الصراع السوداني بين الأثر الإقليمي والمَخرج الإصلاحي

30 April 2023


أصبحت الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي نشبت منذ منتصف إبريل 2023، مستوفية كل شروط الأزمات الدولية، سواءً كان ذلك يتعلق بالسودان أو الدول الإقليمية أو النظام الدولي ككل. فـ "الأزمة"، بحكم التعريف، تتضمن عناصر تهديد قيم ومصالح قومية عليا، واستخداماً للقوة المسلحة، واحتمالات التدخل الخارجي، وإمكانيات تغيير النظام السابق على نشوبها. وتصنع الأزمات فارقاً كبيراً بين ما كان قبلها من أوضاع، وما سوف يأتي بعدها من ترتيبات جديدة، في النظام الإقليمي، والنظام الدولي أيضاً، حسب حدتها. 

ويتوقف استمرار الأزمة أو تراجع حدتها، على نتيجة العمليات العسكرية الجارية، وعما إذا كان سوف يكون هناك يد عليا لأي من الطرفين في حسم الصراع وإعادته إلى طبيعته الداخلية في السودان، أو أن أياً منهما لن يكون قادراً على الحسم. ومن ثم تكون للأزمة تداعيات إقليمية ودولية حسب درجات تصاعد الأوضاع الداخلية بما فيها تدخلات الدول الخارجية. 

ويمكن الخروج بثلاث ملاحظات أساسية من متابعة الأيام الماضية من القتال في السودان؛ أولها أنه بالرغم من وجود بعض الشواهد ربما على تفوق الجيش السوداني، فإن قوات الدعم السريع لا تزال قائمة في الميدان خاصة في العاصمة الخرطوم. وثانيها أن كل محاولات وقف القتال لم تنجح حتى ما يتعلق بوقف القتال في الأيام الأخيرة من شهر رمضان أو بهدنة في عيد الفطر المبارك. وثالثها أن الدول الإقليمية الرئيسية ظلت على اتصالاتها مع طرفي الصراع على قدم المساواة، وكان همها الأول تأمين بعثاتها الدبلوماسية وإجلائها، وتأمين خروج رعاياها من السودان. وحدث نجاح في هذا الشأن خلال فترة قصيرة، مع تعاون ملموس بين القوى الدولية والإقليمية المختلفة في إنجاز هذه المهمة. 

تشريح الأزمة:

للوهلة الأولى، فإن نشوب الأزمة الحالية يكشف عن صراع مباشر بين الجيش السوداني وقيادته ممثلة في رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو "حميدتي". ويأتي هذا الصراع نتيجة الخلاف الظاهر بين الطرفين على منهج وتوقيت اندماج جانبي القدرات العسكرية السودانية في مؤسسة عسكرية واحدة حسب ما نص عليه الاتفاق الإطاري مع القوى المدنية؛ قوى الحرية والتغيير. فوجهة نظر الجانب الأول أن يتم اندماج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية خلال عامين، بينما وجهة نظر حميدتي أن تتم عملية الاندماج خلال 10 سنوات، وهو ما يعني أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه من انقسام عسكري لمدة عقد من الزمان يظل فيه جزء مهم من القدرات العسكرية السودانية مستقلاً دون وجود قيادة موحدة. وقد بدأت العمليات العسكرية التي يستهدف فيها كل طرف الآخر، فور فشل التفاوض بينهما، فيما بدا وكأنه صراع شخصي بين القائدين العسكريين على حكم السودان. 

وتشير النظرة الأكثر عمقاً إلى عدد من الأبعاد ذات الطبيعة الهيكلية في الدولة السودانية، وهي كالتالي:

1- البعد الأول له طبيعة تاريخية، حيث إنه منذ اختيار السودانيين الحر لقيام السودان المستقل، والبلاد تعاني من دورية التغييرات الحادة بين المكونين العسكري والمدني حسب التعبيرات السودانية، سواءً وصفت بالثورة أو الانقلاب. والحصاد في النهاية بعد عقود كان انقسام السودان بين شمالها وجنوبها في دولتين مستقلتين، كل منهما تعاني آلامها الخاصة. 

وجاءت آخر دورات التغيير مُبشرة بـ "ربيع سوداني" في ديسمبر 2018 مع موجة جديدة من "الربيع العربي" شملت العراق ولبنان والجزائر، وكان متصوراً أنها سوف تتعلم الكثير من الموجة الأولى، بحيث ترفض "الفاشية الدينية" وتؤكد على الدولة الوطنية المدنية والديمقراطية. وخرجت الجماهير والمليونيات، ودارت الحوارات والمناقشات والمشاركات والمناظرات. وانتهى الجمع السوداني بعد الإطاحة بنظام عمر البشير إلى مرحلة انتقالية لمدة 3 سنوات، بدأت بتكوين حكومة مدنية، والتفاوض مع العالم الخارجي من أجل التعامل مع الديون السودانية، فضلاً عن إقامة علاقات مع إسرائيل. ولكن أياً من ذلك لم يمنع تدهور الأوضاع الاقتصادية، ووفقاً لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة فإن أكثر من ثُلث سكان السودان باتوا يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي؛ بسبب عوامل منها الأزمات الاقتصادية والسياسية والصدمات المناخية والصراعات.  

2- البعد الثاني له علاقة بالدولة السودانية ذاتها، حيث يغيب إلى حد كبير "المكون السوداني" الذي يؤكد على الدولة الوطنية ذات الهوية المشتركة التي تعلو على الهويات الأخرى "الجهوية والقبلية" التي تقسم السودان إلى أقاليم، بات كل منها ينظر إلى العاصمة ونخبتها على أنها سبب للبلاء السياسي والاقتصادي. وحاصل جمع التدهور العام في الدولة ومؤسساتها، وغياب الهوية المشتركة، سوف يحدد عمقه إلى أين سوف يسير السودان، ومنها سوف يتأثر البعد الإقليمي بما يحدث في هذا البلد. 


انعكاسات إقليمية:

ثمة ثلاثة سيناريوهات أمام السودان سوف تكون حاكمة لعلاقات الإقليم ودوله به، ويمكن توضيحها في الآتي:

1- أن تنجح الأطراف الإقليمية والدولية في إقناع طرفي الصراع السوداني بوقف لإطلاق النار، وتطبيق الاتفاق الإطاري لعقد الانتخابات العامة، وعودة الاستقرار إلى السودان مرة أخرى في إطار مدني، ومن ثم سوف تكون علاقاته الإقليمية تركز على السلام والأمن الإقليمي، وفي كلاهما التنمية المستدامة. وهنا إلى حد كبير سوف ينحو السودان إلى اتجاه مسيرة العراق الأخيرة، حيث تتفق الأطراف على استبعاد أكثر العناصر تطرفاً، والتركيز على تعديلات سياسية واقتصادية تكفل المزيد من فاعلية الدولة. 

2- ألا يحدث هذا النجاح، ولكن يستمر الصراع السوداني، ومعه يزداد تورط القوى الدولية وفقاً للاستقطاب الحالي بين روسيا والولايات المتحدة والصين. وكذلك من المرجح أن تمد هذه القوى الأطراف المؤيدة لها بالسلاح والمعونات حتى يبلغ العنف مبلغه، فيصير السودان مثل الصومال عُرضة لعمليات انفصال أو اجتزاء جديدة تحت سلطات مختلفة. 

3- احتمالية حدوث السيناريو الإثيوبي، حيث يختلط الصراع الداخلي مع التيغراي والأورومو والأمهرة، والخارجي مع مصر والسودان وكينيا، مع محاولات لتقوية السلطة المركزية بوسائل سياسية واستراتيجية دولية. ووفق هذا السيناريو، فإن السودان، مثل إثيوبيا، لن يبتعد كثيراً عن صناعة مشكلات إقليمية مع جواره، فضلاً عن الاحتمالات الكبرى لخروج موجات كبيرة من الهجرة إلى جيرانه. 

ولكن تهديد "الهجرات الكثيفة" لن يكون وحده مصدر القلق بين القوى الإقليمية المختلفة، سواءً كانت عربية أو إفريقية، وإنما أكثر من ذلك أن السودان ذو الاتساع الجغرافي الكبير سوف ينضم إلى مساحات واسعة من الاضطرابات في إثيوبيا والصومال والقرن الإفريقي في عمومه، وكذلك الحدود مع مثلث الاضطراب السوداني التشادي الليبي؛ حيث الأوضاع السياسية مضطربة، والأوضاع الاقتصادية متدهورة. 

في كل الأحوال، فإن انهيار السودان سوف يؤدي إلى زيادة كبيرة في مساحة "المعمور الإرهابي" الذي يشكل مجالاً جاذباً للقرصنة والعنف والإرهاب، ومن ثم تدخلات القوى الدولية. كما أن تفاقم هذه الحالة من التهديد الذي يتعرض له إقليم البحر الأحمر، لا يمكن تجاهلها أو تركها للانهيار. لذلك خلال الأزمة الراهنة، فإن دولاً مثل السعودية والإمارات ومصر تدخلت من أجل محاولة وقف إطلاق النار في السودان، ثم بعد ذلك الإسهام في عمليات إجلاء البعثات الدبلوماسية والرعايا. 

الخيار "الإصلاحي":

إن الزلزال السوداني الحالي ليس جديداً على المنطقة، وعندما جرى "الزلزال الأعظم" في مطلع ونهاية العقد الماضي فيما سُمي "الربيع العربي" نجم عنه نموذجين للدولة العربية، أولهما لا يختلف كثيراً عن الحالة الراهنة في السودان، حيث تمتزج الصدامات المسلحة مع التفكيك العرقي، والمراوحة بين العنف ووقف إطلاق النار، والوصول إلى اختلال مواتٍ لأطماع دولية لم تكن بالضرورة تخطط للواقع الذي تراه، ولكنها تجد فرصاً لا بأس من انتهازها. وثانيهما أفاقته الصدمة إلى ما كان في الماضي من أخطاء وطرق مسدودة، وإلى حقيقة أن المستقبل لا بد وأن يكون مختلفاً عن كل ما سبق. وظهرت "الدولة العربية الإصلاحية" القائمة على الدولة الوطنية والتنمية المستدامة؛ من خلال رؤية تضع الهدف، وترصد الطريق، مع تجديد الفكر الديني والمدني في اتجاهات المعاصرة والمنافسة والسباق السلمي مع العالم في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والإبداع والابتكار. والحقيقة أنه لا يوجد خيار ثالث بين النموذجين، والفارق بينهما في النظر إلى الأزمة السودانية الراهنة هو أن النموذج الثاني "الإصلاحي" لديه المرجعية التي يمكن من خلالها الاقتراب من حل المسألة السودانية، وليس مجرد تضميد جراحها مؤقتاً ومنعها من نزيف آخر. 

وهذه المسألة لن تكون سهلة، فالحالة السودانية الراهنة نجمت عن موجة جديدة من "الثورات"، ساد الظن أنها ربما تكون قد تعلمت من أخطاء ومآسي الموجة الأولى، ولكنها منذ اللحظة الأولى وبعد التخلص من نظام البشير قامت على فرضية التقسيم بين المكونات العسكرية والمدنية، وليس الانتماء إلى دولة واحدة ووطن واحد. ومن ثم، فـ "الدول الإقليمية الإصلاحية" أمامها مهمة بالغة الصعوبة.