مسار العلاقات العربية – الصينية بعد قمم الرياض

12 December 2022


بات من الواضح بعد القمم الثلاث التي عقدتها الصين مع كل من المملكة العربية السعودية، ومع دول مجلس التعاون الخليجي، ثم مع قادة الدول العربية، خلال زيارة الرئيس شي جي بينغ إلى الرياض، في الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر 2022، أننا بصدد نقلة تاريخية ونوعية في مستقبل العلاقات العربية - الصينية.

ليس فقط أن الدول العربية ستكون لديها مساحة أكبر من الحركة في سياساتها الخارجية، وفي حصولها على دعم في قضاياها السياسية، مثل القضية الفلسطينية التي تتوافق الرؤية الصينية فيها مع الطرح العربي في حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه، بل ستكون أيضاً لدى العرب قدرة أكبر على تكوين شراكات تعاونية واستراتيجية مع الدول الكبرى لخدمة أمنهم واستقرارهم، وتحقيق ازدهار تنموي لبعض الدول العربية التي عانت اقتصاداتها تداعيات جائحة كورونا ثم الحرب الروسية – الأوكرانية الجارية.

وبالتالي بدا واضحاً من علاقات الدول العربية مع القوى الدولية في الفترة الأخيرة أن ثمة إصراراً من هذه الدول على تنويع شبكة علاقاتها الخارجية، لا سيما مع القوى الكبرى، ووضع "جدول أعمال" جديد في هذه العلاقات أساسه تحقيق المصالح الوطنية لهذه الدول.

ثمار "دبلوماسية السلحفاة":

منذ نحو عقدين من الزمن، حدث تحرك في علاقات الدول العربية وبكين عندما عُقدت أول شراكة صينية - عربية "المنتدى الصيني - العربي" في عام 2004، وكان يتم هذا التحرك ببطء في هذه العلاقات، وتنوعت طبيعتها، ووصلت مثلاً مع دولة الإمارات إلى أن تكون استراتيجية بعدما خص الرئيس الصيني الدولة بزيارة تاريخية في عام 2018. 

وكان يُؤخذ على العلاقات العربية - الصينية أنها لم تكن تشمل تحولات عميقة في الجوانب السياسية والأمنية؛ نتيجة للاستراتيجية الصينية الراغبة في أن تكون "صديقة للجميع"، لأنها لا تريد أن تخسر أحداً، وكان أبرز مثال على ذلك موقفها من التدخلات الإيرانية في الشأن العربي، حيث لم تكن بكين تُبدي أي موقف ضد طهران. بيد أن قمم الرياض الأخيرة أكدت أن مسألة التحركات العربية في الموازنة في علاقاتها الدولية ليست محل تشكيك أو تخمين، وإنما هي استراتيجية قابلة للتطبيق.

وأبرز ملاحظة يمكن أن يخرج بها المراقب السياسي من زيارة الرئيس شي للرياض، هي أن جمهورية الصين الشعبية لم تعد تجد صعوبة في توطيد علاقاتها الاستراتيجية مع الدول العربية ككتلة موحدة، حيث مهدت لها منذ انتهاء الحرب الباردة في بداية تسعينيات القرن الماضي. كما أن التحركات الصينية تجاه العرب منذ عام 2004 عندما دشنت "المنتدى الصيني – العربي" ومعه اتفاقية التعاون الاقتصادي الصيني - الخليجي في العام نفسه، وما تبعها من اتفاقيات ثنائية، إلى أن جاءت الاتفاقية الصينية - العربية في عام 2010، ثم تلاحق المشروعات الاستراتيجية الصينية في عدد من الدول العربية وتحديداً في البنية التحتية، ومنها على سبيل المثال ميناء الوسط في الجزائر، ومحطة الكهرباء في ولاية صحار في سلطنة عُمان، وكذلك الاستثمارات اللوجستية في ميناء خليفة بدولة الإمارات؛ فهذه وغيرها من الخطوات والاتفاقيات أكدت أن الصين تسير بخطوات بطيئة مثمرة في تطبيق "دبلوماسية السلحفاء" نحو التوسع في علاقاتها الخارجية مع الدول العربية، خاصةً دول مجلس التعاون الخليجي.

ملامح جديدة للعلاقات:

جسدت القمة العربية – الصينية الأولى في مدينة الرياض، الرغبة المشتركة في التعاون الاستراتيجي بين الطرفين. ففي الوقت الذي ترغب فيه الصين في الاستفادة من "اللحظة التاريخية" المبنية من حالة الغضب العربي من الحليف الأمريكي وتحديداً خلال إدارة الرئيس جو بايدن الساعي نحو التخلي عن الثوابت الأساسية في العلاقات الاستراتيجية القائمة على الحفاظ على أمن المنطقة مقابل الطاقة، وذلك إما بالتقليل من أهمية الشرق الأوسط أو من خلال السعي لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران؛ فإن الدول العربية تعتقد أنها عانت القطبية الأُحادية، وبالتالي فإن الاستفادة من صعود قوى دولية جديدة في الساحة العالمية من شأنه خلق التوازن المفيد لهذه الدول في علاقاتها مع النظام الدولي الذي طالما كان يحاول السيطرة على القرار العربي في خدمة ملفاته الدولية.

لذا بعد انعقاد القمة العربية – الصينية، علينا أن نستعد لمشاهدة زخم كبير وفاعل في الملفات السياسية والأمنية الخاصة بالعرب، كما علينا أن ننتظر رد فعل منزعج وقلق من إيران، وكذلك من الولايات المتحدة التي لن تقبل بوجود قوى دولية جديدة منافسة لها في منطقة الشرق الأوسط. فالصراع بين واشنطن وطهران فيه نوع من التفاهم المُبطن حول مستقبل المنطقة يخصهما بعيداً عن الرؤية الخليجية، ويتم تحريك هذا الملف وفق حالة التفاهم والاختلاف بينهما، وهو ما أحدث توتراً في العلاقات الخليجية – الأمريكية خلال السنوات الماضية. 

كما علينا أن نستعد لمشاهدة زخم كبير في العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين والدول العربية، خاصةً أن هناك ثقلاً سياسياً عربياً متمثلاً في الخليج لتغيير الحال السياسي العربي ليكون أكثر نشاطاً وفعالية على الساحة الدولية. وقد بدأت ملامح هذا المشهد تتضح أكثر مع مرور الوقت، فالعمل العربي بدا أكثر تنسيقاً وتنظيماً مقارنة مع الفترة من عام 2011 إلى فترة ما قمة العُلا في يناير 2021. 

وبالتالي نجحت الصين من خلال سياسة "النفس الطويل" في تحقيق أهدافها، وأحرزت تقدماً استراتيجياً على أرض الواقع خلال لحظة تاريخية ربما يُعاد فيها تشكيل هيكل النظام الدولي، حيث بدأت تستنزف نفوذ الحليف التقليدي لدول المنطقة (الولايات المتحدة)، وبعثرت الأوراق التي كان يُعتقد أنها لن تتحرك في المجالات السياسية والاقتصادية، بل ووسعتها لتشمل قضايا أخرى ضمن أولويات الدول العربية في الوقت الحالي، مثل قضية المناخ التي بدأت تمثل أولوية للدول العربية خاصةً بعد استضافة مصر للقمة المناخية (كوب 27)، واستعداد دولة الإمارات لاستضافة القمة القادمة (كوب 28) في عام 2023. وربما في المرحلة اللاحقة، تتم خطوات تعاونية أكبر بين الصين والدول العربية، مما يجعل الحلفاء التقليديين عاجزين عن إعادة علاقتهم مع المنطقة إلى ما كانت عليه سابقاً، بالرغم من أن البيان الختامي للقمة العربية - الصينية أكد على أهمية استمرار التعاون مع الولايات المتحدة.

المحدد الأمريكي:

بلا شك، ستظل العلاقات العربية - الأمريكية متشابكة ومتواصلة، لأن فيها الكثير من التفاصيل المُعقدة، لكن الواضح أن دول الخليج وباقي الدول العربية أصبح لها حضورها المؤثر في العلاقات مع الدول الكبرى. ومن اليقين أن العلاقات العربية – الصينية ستحتاج إلى وقت طويل لإحداث النقلة النوعية؛ وذلك لأسباب موضوعية متعلقة بمكانة الولايات المتحدة، فهي الدولة الأولى اقتصادياً في العالم وكذلك من ناحية السيطرة على النفوذ الدولي. ولكن ما حدث في قمم الرياض خلال ديسمبر 2022 سيؤدي إلى تسارع وزيادة تقارب بين الطرفين العربي والصيني. 

ومن المتوقع أن يكون هناك تنسيق أكثر بين العرب وبكين في المواقف السياسية، مقارنةً بما كان عليه في السابق. أما مسألة الاصطفافات السياسية التي تريدها الولايات المتحدة من الدول العربية، والخليجية تحديداً، لم يعد لها مكان بعد قمم الرياض الأخيرة، لأنها عديمة الفائدة للشعوب، ولا تخدم حالة الاستقرار في المنطقة والعالم.