران في إطلاق العديد من المشروعات العملاقة بالتعاون مع عدة دول، مثل مشروع "ممر النقل الدولي الشمال – الجنوب" مع روسيا وأذربيجان، الذي من المتوقع أن يربط جنوب شرق آسيا بشمال أوروبا وصولا إلى روسيا من خلال ممر مائي وبري مقترح قد يصل طوله إلى 7200 كيلومتر، ويصاحبه إنشاء خطوط سكك حديدية لنقل البضائع بريًا بين الموانئ الموجودة على طول الممر، وتشير العديد من التقديرات إلى أن هذا الممر سوف يوفر الوقت وتكلفة النقل للبضائع العابرة من الشرق للغرب، مقارنة بممرات ملاحية موجودة حاليًا.
وفي إطار تعزيز صلاتها التجارية مع الدول الآسيوية المجاورة، من المقرر أن تقدم الهند 500 مليون دولار لمشروع تطوير ميناء تشابهار بجنوب إيران في خطوة سوف تتيح للهند فتح طريق تجاري مع إيران وأفغانستان وآسيا الوسطى. كما تتجه إيران أيضًا إلى دعم ترابطها البحري بأفريقيا، خاصة أنها تقيم خطوطًا ملاحية هامة مع موانئ بعض الدول المطلة على البحر الأحمر والمحيط الهندي مثل كينيا وإريتريا.
أما بالنسبة لتركيا، فتخطط لأن تصبح نقطة عبور مركزية لحركة التجارة في الإقليم، ويتضح ذلك من خلال سعيها لإنشاء جسور برية أو بحرية بينها وبين دول الجوار. وكمؤشر على ذلك، تستهدف أنقرة زيادة أهميتها كموقع محوري للملاحة البحرية من خلال مشروع "قناة إسطنبول"، الذي سوف يسمح للسفن الكبيرة بالعبور من بحر مرمرة إلى البحر الأسود، حيث يبلغ طول القناة 43 كيلو متر، وذلك بتكلفة تقارب 10 مليار دولار.
وفي إطار سعى إسرائيل للتخلص من عزلتها بمنطقة الشرق الأوسط، فقد كثفت من تحركاتها لتتحول إلى مركز لإعادة الشحن وبوابة تجارية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث بدأت في تنفيذ خطة تستهدف منافسة الممرات الملاحية بالمنطقة، وتجلى ذلك في إعلان الحكومة الإسرائيلية في عام 2012 عن مشروع قومي لمد خط سكة حديد "Med-Red" يربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، إلى جانب إنشاء قناة مائية تصل بين ميناء إيلات على البحر الأحمر وميناء أشدود على البحر المتوسط.
ويُضاف للمشروعات السابقة، جهود حثيثة لتوسيع الموانئ الإسرائيلية وتطويرها بما يجعلها رافدًا هامًا للبضائع التي تنتقل من أوروبا إلى بعض الدول العربية، خاصة بعد تصاعد حدة الصراع في سوريا التي كانت المنفذ الرئيسي لهذه البضائع.
في حين تبذل الأردن جهودًا حثيثة من أجل توسيع وتطوير ميناء العقبة، وذلك من خلال عدة مراحل، بدأت المرحلة الأولى في الربع الأخير من عام 2015، وتم توقيع اتفاق المرحلة الثانية في مايو 2016 لتسريع البدء فيها والتي كان من المفترض تنفيذها في عام 2025، وذلك بناءً على توصيات العديد من الدراسات التي أكدت ضرورة ربط المرحلة الثانية بالأولى دون فاصل زمني بينهما، وذلك في إطار خطة أكبر تستهدف تطوير منظومة الموانئ في منطقة العقبة لجعلها أكثر أمانًا واستقرارًا، وتحويلها إلى مركز لإعادة تصدير الحبوب خاصة القمح، بشكل سوف يمنح منطقة العقبة بعدًا اقتصاديًا ولوجيستيًا هامًا على المستوى الدولي.
عقبات عديدة:
يواجه تنفيذ هذه المشروعات العملاقة عقبات عديدة ربما تحول دون تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وتتمثل أهم تلك العقبات في:
1- نقص التمويل: تواجه الدول التي تسعى لإطلاق المشاريع العملاقة سالفة الذكر مأزقًا ماليًا كبيرًا، وذلك نتيجة لتداعيات الصراعات التي تشهدها بعض دول المنطقة، خاصة فيما يتعلق بتفاقم أزمة اللاجئين السوريين، إلى جانب تراجع أسعار النفط، وهو ما فرض بدوره أزمة تمويل حادة لمشاريع تتطلب استثمارات عملاقة لن تظهر نتائجها على المديين القصير والمتوسط.
ومن أبرز المشروعات التي تواجه أزمة تمويل نظرًا لتكلفتها العالية الممر المائي الذي تسعى إسرائيل لشقه لربط البحرين الأحمر والمتوسط، وأيضًا مشروع القناة المائية التي تشارك فيها روسيا وإيران وأذربيجان، حيث تشير تقديرات عديدة إلى أن مجمل ما تحتاجه منطقة الشرق الأوسط لتنمية وتطوير البنية التحتية، بما في ذلك الموانئ والمطارات والسكك الحديدية، يصل إلى نحو 4.3 تريليون دولار بحلول عام 2020.
2- تباطؤ حركة التجارة العالمية: دفع تباطؤ الاقتصادات الناشئة والمتقدمة على حد سواء، منظمة التجارة العالمية إلى تخفيض توقعاتها لنمو التجارة العالمية في عام 2016 بأكثر من الثلث. وعلى الأرجح، فإن حجم التجارة العالمية سوف ينمو بنحو 1.7% بنهاية عام 2016 ودون توقعات سابقة للمنظمة بنموه بنسبة 2.8%. وبالأساس، فقد تراجعت حجم التجارة السلعية العالمية بشكل حاد في عام 2015 لتسجل 16 تريليون دولار بانخفاض 14% مقارنة بعام 2014. وعلى ما يبدو فإن تباطؤ الاقتصاد العالمي سوف يقود إلى مزيد انكماش التجارة العالمية على المديين القصير والمتوسط، وبما يؤثر على القدرة الشتغيلية المستقبلية للمشروعات المذكورة آنفًا.
3- تصاعد حدة عدم الاستقرار في المنطقة: تواجه المشروعات السابقة، ولا سيما الممتدة إلى أكثر من دولة، مخاطر عديدة قد تحول دون تنفيذها، وذلك نتيجةً لتوتر العلاقات بين بعض دول المرور، فعلى سبيل المثال، يواجه مشروع ممر الشمال-الجنوب إشكالية الاتفاق بين الدول الخمسة المطلة على بحر قزوين، وتشارك في ثرواته النفطية. كما أن دولة مثل الهند لا تستطيع الدخول برًا إلى أفغانستان ومنها إلى دول وسط آسيا، بسبب معارضة باكستان التي تعتبر أن دبلوماسية التوسع الهندية تشكل خطرًا على مصالحها وأمنها.
4- التنافس الإقليمي: من دون شك، فإن تنفيذ المشروعات السابقة سوف يؤدي إلى تصاعد حدة المنافسة بين دول المنطقة على مركزية دورها في مسارات وممرات التجارة البحرية، للمشاركة بحصة أكبر في تجارة الإقليم من وإلى العالم. وعلى ما يبدو فإن هذا التنافس سلاح ذو حدين، إذ أنه من ناحية سيؤدي إلى انسياب حركة التجارة بالمنطقة، بينما من ناحية أخرى سيقود إلى توزيع حصة الإقليم من تجارة الترانزيت والخدمات اللوجستية المساندة الأخرى على عدد أكبر من المراكز اللوجستية الإقليمية، ومن ثم سيؤدي إلى تناقص العوائد المحتملة لكل مشروع على حدة.
وختامًا، يمكن القول إن آفاق تطوير القطاع البحري بالمنطقة تبدو إيجابية للغاية، حيث تتمتع المنطقة بموقع استراتيجي يؤهلها لأن تصبح مركز تجارة عالميًا، بيد أن طموحها يواجه صعوبات عديدة قد تؤجل تنفيذ هذه المشروعات على الأقل في المدى القريب.