دوافع السياسة الخارجية الأمريكية.. القيم أم المصالح؟

16 July 2023


في عالم السياسة الخارجية الأمريكية، عادة تطرح أسئلة عديدة حول الدوافع التي تدعو الولايات المتحدة إلى تبني سياسات خارجية معينة دون غيرها؟ وما هي القيود أو المعايير التي تحكم هذه السياسات؟ وهل تصمد السياسات مع تغير الإدارات الرئاسية والتحول المستمر في الظروف؟

وتتعلق النقطة المحورية في الحديث عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بما إذا كانت تتأثر بمدى توافق الدول الأخرى مع "القيم" الأمريكية، والمقصود بذلك مبادئ الديمقراطية الليبرالية أو الاعتبارات الاقتصادية المرتبطة باقتصاد السوق، أم أن المحرك الأساسي لهذه السياسات الخارجية هي "المصالح" الأمريكية. وهل النهج القائم على "القيم" في سياسات الولايات المتحدة أكثر بروزاً في الإدارات الديمقراطية منه في الإدارات الجمهورية؟ أضف إلى ذلك أنه في جميع الأحوال لا يمكن التغاضي عن الدور الذي تؤديه العوامل الأمريكية المحلية في تشكيل السياسات الخارجية للولايات المتحدة، مما يزيد من تعقيد التحليل.

محددات وأولويات متغيرة

تتميز السياسات الأمريكية عامة بشفافيتها، وسرعة خطاها، وتركيزها بشكل أساسي على القضايا المحلية. وهو الأمر الذي يتجلى في دورة انتخابات الكونغرس الجزئية أو الكاملة التي تجري كل عامين، وتشهد تحولات جزئية أو كلية. ويلعب الإعلام  دوراً محورياً في هذا السياق خاصةً المرئي، في المشهد السياسي كبير. فعلى سبيل المثال، أدت التغطية الإعلامية لمشهد مقتل الجنود الأمريكيين في فيتنام في أواخر الستينيات، وكذلك التغطية الإعلامية للصعوبات الاقتصادية التي واجهتها الولايات المتحدة فور تحرير الكويت عام 1991، إلى عدم تجديد ولاية الرئيس الأمريكي.

وبينما تقوم الإدارات الرئاسية المختلفة بصياغة وتنفيذ السياسات الخارجية للولايات المتحدة، يتحكم مجلسا النواب والشيوخ في الميزانية ومن ثم يؤثران في العديد من قضايا الأمن القومي ومن منظور الناخب الأمريكي لاعتبارات انتخابية محلية.

ويمكن متابعة التحولات في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية عبر الإدارات الرئاسية المختلفة، حيث أظهر الجمهوري رونالد ريغان، اتجاهاً عدائياً  إزاء الاتحاد السوفيتي. بعد ذلك قام الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون بشكل سواء بزيادة التركيز على الإصلاح الاقتصادي. ثم تبنى الجمهوري جورج دبليو بوش، فكرة تغيير النظام والإصلاح الديمقراطي في التعامل مع دول الشرق الأوسط خلال فترة ولايته الأولى. ودعم الديمقراطي  باراك أوباما الترويج بشكل مؤسسي للديمقراطيات الليبرالية، وانما فعل ذلك ليس كبمادرا وانما كرد فعل تجاه الأحداث المحلية، ومرجحا المصالح على القيم اذا اضطر إلى الاختيار بينهما.

ودونالد ترامب، السياسي غير التقليدي، لم يتبنى حقا مبادئ أياً من الحزبين، ومارس سياسة تعاقدية قصيرة المدى دون الدخول أو التاثير في الجدل حول هذه البدائل، وشهدنا جو بيدن يبدأ حملته الانتخابية عام 2020 بالتركيز على الإصلاح والقيم ، ولكن سرعان ما جذبت مصالح الأمن القومي سياسته وصارت هي المسيطرة والمرجحة لتوجهات قراراته.

 لذلك لا يمكن لأي من الطرفين سواءً الجمهوري أو الديمقراطي الادعاء بأنه يروج حصرياً لسياسة خارجية أمريكية قائمة على "القيم". فكلاهما غض الطرف عن تطبيق هذه "القيم" عندما تعارضت مع المصالح الأمريكية، أو كان المنتهك المزعوم لها حليفاً للولايات المتحدة.

مراجعة شرق أوسطية

ولتسليط مزيد من الضوء عما إذا كانت "القيم" أم "المصالح القومية" هي التي تحدد  السياسات الأمريكية المستقبلية، لعلنا ننظر لعلاقاتها باقرب أصدقائها في المنطقة؛

1 - المغرب:

يقع المغرب على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي بالقرب من مضيق جبل طارق، وله روابط تاريخية مع الولايات المتحدة تعود إلى حرب الاستقلال الأمريكية، حين سمح السلطان محمد الثالث للسفن الأمريكية باستخدام الموانئ المغربية بموجب نفس الشروط التي مُنحت للدول التي لديها علاقات تعاهدية.

و اهتمت الولايات المتحدة  بضمان علاقات ودية مع دولة ذات موقع استراتيجي، وبخاصة خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. وكان تبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين حجر الزاوية في علاقتهما، بهدف تعزيز مصالحهما الأمنية المشتركة، وعززت ذلك معارضة المغرب القوية للتطرف، ولـ"القاعدة" على وجه الخصوص، حيث كان للبلدين هدف مشترك متمثل في مكافحة الإرهاب.

هذا واسهم  امتلاك المغرب لاحتياطيات ضخمة من مادة الفوسفات  في زيادة اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة. لأهميتها الاقتصادية والجيوسياسية الكبيرة، وظلت المصالح القومية على الدوام هي العامل الأساسي الذي يحدد كيفية تعامل الولايات المتحدة مع المغرب. فحتى قبل إدارة ترامب، ومع وجود خلافات بين البلدين حول كيفية التعامل مع "البوليساريو" في الصحراء الغربية، كانت المصالح القومية الشاملة للولايات المتحدة هي التي توجه قراراتها السياسية الخارجية وكيفية تعاملها مع المغرب.

2 - مصر:

 تتمتع مصر بموقع استراتيجي لوقوعها بالركن الشرقي لشمال إفريقيا مع امتداد شبه جزيرة سيناء في أراضيها بغرب آسيا، ولها أهمية جيوستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، فضلا عن وزنها السياسي أثناء الحرب الباردة،  في قيادة العمل العربي المشترك وقيادة عدم الانحياز. علاوة على ذلك كانت مصر محدداً مبادرا وقاطعاً للسلام والأمن والاستقرار بالمنطقة، خاصةً فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي منذ حرب 1973. وقد امتدت الجهود المشتركة بين البلدين لمجالات مختلفة، بما في ذلك تحرير الكويت، والحرب ضد الإرهاب، حيث تعمل مؤسسات الأمن والدفاع في كلا البلدين معاً بشكل وثيق، وأدت القيمة الاستراتيجية لقناة السويس بالأراضي المصرية إلى تعميق العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ومصر.

لقد شهد مسار العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر تأرجحاً بين الصعود والهبوط على مر السنين. والجدير بالذكر أنه كان هناك فترات خلال إدارة جورج دبليو بوش تم فيها التأكيد علناً على نهج "قائم على القيم"، متمثلاً في دعوات لإجراء إصلاحات سياسية في مصر، والتهديد بوضع مشروطية للمساعدات، غير أن المصالح القومية الأمريكية ساهمت في الحفاظ على تعاون الدولتين وتوسعها. وقد انتعش خطاب "قضايا الإصلاح والديمقراطية" مرة أخرى خلال رئاسة أوباما بعد الإطاحة بحسني مبارك عام 2011، وبلغ ذروته عام 2013، قبل أن ينحسر تدريجياً بعد عام 2014.

أما بالنسبة لخطاب الحملة الانتخابية لبايدن، الذي كان يروج للنهج السياسي المرتكز على "القيم"، فنجد أنه سرعان ما تراجع مع الأزمة الأولى بين إسرائيل وغزة، حين توسطت مصر لتهدئة التوتر المتصاعد. ومنذ ذلك الحين استقرت العلاقات بين مصر والإدارة الأمريكية الحالية، وشهدت تحسناً تدريجياً في العلاقات.

تكمن أقوى ركائز العلاقات الأمريكية المصرية على وجه التحديد، كما ذكرنا سابقاً، في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك نظراً لموقع مصر الجغرافي ولنفوذها السياسي. وتُعد مصر مهمة أيضاً فيما يتعلق بمصالح الأمن القومي الأمريكي على طول جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، وكذلك في شرق إفريقيا.

إذن فالمصالح الأمريكية هي المحدد الأساسي الذي يحكم ويوجه علاقات الولايات المتحدة بمصر. وقد تكون القيم المتضاربة في بعض الأحيان عاملاً مقيداً أو معقداً سياسياً في طبيعة العلاقات بين البلدين. ومع ذلك عادة ما تكون مثل هذه التوترات مؤقتة وتتفوق عليها في النهاية اعتبارات الأمن القومي الأمريكية.

3 - إسرائيل:

يُنظر لإسرائيل دائما على أنها أقوى حليف للولايات المتحدة بالشرق الأوسط، ويعزى ذلك إلى مفهوم "القيم المشتركة"، فضلاً عن أهمية إسرائيل بالنسبة للـ"الأمن القومي" لأمريكا.

هناك تعاون تكنولوجي كبير بين البلدين، وتدفق كبير للأسلحة المتقدمة خاصةً من الولايات المتحدة إلى إسرائيل. بالإضافة إلى أن هناك تبادلاً للمعلومات الاستخباراتية خاصةً فيما يتعلق بمنطقة الشام وإيران، وإنما لم تشارك إسرائيل في العمليات العسكرية الأمريكية داخل المنطقة العربية نظرا للحساسية السياسية. 

تردد الولايات المتحدة وإسرائيل في كثير من الأحيان أنهما ديمقراطيات ليبرالية ذات اقتصادات سوق. ومع ذلك فإن الإجراءات التي اقترحها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للحد من استقلال القضاء يراها النقاد دليلاً واضحاً على أن إسرائيل لم تعد تتمسك بمبادئ الديمقراطية الليبرالية كما كانت. ومن المهم أيضاً الاعتراف بأن إسرائيل قد احتلت الأراضي الفلسطينية واستمرت في توسيع مستوطناتها غير القانونية مما يُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، وهو تناقض صريح مع العمود الرئيسي للنظم الديمقراطية وهو احترام القانون.

يعود الدعم المستمر من أمريكا لإسرائيل، ليس فقط لكون إسرائيل حليف لأمريكا، وبينهما "قيم مشتركة" أو أنها تجد عندها ما يخدم أمنها القومي، بل يرجع إلى حد كبير إلى نجاح إسرائيل في توجيه النظام السياسي الأمريكي الداخلي. وانما يعتبر عدم  تلقي رئيس الوزراء الإسرائيلي دعوة  إلى زيارة واشنطن بعد تشكيل الحكومة الجديدة رسالة قوية وواضحة بوجود توترا بين البلدين بعد تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، وانعكس ذلك في تصريحات صريحة للرئيس بيدن مؤخرا.

4 - الأردن:

يحتل الأردن مكانة مهمة كحليف أساسي للولايات المتحدة في بلاد الشام. ويقوم التعاون بين البلدين على أساس السعي إلى خفض التصعيد في المنطقة ويشمل تعاوناً أمنياً كبيراً، وهناك اعتراف بمسؤوليات الأردن تجاه الأماكن المقدسة بالقدس، ودوره في استضافة اللاجئين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين.

ويبدو أن المصالح الأمريكية في الأردن تهدف بالمقام الأول إلى ضمان حدود إسرائيلية أردنية سلمية وآمنة، بالنظر إلى كون المملكة الهاشمية قوة معتدلة في المنطقة.

5 - الخليج:

التصنيف التقليدي لعلاقات الولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون الخليجي على أنها تُمثل معادلة "الأمن من أجل الطاقة"، كما ورد في نص التعبير عنها في معاهدة كارتر عام 1980، وتباين حجم المصالح وقوى الالتزامات الأمريكية من دولة خليجية إلى أخرى، اعتماداً على قدرة تلك الدولة في مجال الطاقة وتفاعلها مع المصادر المجاورة. وكان تحرير الكويت عام 1990 تجسيداً واضحاً لهذه العقيدة.

هناك أيضاً عوامل أخرى تؤدي دوراً مهماً في تحديد علاقات الولايات المتحدة بدول الخليج، مثل مدى التسهيلات العسكرية والتعاون العسكري الذي يمكن أن تمنحه كل دولة خليجية، فضلاً عن أن استعدادات كل دولة وقدرتها على التأثير في المنطقة تُعد عاملاً آخر مهماً من العوامل التي تحدد شكل وعلاقة هذه الدولة بالولايات المتحدة.

مع ظهور تكنولوجيا النفط الحجري، انخفض اعتماد أمريكا على الطاقة المستوردة من دول الخليج على الرغم من أن مصادر الطاقة بها لا تزال مؤثرة وبقوة في تسعير الطاقة العالمية. ولقد أدى انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى تقليص أهمية الشرق الأوسط في ذهن الولايات المتحدة. ومع ذلك فإن الأزمة الأوكرانية، واعتماد الصين المتزايد على نفط الخليج قد أعادا مرة أخرى الاهتمام بالمنطقة. وقد ألقت استضافة الصين للاتفاق السعودي الإيراني مزيداً من الضوء على العلاقات الإقليمية المتغيرة، والتي ستؤثر لا محالة في السياسات الأمريكية تجاه المنطقة.

لقد كانت المصالح والسياسات الأمريكية في منطقة الخليج العربي قائمة في جوهرها على السياسة الواقعية العملية ومصالح الأمن القومي. ولقد صارت زيارات قادة دول الخليج العربي إلى واشنطن أقل تواتراً، وإن كان الرئيس بايدن قد التقى أخيراً بقادة عرب في الخليج. فعلى الرغم من الظروف الصعبة والفريدة من نوعها والتي أدت إلى توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والعديد من أصدقائها الخليجيين الرئيسيين، فإن الوقت والمصالح المشتركة، ولاسيما الطاقة دفعت الأطراف إلى إعادة العلاقات فيما بينهم، ومحاولة تجنب تفاقمها.

يمكننا استخلاص أن السياسات الخارجية الأمريكية، وكذلك سياسات القوى الكبرى الأخرى مثل روسيا والصين، مدفوعة بشكل أساسي باعتبارات الأمن القومي الملموسة، والتي ستكون دائماً هي العامل الحاسم والمحدد لهذه السياسات.