فجوات الوعي:

حلول متوازنة لـ"الاستدامة البيئية" في الدول الغنية والفقيرة

18 December 2023


بينما يواجه العالم أزمة المناخ المتفاقمة والتحديات البيئية المتصاعدة، برز السعي نحو تحقيق "الاستدامة البيئية" كضرورة حاسمة في ضوء تأثيرات التغير المناخي. ويُقصد بالاستدامة البيئية "حماية الموارد البيئية والمحافظة عليها للأجيال المستقبلية"، وهي "تركز على إيجاد علاقات نموذجية أو التوازن بين الأنشطة البيئية البشرية المتنوعة والبيئة على مختلف المستويات لصالح الأجيال القادمة". 

وجاء مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في دورته الثامنة والعشرين "كوب28"، الذي استضافته دولة الإمارات، بمثابة تذكير بالحاجة المُلحة إلى "العمل التحويلي" (transformative action) في مجال المناخ، بتبني سياسات وإجراءات أكثر استدامة. ومع ذلك، وفي ظل هذه الإلحاح المتزايد، ما تزال هناك تحديات كبيرة تتمثل في إقناع الأفراد والمجتمعات بالتأثير الملموس لهذه القضايا في حياتهم، والحاجة الضرورية للتغيير الفوري من أجل تحقيق الاستدامة البيئية في ضوء التغيرات المناخية، فضلاً عن ارتفاع تكلفة تبني الممارسات المستدامة، واختلاف تصور الاستدامة بين البلدان الغنية والفقيرة.

معالجات ثقافية:

لعل إحدى العقبات الرئيسية التي تحول دون تعزيز ثقافة الاستدامة لدى الأفراد والمجتمعات هي الفكرة السائدة بأن "هذا لن يحدث لي". فهذه العقلية، المُتجذرة في كثير من الأحيان في الشعور بالانفصال عن الاهتمامات البيئية، تعوق اعتماد الممارسات المستدامة وتُديم التقاعس عن العمل. ولمواجهة هذا التحدي بفاعلية، من الأهمية بمكان تبديد الاعتقاد الخاطئ بأن القضايا البيئية تشكل تهديدات بعيدة المدى وليس لها تأثير مباشر في حياتنا.

ويمكن للحكومات أن تؤدي دوراً محورياً في هذا الصدد برفع مستوى الوعي والتعليم لدى المجتمعات، من خلال الاستفادة من قنوات الاتصال المختلفة لتسليط الضوء على العواقب الحقيقية لتغير المناخ والتدهور البيئي. ويمكن أن تكون حملات وسائل التواصل الاجتماعي وإعلانات الخدمة العامة والبرامج التعليمية بمثابة أدوات قوية لعرض تأثير هذه القضايا في المجتمعات في جميع أنحاء العالم. ومن خلال تقديم روايات مقنعة وأمثلة من الحياة الواقعية، يمكن جعل الأفراد يفهمون مدى إلحاح العمل الجماعي لمواجهة تأثيرات التغير المناخي.

ويُعد التعليم حجر الزاوية لتعزيز مستقبل مستدام، إذ يتعين على المدارس والمؤسسات التعليمية دمج التعليم البيئي في مناهجها الدراسية، وتزويد الطلاب بالمعرفة والفهم اللازمين لاتخاذ قرارات مستنيرة. فتعليم الطلاب مبادئ الاستدامة، وتأثير الأعمال البشرية في البيئة، ومدى أهمية اعتماد ممارسات مستدامة؛ سيؤدي إلى تنشئة جيل من الأفراد المهتمين بالبيئة والذين هم أكثر قابلية لتبني أنماط الحياة المستدامة.

حلول مالية:

تشكل الاعتبارات المالية عائقاً كبيراً أمام اعتماد الممارسات المستدامة، إذ إنه غالباً ما تعوق القيود المالية عملية الانتقال إلى مستقبل مستدام. فعلى الرغم من وجود حلول مبتكرة، فإن تكلفة اعتماد هذه البدائل يمكن أن تكون عائقاً، خاصةً في ظل التحديات المالية العالمية. وغالباً ما يتطلب تنفيذ حلول الاستدامة استثمارات كبيرة مقدماً، وهو ما يمكن أن يشكل عائقاً أمام الأفراد والشركات والحكومات، ولاسيما في البلدان النامية. 

وتتضمن العديد من الحلول المستدامة، تكاليف أولية أعلى مقارنة بنظيراتها التقليدية. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تكون تكاليف تركيب تكنولوجيات الطاقة المتجددة، مثل الألواح الشمسية وتوربينات الرياح، أعلى من تكاليف تركيب أنظمة الطاقة التقليدية المعتمدة على الوقود الأحفوري. وبالمثل، فإن الأجهزة الموفرة للطاقة وخيارات النقل المستدامة، مثل السيارات الكهربائية، قد تكون أسعارها أعلى مقارنةً بنظيراتها التقليدية.

ويمكن أن يشكل الوصول إلى رأس المال تحدياً كبيراً للأفراد والشركات والمجتمعات التي تسعى إلى تبني ممارسات مستدامة. ففي البلدان النامية، قد تتردد المؤسسات المالية في تقديم القروض للمشروعات المستدامة بسبب المخاطر المتصورة وعدم الإلمام بهذه التكنولوجيات. بالإضافة إلى ذلك، قد لا يمتلك الأفراد في المجتمعات ذات الدخل المنخفض الموارد المالية اللازمة للقيام باستثمارات مسبقة في الحلول المستدامة.

فالقيود المالية يمكن أن تعوق اعتماد حلول الاستدامة على نطاق واسع وتؤخر التقدم نحو تحقيق الأهداف البيئية، إذ إن التكاليف الأولية المرتفعة للتكنولوجيات المستدامة يمكن أن تمنع الأفراد والشركات من اعتمادها، حتى لو كانت توفر وفورات في التكاليف على المدى الطويل وفوائد بيئية. كما أن محدودية الوصول إلى رأس المال يمكن أن تمنع المجتمعات من تنفيذ مشروعات البنية التحتية المستدامة، مثل أنظمة الطاقة المتجددة والمباني الموفرة للطاقة.

ولمعالجة هذه الفجوة، يمكن للحكومات تنفيذ مجموعة من الاستراتيجيات، أبرزها ما يلي:

1- الحوافز والإعانات الحكومية: يمكن للحكومات أن تقدم حوافز مالية، مثل الإعفاءات الضريبية، والإعانات؛ لتقليل التكاليف الأولية للتكنولوجيات المستدامة وجعلها في متناول الأفراد والشركات.

2- آليات التمويل الأخضر: يمكن للحكومات أن تشجع تطوير آليات التمويل الأخضر، مثل القروض ذات الفائدة المنخفضة والسندات الخضراء، لتسهيل الاستثمارات في المشروعات المستدامة.

3- الشراكات بين القطاعين العام والخاص: أي إنشاء شراكات بين القطاعين العام والخاص لتقاسم المخاطر والموارد بين الحكومات وكيانات القطاع الخاص؛ مما يتيح تنفيذ مشروعات البنية التحتية المستدامة واسعة النطاق.

4- بناء القدرات ومحو الأمية المالية: قد توفر الحكومات والمنظمات برامج بناء القدرات ومحو الأمية المالية لتثقيف الأفراد والمجتمعات حول الفوائد المالية للممارسات المستدامة وخيارات التمويل المتاحة.

سد الفجوة:

على الرغم من اكتساب مفهوم الاستدامة أهمية عالمية، فإنه غالباً ما يختلف تصور الاستدامة بين البلدان الغنية والفقيرة، ويتشكل حسب الحقائق الاجتماعية والاقتصادية المتباينة، والأولويات البيئية، والسياقات التاريخية. إذ تميل الدول الغنية، التي تتميز بتنمية اقتصادية أعلى وكثافة سكانية منخفضة، للنظر إلى الاستدامة من خلال "عدسة بيئية"، إذ تعطي الأولوية لقضايا مثل التخفيف من تغير المناخ والحد من التلوث وتطوير الطاقة المتجددة. وينبع هذا التركيز من قدرتها على معالجة الاهتمامات البيئية المباشرة دون المساس باحتياجات التنمية الأساسية.

في المقابل، فإن البلدان الفقيرة، التي غالباً ما تتصارع مع الفقر وانعدام الأمن الغذائي والموارد المحدودة، تنظر إلى الاستدامة من خلال "عدسة التنمية"، وتعطي الأولوية لقضايا مثل القضاء على الفقر، وتحسين الرعاية الصحية، وتوسيع نطاق الوصول إلى الضروريات الأساسية مثل الطاقة والصرف الصحي. ويأتي هذا التركيز مدفوعاً بالحاجة المُلحة إلى تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة لضمان مستقبل أفضل لمواطنيها.

وغالباً ما تؤدي هذه التصورات المتناقضة إلى طرق مختلفة للاستدامة؛ فبينما تؤكد الدول الغنية ضرورة تغيير نمط الحياة الفردي والتقدم التكنولوجي، تركز الدول الفقيرة على تطوير البنية التحتية، وتخفيف حدة الفقر، والإدارة المستدامة للموارد. وعلى الرغم من هذه الاختلافات، ثمة اعتراف متزايد بالترابط بين تحديات الاستدامة العالمية، إذ تدرك الدول الغنية بشكل متزايد أن إجراءاتها البيئية لها عواقب بعيدة المدى على الدول الفقيرة، وخاصةً تلك التي تواجه تأثيرات تغير المناخ واستنزاف الموارد. وعلى نحو مماثل، تدرك البلدان الفقيرة أن التدهور البيئي وتغير المناخ يعرضان آفاق التنمية للخطر، ويعوقان قدرتها على تحقيق النمو المستدام والحد من الفقر.

ومن أجل سد فجوة الاستدامة، من الأهمية بمكان تعزيز التفاهم المتبادل والتعاون بين الدول الغنية والفقيرة. ويتعين على كلا الجانبين إدراك صحة وجهات نظر الطرف الآخر، وأن يعملا معاً من أجل تطوير حلول الاستدامة الشاملة التي تلبي الاحتياجات البيئية والتنموية.

مستقبل مستدام:

إن الرحلة نحو مستقبل مستدام تتطلب بذل جهود متضافرة من جانب الحكومات والشركات والأفراد، لمعالجة قضايا الوعي والقدرة على تحمل التكاليف والتخطيط طويل المدى. كما تتطلب نقلة نوعية في التعاون العالمي، إذ يتعين على الدول الغنية أن تقدم الدعم المالي والفني لنظيرتها النامية؛ لتمكينها من تبني ممارسات مستدامة دون المساس بأهدافها التنموية. وبوسع البلدان الفقيرة بدورها أن تسهم من خلال تبادل خبراتها في الإدارة المستدامة للموارد، والمعارف التقليدية، والمبادرات المجتمعية. ومن خلال العمل معاً، تستطيع البلدان الغنية والفقيرة التغلب على فجوة الاستدامة وخلق عالم أكثر إنصافاً ومرونة بيئية للجميع. 

ويتطلب الانتقال إلى مستقبل مستدام نهجاً شاملاً يوازن بين الحاجة إلى العمل الفوري، وأهداف الاستدامة الطويلة الأجل. ويتعين على الحكومات أن تنظر بعناية إلى الآثار القصيرة والطويلة الأجل، عند وضع وتنفيذ السياسات والبرامج. ففي الأمد القريب، تستطيع الحكومات التركيز على توفير الإعانة الفورية للمستهلكين، مثل خفض تكاليف الطاقة أو تقديم المساعدة المالية لتبني ممارسات مستدامة. ويمكن لهذه التدابير أن تساعد في تخفيف العبء المالي المباشر المرتبط بالاستدامة، وتشجيع الأفراد على اتخاذ الخطوات الأولى نحو أسلوب حياة أكثر خضرة. ولكن في الأمد البعيد، يتعين على الحكومات أن تعمل على وضع استراتيجيات شاملة لتعزيز التنمية المستدامة في مختلف القطاعات، بما في ذلك الطاقة والنقل والزراعة والبنية الأساسية. وينبغي لهذه الاستراتيجيات أن تأخذ في الاعتبار الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لمبادرات الاستدامة والتأكد من أن التحول عادل وشامل.